ادب وفن

لو عندي (مكَوار)! / مزهر بن مدلول

كان ذلك عصر يوم حار، حين عزمتُ، ان انام هذه الليلة على (فراشٍ وثير)!، لم اخطط ولم يرد في مخيلتي مكان معين اتجه له، ورغم علمي بأنّ امنياتي وواقع الحال يقفان دائما على طرفي نقيض، لكن فكرة ان انام في (فراش ناعم)، راحت تتردد في ذهني بألحاح، حتى اوشكتْ ان تكون تحدياً!، اما السبب الذي جعل تلك الامنية تقفز لكي تصبح في المقدمة، فأنه الحنين الذي ملأ قلبي كله، حنينً طاغٍ الى الحياة المألوفة، حاجتي الملحة الى الانتماء، الى ذلك النور الذي تركه وجه امي في ذاكرتي، وكنتُ اعود اليه مطمئنا ضاحكا كطفلٍ خالٍ من الهموم.
بدأ النهار يضمحل شيئا فشيئا، قليل من الوقت وتنهمر العتمة، وكلما نظرت الى الشمس وهي تختفي عن الانظار الى ماوراء الشفق الاحمر، يراودني شعور بأنها ستغيب الى الابد، اما عاصمة (العباسيين)، فرغم سحرها ومفاجآتها الجميلة، الاّ أنها تتحول في الليل الى سلسلة طويلة من اليأس والقلق بالنسبة لي.
اخاف من الظلمة، منذ صغري وانا اخاف من الظلمة، ربما نحن الذين عشنا في الارياف وترعرعنا بأحضان الشمس، نخشى الليل ونعتبره مسكوناً بالاشباح اكثر من غيرنا، لقد ترسخت في رؤوسنا حكايات (الكبار) عن (الكائنات الماورائية)، التي يقولون: انها تستشرس في الظلام وتهرب من النور، لذلك اخاف من الليل.
نال من جسدي التعب والعفَن بعد طول تطواف في الشوارع والساحات الخلفية!، منذ مدة طويلة والماء الساخن لم يلامس جسدي!، حتى غاب عن ذاكرتي (الطشت والليفة وصابونة الركَي)!، ايام عديدة امضيتها بين الاحراش والاماكن المخصصة للنفايات وهياكل السيارات المعدومة، ولطالما قادتني خطواتي الى مكان اكتشفته بالصدفة ونمت فيه ليالٍ كثيرة، مجموعة متشابكة من الاشجار والاشواك تقع في وسط ارض واسعة، كنت اقطعها لزيارة ابن اختي (عدنان) الذي كان طالبا في (مدرسة للشرطة العسكرية)، هذه المدرسة إن لم تخذلني ذاكرتي تقع على تخوم مدينة الثورة، لكني لست متاكدأ تماما من ذلك، وفي كل الاحوال، كنت اذهب الى (ابن اختي) بعد ان ينتهي دوامه الرسمي، انتظر في باب المدرسة بعد ان اخبر الحرس بأني خال (عدنان)، فيضحك الحرس من كلامي لأنّ (عدنان) لايصغرني الاّ بقليل فكيف اكون خاله!، ثم يأتي (ابن اختي) يحمل معه كيسا فيه (صمونة او صمونتان) وجبتي لهذه الليلة، نجلس في الظلال، نتذكر ايام الفرح في قريتنا، نمزح ونضحك، وما ان يهبط الظلام، اتركه واعود الى هذه البقعة لأنام فيها.
عندما عمّ الليل وسكتت المدينة، شعرتُ بالانطفاء، ضاقت مساحة تفاؤلي الى اصغر نقطة في السراب، بغداد كلها تحولت الى دائرة ضيقة لاتتسع الاّ لجنود الانضباط العسكري ومخابرات النظام الذين انغرست في نفوسهم شهوة القتل!، حزن شديد غمر روحي، نداء استغاثة يخرج من صدري على شكل انّات موجعة، لا احد يدري بتلك المعاناة الرهيبة، بذلك الضياع النفسي الساخط، فقط امي، امي وحدها تعرف بأني نزلت الى هوة الألم، تعرف ذلك بالارتباط الذهني الذي بينها وبيني، ولذلك، ومن اجلها، لااريد ان اقطع صلتي بالماضي ولا بالأمل.
