ادب وفن

ابن فضل** / عبد الكريم كاصد

إلى رفعت السعيد

تنحني الأمهاتُ على البحر،
يرحلن بين رجال التراحيل دون منازلَ،
يرفعن أطفالهنّ من الأرض ..
يبكين في واجهات العمارات
والأمهاتْ
شجرٌ يدخل البرلمان أكاليلَ مضفورةً أو مقاعدْ
شجرٌ يرتمي في حوانيتِ مصر توابيتَ..
أو يرتمي خشباً للجرائدْ
غير أنّ ابنَ فضلٍ من الشجر الميْت يصنع للأمهات موائدْ
وأراجيحَ منقوشة
يا صديقيَ عبدالكريم أشمّ بأشجار أرضيَ رائحة الأمهات
ويرحلْ
حاملاً في يديهِ تجاعيدِ تربةِ مصر
مودعاً في المحطات أحزانَ مصر

*

مصرُ لافتةٌ في الحدود
مصرُ ضائعةٌ في وجوهِ الجنود
مصرُ في صفحاتِ الجرائد
صورةٌ مسحتها يدُ المخبرين
صورة لسجين
يهبطُ الشارع الجانبيّ ويصعدُ مستعجلاً في الترام
يطالعهُ وجههُ في المقاعد
دون عينين خائفتين
(أبيضُ كالثلج شعرُ ابن فضلٍ
وكأزهار القطن في مصر
وحين يسقط الثلج في موسكو يفتح نافذته وراحتيه
ويشمّ نشارةَ الخشب)

تستفيقُ الوجوهَ البعيدة خلف النوافذ صامتة
لا ترى الثلجَ والراحتين
تتحدّث صامتة
ثمّ تمضي
ويمضي
يهبطُ المصعدَ الكهربائيّ
ينظرُ تمثالُ بوشكين
يوقفه عاملٌ في المساء
مصرُ مثل اسمك الآن تسقطُ من صفحةٍ في الهوية رقمين
تلبسُ أسماءَهم
أنتَ لستَ السجين، وسجّانك الآن يلبس أردية السجناء
من ترى يُسقطُ الأرض عن وجههِ؟
ينزعُ الأرضَ كالجلد عن وجههِ؟
ينظرُ العابرون
ويسكنُ كالطير في وجهه الآن منتفضاً وجهُ مصرْ
مصرُ يحملها عابرٌ في المحطات
يهمسُها في ضجيج القطارات
في مسمع الأمهات
على كفّ طفلٍ توقّف
يكتبُ مصر..
ويمحونها في البيانات
يرسمها في الخريطة جندُ المظلاّت
يرسمها في الجواز رجالُ الجوازات
لكنّ مصرَ هناك على اللوح في حُجُراتِ المدارس يرسمها بالطباشير أطفالُها
ويجيئونها شجراً طالعاً

*

- يضربُ عمّالُ البحرْ
- يحملُ عشرةَ مسجونين قطارُ الظهرْ
- عشرُ جنازاتٍ تحملها عرباتُ الظهر
- إضرابٌ في الوجه البحريّ
- وجهُ بهيةَ مذبوح بين وجوه الفلاّحين ووجهِ الدركيّ
- سعدٌ ليس بمصرْ
- سعدٌ يلبس جلبابَ الفلاحين وقبعةَ القنصلْ
- مصرُ رداء
يلبسها صدقي باشا
يخلعها صدقي باشا
ويمزّقُ مصرَ على أجساد العارين،
على جسد ابن الفضل
يرفع مصرَ جوازاً مختوماً في وجه ابن الفضلْ

