ادب وفن

مظفر النواب رائد حركة الحداثة والتجديد / لفته عبد النبي الخزرجي

شهد الشعر العراقي وبعد منتصف القرن العشرين... حضورا متميزا.. ولافتا.. من خلال ما شهدته الساحة الشعرية العراقية من إرهاصات تبشر بحركة جديدة تتناول بنية البيت الشعري التقليدي... وإستطاعت ان تضع بصمتها العراقية ألإبداعية.. فكان السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف وغيرهم الذين نسجوا طريقا جديدا في ألإبداع.
وفي هذا الجو المتألق بالتجديد.. كان النواب يضع اللمسات ألأخيرة لرائعته ألمتوهجة إبداعا "للريل وحمد " والتي كانت مفتاحا وإنطلاقا لحركة شعرية تترسم خطى النواب.. فأصبح الطريق معبدا امام الشعر الشعبي العراقي.. وتناسل الشعراء. وهم ينطلقون من معطف النواب رائد حركة الحداثة والتجديد.
في اعداد سابقة من جريدتنا الغراء " طريق الشعب " تناول عدد من الباحثين والمهتمين بألأدب الشعبي.. رائعة النواب " للريل وحمد " و تحاوروا مع مفرداتها. وأسهبوا في ذلك.
إن مظفر النواب وهو يكتب او في ألأصح وهو ينحت مفردات " للريل وحمد " تلك القصيدة التي تعتبر لوحة فنية خالدة وملحمة شعرية شعبية.وسمفونية رائعة، ونتاجا إبداعيا متميزا. قد رسمت الطريق رحبا..وفتحت ألآفاق الجديدة امام الأجيال الشعرية الشابة. ليغذوا السير على نهج النواب ولينهلوا من ينابيعه الثرة. وليترسموا خطاه..في نحت المفردة الشعبية وإختيار العبارات ذات المدلول الشعبي المعبر... والتي تنطق بالمعاناة وتزخر بالموروث الشعبي.. وتغرف من الكنوز الملونه بالحزن والهم والحرمان.
ياريل صيح بقهر...صيحة عشگ ياريل
هودر هواهم ولك... حدر السنابل گطه
حتى الحب كان حزنا... لان طريق الحب في بلادنا.. مزروعة بالشوك والعصي الغليظة... والحزن رفيق لمن يسلك هذه الدرب المترعة بالدموع.. وهكذا كان مظفر بارعا وهو ينقل لنا صورة جميلة ورائعة من العذاب وألألم :
ياريل طلعوا دغش... والعشگ چذابي
دگ بيه كل العمر... ما يطفه عطابي
نتوالف وي الدرب...وترابك ترابي
وهودر هواهم ولك.. حدر السنابل گطه
لقد كان النواب أكثر براعة وأشد تمعنا في إختياره لتلك المفردات المغمورة في اعماق الريف وصرائف ألأهوار ومضايف الفرات..(عطاب. دغش. تراب) ومن ثم العمل على صياغتها بالطريقة التي أنتجت تلك القصيدة والتي ستبقى خالدة خلود النواب... شاعر الشعب الكبير.. الذي سيظل خالدا. خلود الدهر.. لانه اعطانا سيفا ويراعا... وفتح لنا نافذة واسعة " والفن لا يكتب له الخلود إلا بقدر ما يحقق من إشباع لعواطف النفس وإرضاء لنوازعها وبقدرته على إعادة إكتشاف الكامن من تلك المشاعر وتهذيبها "1
وفي ديوان الشاعر لفته الخزرجي الذي يحمل عنوان (فخاتي وهيل) جاء في مقدمة الديوان،والتي كتبها الشاعر نفسه "ويتواصل هذا السيل من الشعراء في نهر العطاء المتدفق. فينشد النواب اجمل ما تفيض به قريحته المتألقة والتي كانت معبئة بالهاجس الشعبي المتمرد... فقد كان شعر النواب والمضامين ألإنسانية التي إحتواها قد كرست الحداثة والتجديد. ومثل إنعطافة كبرى في حركة الشعر الشعبي وطفرة في هذا العالم المتفرد ".*
1) الكاتب محمد علي محيي الدين / في تقديمه لديوان الشاعر الشعبي " لفته الخزرجي " والذي يحمل عنوان (فخاتي وهيل) والصادر عن دار الفرات للثقافة وألإعلام في الحلة / 2013م
2) ديوان فخاتي وهيل / الشاعر لفته عبد النبي الخزرجي / دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة 2013م
لاشك أن النواب وهو ينتزع هذه المفردة الجميلة " دغش " ويستخرجها من القاموس الشعبي ليسكبها في هذه المقاطع من قصيدته فيلونها ويضفي عليها جوا من البهجة كما يقول. إنما كان يريد ان يقول أن اللغة الدارجة معبئة بالكثير من المفردات. لكنها غائبة عن ذاكرة الشعراء. ولابد من جهد إستثنائي يبذله الشاعر وهو يكتب قصيدته ليضمنها الكثير من الومضات.