بدأتْ الخمرة تؤجج المواقد، راحتْ الكؤوس تلعب برأسي المتعب من قلة النوم، تلاشت فكرة (الفراش الوثير)، ولم تعد لها اهمية امام هذا التدفق الهائل للأحزان، مرّ من امامي الماضي القريب بأسراره الجميلة، مرّ وجه (الحبيبة) التي لم أيأس من اللقاء بها مرة اخرى، تمازجت الكثير من الصور في ذهني، وجوه وامكنة لايمكن ان انساها، خطر لي ذلك (الطيف) الذي مازلت اتبعه في سواد الليل، ذلك (الطيف) الذي يخاطب الغرائز!، هو علة وجودي وضوء هواي وكلّ غايتي حتى تأذن الساعة!، شعرت برجفة في جسدي، نضح وجهي، شعرت بأنيّ وصلت الى نقطة التقاطع، فقمت من مقعدي ورفعتُ قبضتي وصحت بأعلى صوتي مخاطبا الزبائن:
(في اوّلِ ايارٍ، دخلتُ السجن الرسمي
وسجلني الضباط الملكيون شيوعيا....)
كان (سعدي يوسف) في ذلك الوقت، يتربع على عرش قلوبنا، وكنت اظن ان زبائن البار كلهم من طائفتي، لكني، وبدلا من ان (تتبعني سخرية الحاكم)!، تعرضت الى سخرية الرواد وقسوتهم!، هؤلاء لايعرفون (الاخضر ابن يوسف)، ولا يعنيهم ان تطير الحمامات او لا تطير!، يتطلعون في وجهي على اني مجرد رجل (سكران)!، انهم تعودوا على سماع الشعر الرديء!، فشعرت بالغضب والخزي في آن معا، فشل ذريع وهزيمة كبرى لحقتني في تلك الليلة!، فرفعت كأسي ورشقت بما تبقى في قعره طاولة يحتلها اربعة رجال زادت سخريتهم عن الحدود!، ثم اندفعت نحو الباب خارجا من البار.
قبل ان اضع قدمي على رصيف الشارع، رايت الرجال الاربعة وقد سبقوني!، احاطوا بي من كل الجهات، لم يكُ ذلك في حسابي، لااعرف ان هؤلاء لايحترمون لحظة انتعاش المزاج!، تحسستُ جيوبي فوجدتني اعزلا، وابتدأت جولة (البوكسات)، كانت متقنة، ومن خلالها اكتشفت مكامن ضعفي، فانا لااجيد استخدام قبضتي، ولم اتمرن على ذلك ابدا، لقد تعلمت في قريتنا على استخدام (المكَوار)، لو عندي (مكَوار) في تلك الليلة، لما تمكنوا مني!.. لو عندي (مكًوار)، لما جعلتهم يتركوني مهدود القوى وعاجزا عن فعل اي شيء!.. لو عندي (مكَوار)!!..
امشي مترنحا تارة، ومتماسكا اخرى، واردد: لو عندي (مكَوار)!، ولم اتوقف عن ذلك الهذيان المتصل!، الى ان وجدت نفسي وجها لوجه مع الشاعر (الرصافي)!، (صفنت صفنة طويلة)!، ابتسمت له، تأملت هيبته الشعرية، وقفت مشدوها امام انتظاره الطويل!، ارتعشت شفتاي، وهمست له بالهزيمة، طلبت منه ان يرحل، ان يتنكر بهيئة اخرى ويرحل!، قلت له: اذهب.. فقد (ذهب الزمان وضوءه العطرُ).. اذهب.. فأنّ بغداد مغمورة بالظلام ولم تعد (مملكة الاعراس ولا يغسل وجهها القمرُ)!.. اذهب ايها الشاعر.. اذهب.. فأنا سأذهب غدا ايضا، لن ابقَ في المدينة التي فيها (كلّ عن المعنى الصحيح محرف)!..
كان تنفسي ثقيلا، وعيناي زائغتين، ابحثُ عن سياجٍ طينيٍ اقرفص خلفه، عن حفرة انتظر فيها النهار لكي ارحل، وصلت الى زقاق في شارع الرشيد، توقفت في الركن الذي كانت تجلس فيه امراة عجوز اثناء ساعات النهار وتبيع الباذنجان المقلي والصمون الى فقراء بغداد، رفعت رأسي فشاهدت لوحة مكتوب عليها (فندق دنيا)، تذكرت، فقد قيل لي مرة، ان صاحب الفندق من اهالي (ناحية النصر) في الناصرية، انه (الحاج جلال حميدي عبدالله)، اعرف ابنه (سامي)، واقاربهم (عدنان نصار، ويوسف عباس، وصادق جعفر) جميعهم من اصدقائي.
عادت لي الروح، بات (الفراش الوثير) أدنى من قاب قوسين!، طرقت الباب.. طرقت وطرقت وطرقت، حتى جاء (سامي) يغالبه النعاس، اخذني الى سطح الفندق.. نسيمٌ بارد، وسريرٌ في حضنه تتراقص النجوم، ووسادةٌ ناعمة كالجدائل، وقبل ان اغفو، شكرت السماء على كلّ شيء، فقط، لو عندي (مكَوار)!.