ينثني للرحيل ابنُ فضل
حاملاً في يديه تجاعيدَ تربةِ مصر
حاملاً في يديهِ المجعّدتين سلاماً
وباقاتِ زهرْ
- يا صديقيَ عبدالكريم
وطني كالكتاب
وطني يا صديقيَ لن يقرأوه
(في وطني يا ابنَ فضل
الكتاب ملطّخٌ بالدم
والوطنُ ملطخ بالدّم في الكتاب
والأيدي ملطّخة بالدّم وتلمع في الليل
وحين ينبجسُ دمُ كتاب ينبجس دمُ إنسان
وتنتحبُ الأرضُ مثل امرأة
حطباً..
حطباً..
حطباً..
وليطفئوا بالدّم الحريق

وفي مقاهي (سان ميشيل) لم أنتظرك ولم أودّعك
كنت مشنوقاً ، كتاباً يبكي
ولا يقرأه المارّة
كنتُ أعرفُ أنّ البحرَ لا ينتظرك
كنت ُأعرفُ أنك تنتظر البحر
والمراكبُ صامتةٌ..)

والمراكبُ صاخبةٌ في المواني
والملفاتُ تبحرُ والصورُ الجانبية مثل المراكبْ
يفتحون الحقائبَ والأرض تُغلقُ مثل الحقائبْ
منْ ترى يفتحُ الأرضَ للبحر..؟
يحرق في نارها القرمطيةِ هذي المراكبْ
منْ ترى يرفعُ النارَ عالية في المراكبْ؟

*

يندفعُ المسافرون
ويهبطُ الأطفالُ والحقائبُ المسافرهْ
ومصرُ ترتمي على الرصيف راحتين
مصرُ ترتمي على المياه راحتين
ترتمي على المياه خشباً يعبرهُ المسافرون
مصرُ على الرصيف ظلّ
على المياه ظلّ
وفوق سطح الباخرهْ
وجهٌ لإبن فضلْ
ويصعدُ المسافرون
يهبطُ المسافرون
ووجههُ المسافرُ الوحيد
وجههُ المنتظرُ الوحيد

*

ينفتح الماء
عن جسدٍ
تنفتحُ الأرض
عن جسدٍ
جسدُ ابن الفضل رهانٌ بين الماء وبين الأرضْ
جسدُ ابن الفضل الأرضْ
الجهةُ الشرقيةُ من ضلعكِ يا مصر
حيث كمينُ الفقراء

*

ها هو الآن يهبطُ في الشارع الجانبيّ
ويسكنُ صورتهُ في الجرائد
ها هو الآن يهجرُ صورتهُ في الجرائد
ويهبطُ في الشارع الجانبيّ..
يلاحقهُ المخبرون
ها هو الآن يهبطُ ُدون جواز ويسكنُ كلّ السجون
ها هو الآن يقتحم البرلمان,,
وتتركُ فوق المقاعدْ
أصابعُهُ البصمات
ها هو الآن يسقط في قبضةِ الشُرُطيّ..
ملفّاً
ووجهاً لعائدْ
يملأ الطرقاتْ

*

أرضُ مصرَ الكبيرةُ كالأرض
تعبرها الريح والفقراء
أرضُ مصرَ الكبيرةُ كالأرض
لا يبذر الفقراء
فوقها الريحَ، والريحُ لا تحملُ الفقراء
أرض مصر الكبيرة كالأرض
كالفقراء..
سلامٌ..
سلامٌ..
سلامٌ..
وظلّ
ووجهٌ صغيرٌ يجئ مع الليل
والشمس.. كالأرض
وجهٌ صغيرٌ
كوجه ابن فضل

**عبدالرحمن بن فضل نجّار مصري من روّاد الحركة الاشتراكية في مصر. عاش في موسكو عشر سنوات. اسقطت عنه الجنسية المصرية في عهد حكومة صدقي باشا. عاد إلى مصر سنة 1936 مجبراً حكومة صدقي باشا على تعديل قانون الجنسية.
يروي الدكتور رفعت السعيد في كتابه (اليسار المصري) أنّ ابن فضل استقلّ الباخرة من ميناء بيريه في اليونان وميناء الإسكندرية عشرات المرات دون أن يسمحوا له بالنزول.