ونحن إذ نعيد قراءة " للريل وحمد " ونطيل الوقوف امام مفرداتها. إنما نشحذ ذاكرتنا لنستعيد تلك العبارات والمفردات التي جسدها النواب في هذه القصيدة. او اللوحة الفنية الرائعة.
يا بو محابس شذر... يلشاد خزامــــــات
ياريل بالله بغنج... من تجزي بأم شامات
ولا تمشي مشية هجر...گلبي بعد مامــات
وهودر هواهم ولك... حدر السنابل گطه
ونحن لا نشك مطلقا. أن النواب وهو يكتب هذه القصيدة... كان يضع قلما ودفترا عند رأسه أثناء نومه... وقد إستغرقت منه عامين كاملين... لكي ترى النور...
چن حمد فضة عرس... چن حمد نرگيله
مدگدگ بمي الشذر... ومشله إشلــــــيله
ورغم أن مفردة "مي الشذر " تعتبر من المفردات الغريبة...إلا ان النواب كان بارعا في إنتزاعها أو بألأحرى إختراعها... وقد اضفت جمالية رائعة على هذه اللوحة الخالدة.
گضبة دفو يانهد.... لملمك برد الصبح
ويرجفنك فراگين الهوى... ياســــــرح
ياريل لا.. لا.. تفززهن... تهيج الجرح
خليهن يهودرن... حـــ در الحراير گطه
"گضبة دفو "... هذه المفردة الرقيقة... إن مفردة – گضبة – تعني حزمة... او قبضة الكف...
وهي من السهل الممتنع... لأنها لا يتم التداول بها في اللغة الدارجة.. فهي مفردة بدوية... وتسمع في المنطقة الغربية من الوطن... لكن النواب إستطاع ببراعته وبلاغته وعبقريته أن يلتقط هذه المفردة ويضمنها في هذا العقد الماسي الذي يشع بريقا...ويعبق مسكا.. ويتشظى عطرا.
الكاتب المتميز ألأستاذ جاسم المطير... وفي مقالة له في طريق الشعب يقول في هذا السياق (فرضية العلاقة بين الشاعر مظفر النواب والسلطة الحاكمة في العراق. في مختلف العهود والعصور. هي فرضية الحكام الساعين لإيجاد علاقة ذات توصيف ومعالم أساسية تميزت مفاصلها بأنها محاولة تحويل قصيدته الثورية الى دخان...وهي لهب...الى إغواء...وهي بهجة. الى شلل... بينما هي اعلى شكل من اشكال النشاط والحركة. من اجل هذا كله حاولت جياد السلطات العراقية المتعاقبة ان تقلب عربات شعره ذات العجلات الحمراء الثائرة وذات العبق الفواح من خبز الفلا?ين) 2
3) طريق الشعب / العدد 29 / 15ايلول 2013م.
يقول السيد محمد جاد الله. في مقدمته الضافية لكتاب"ألأعمال الكاملة للشاعر مظفر النواب " وهو يستعرض مكانة القصيدة الشعبية. فيتحدث قائلا:((قصيدة للريل وحمد. يقرأها إبن الموصل مثل إبن العمارة او البصرة بل حتى من خارج العراق. وفي الخليج العربي وليبيا والجزائر. لقد تفاجأت أن هناك في الجزائر من يحفظ قصيدة " للريل وحمد " ويستوعب صورها). 3
4) ألأعمال الكاملة للشاعر مظفر النواب / دار الصادق.
كما ان الشاعر الكبير سعدي يوسف كان قد وصف القصيدة بأنها " زهرة نادرة في بستان شعرنا العربي " 4
5) نفس المصدر السابق.

ونحن نرى ان قصيدة مظفر النواب " للريل وحمد " قد حققت هذا الحضور الواسع والمميز.. إنما لآسباب معروفة :
اولها : أن القصيدة تحدثت عن ثيمة واضحة.. هم ومعاناة وحزن طفولي.
ثانيها : ان القصيدة قد إنحازت تماما للكادحين والفقراء ومن هم في اسفل السلم الطبقي للمجتمع.
ثالثها : إنها قد توسلت مفردات غاية في الدقة والحرص على المضمون والمحتوى في القصيدة.
رابعها : أنها كانت مفاجأة في ألأدب والشعر الشعبيين. حيث شكلت طفرة وتفردا وحداثة... ومثلت إنعطافة كبرى في شكل القصيدة وتمردا على السياق التقليدي.
وخامسها : أنها قد مست شغاف القلوب عند الناس ولامست مشاعرهم وقضاياهم.. وقدمت أطروحة حداثوية عن مضمون القصيدة الشعبية.
ولذلك وعندما سئل النواب : ماهو سر "للريل وحمد ؟" كانت إجابة النواب (الريل في لهجة الجنوب القطار. وقد كتبت هذه القصيدة ولم يدور في ذهني أني سأطبعها في يوم ما. او أنها ستنتشر هكذا وتثير كل هذا ألإهتمام.كتبتها لأنني شعرت بها شكلت لي بهجة داخلية. غناء وجدانيا) 5
5) نفس المصدر السابق
وفي مقالته التي كتبها في طريق الشعب العدد/213/السنة77 / الخميس 5تموز 2012م يقول السيد امين قاسم الموسوي "وهذا يعني ان في القصيدة ما فيها من معاناة وأنها خرجت بعد ان انضجها الشاعر بنار عواطفه وثقافته العميقة " وهذا هو السر الذي جعل هذه القصيدة تتألق وتشع وتنتشر.
إن أسلوب التشبيه المجازي الذي رافق القصيدة في مقاطعها وأعطاها كل هذا الحضور وألإنتشار.. كان فتحا جديدا في آليات الشعر الشعبي..وإنطلاقة نحو الحداثة والتجديد في بنية القصيدة ومضامينها. وصيرورة القصيدة المنتمية للهم الوطني وألإنساني... وتعبيرا عن عبور خانق ألإنغلاق في بنية القصيدة بآلياتها القديمة.
إلا ان ما نريد الوصول اليه ان قصيدة النواب "للريل وحمد " لها (قراءات مختلفة. وهذه هي سمة العمل ألإبداعي. لا تجد له قراءة واحدة وقد تتطور قراءاته مع الزمن ليساير الفهم السائد للامور حتى في عصور لاحقة. وهكذا قيل ان العمل ألإبداعي يبقى خالدا على مدى الدهر) 6
6) طريق الشعب / العدد 181/ السنة77/ الخميس 17 آيار 2012م / فارس حامد عبد الكريم.
چن گذلتك والشمس... والهوه هلهوله
شلايل بريسم... والبريسم إله سوله
وإذري ذهب يا مشط... يلخلگك شطوله
بطول الشعر..والهوى البارد.. ينيم الگطه
إن هذا ألإبداع في رسم هذه الصورة الرائعة من التشبيه الفني والجمالي... من خلال.. إيجاد رابط بين خصلات الشعر المنسابة تحت مسار المشط... وبين شعاع الشمس... فكانت تلك الحركة المتموجة وكأنها صوت " الهلهولة " التي تكاد تكون بنكهة الشعر الذي يتموج في ظل الوهج الصادر عن شعاع الشمس. هكذا هي الروعة في التشبيه... وهذا ما دفع الكاتب " أمين قاسم الموسوي للقول :ارى ان هذا التشبيه إضافة الى تفرده. وجدته رائعا في غرابته ودقته وعمقه.إذ شبه المادي المجسد بالمعنوي. وتشبيه من هذا النوع يعد من ارقى التشبيهات " 7
7/ طريق الشعب العدد / 213/ السنة 77/ الخميس 5تموز 2012م
تو العيون إمتلن....ضحكات وسواليف
ونهودي زمن... والطيور الزغيرة تزيف
ياريل سيس هوانه... وما إله مجاذيف
وهودر هواهم ولك... حدر السنابل كطه
عندما تمتلأ العيون ضحكا... بمعنى انها في غاية السعادة... ومع الضحك هناك سوالف قد حققت هذا الجو من السعادة... لكن العلاقة بين النهد وصغار الطيور... كما العلاقة بين الشمس والشعر المنساب في وهج الشمس عندما يذروه المشط وتحركه انامل العذارى.
ونحن نكتب عن النواب الكبير... يعصرنا ألألم.. لأن النواب ما زال يعاني من ألإهمال وهو مريض ومسجى في مستشفيات بيروت... نتمنى الشفاء العاجل لشاعرنا المبدع وان يعود لأهله وناسه وابناء وطنه.