ادب وفن

النص الروائي بين الواقعي والمتخيل (2-3) / جاسم عاصي

ما يحكيه النص

لعل اشتغال النص يتمحور في تفكيك التاريخ العام للمدينة، والابتعاد عما هو مدون عنها والاكتفاء بما يسطـّره المخيّال وما يوحي به الذهن مستعيناً بالذاكرة الجمعية لاستعادة مسميات الأمكنة المرتبطة تاريخياً بالمعرفة من جانب، وبالعلاقة مع صراعات الجماعات، سواء كانوا من النخبة التي تقود زمام المدينة، أو من المهمشين والشقاوات. هذا النمط في إنتاج نص معني بسيرة المدينة روائيا ً وليس سير ذاتية مقتصرة على كارزما تحديدا ً، هو الذي دعا الذاكرة السردية إلى أن تقود حمولاتها بحذر ودراية لتأسيس أسس هذه السيرة، دون الدخول في التفاصيل التي قد تؤدي إلى إبعاد النص كرواية عن خصائصه. صحيح أن الكاتب اجترح له مسارا ً في الكتابة الروائية، لكنه لم يركن أحداث التاريخ، إنما وضعها موضع السبب والنتيجة، مؤكدا ً على إن ما يُسفـر عنه التاريخ هو شدّة الصراع الدائر في المدينة تاريخا ً وحاضرا ً. وهو تأكيد على قوة وجود المدينة باعتبارها واحدة من المدن في التاريخ التي شكّلت معمارها المعرفي فالكاتب ينحو بمخيلته للتأسيس، ويعمل على وضع محددات تاريخية يضعها موضع السدة واللحمة في نسيج العلاقات الإنسانية على مر الحقب والأزمان. فليس المكان الواقعي والمتخيّل بمنأى عن الصورة التي يجدها الكاتب والمتمركزة في منطقة وسطى بين الواقعي والمتخيّل. وهذا التصوّر دفع إلى الاستعانة بحيثيات كثيرة في استحداث الصور المتخيلة لتاريخ المدينة، سواء السياسي منها أو الشعبي أو الفكري المعرفي وتوصيفات الحراك السياسي المغـّلف بالخطاب الديني، ونعني به صراع الاجتهاد وتزاحم المواقع الدينية وتحولاتها في أزمنة المدينة، معتمدا ً بذلك على إمكانية حضور التاريخ عبر فعاليات تبدو هامشية، ونقصد بها إعادة كتابة هذا التاريخ من خلال ذاكرة تتكئ على المادي متمثلاً بالمطبعة، وذاكرة بشرية متمثلة في البنات الثلاث العوانس. يتجسد هذا في الفعل المتواصل الذي ابتدأ منذ محاولة منح آلة الطبع قدرتها على الإنتاج وصولا ً إلى إمكانية انثيال ذاكرة إحدى البنات في استحضار الأحداث. بمعنى سيادة المعرفي على إنتاج هذه السيرة. ومن هذا الاستحضار يتم تسطير المتن التاريخي للمدينة. إن مثل هذا الدأب في تنشيط الذاكرة ساعد على خلق تاريخ ذاتي له صلة بالتاريخ الواقعي، عبر مكوّنات واقعية، تحددها عيّنات على شتى المستويات، سواء كانت «فكرية، تاريخية، أسطورية، اجتماعية» فالتاريخ المُعَدْ والمستعاد للمدينة يقابل ما حاولت قوى الاحتلال إزاحته واستحداث بديل عنه؛ والحاصل هنا هو نتاج المخيّال الذي خلق تصورات ذهنية، اعتمدت على وقائع حاول الراوي من خلالها تفكيك التاريخ إلى وحدات، ثم استعان بمخيلته على إعادة صياغة هذا التاريخ الذي يرتقي أكثر للمستوى الأسطوري. وجمع في هذا أسلوب الاستعانة بكل ما يختزنه العقل البشري وهو يواجه مثل هذه المهمة أو الوظيفة للنص، المتمركزة في البحث عن وظيفة للسرد وتنقيته من شوائب السرد التاريخي الخالص. صحيح إن التاريخ بعامة مكتوب برغبات ذاتية سلطوية، ونقصد به التاريخ الرسمي، إلا أن راوي حكايات المدينة هو منتج لتاريخ شعبي، يبتعد عن مستوى السلطة المتحكمة في صياغته. فالذي انعكس في النص هو التاريخ الشعبي الذي صاغته الذهنية الشعبية المتمثلة في البنات الثلاث العوانس، وليس المدوّن ذي القدرة المستلبة والذي يخضع للحاكم. كما أن رواة النص لم يأخذوا بمهيمنة المقدس، بقدر ما سطروا رؤيتهم لما كان يدور حول المقدس الذي احتل مركز المدينة. إن الهامش في كثير من الحالات يتميّز بقدرات كان المدوّن الرسمي لتاريخ المدينة قد وضعها في زاوية مضمرة. من هذا المنطلق كانت الرواية محاولة لتفعّيل العقل الشعبي لتدوين تاريخه، عبر العناية بدور النماذج الشعبية في أداء وظائفها في مسار تاريخ المدينة.
من هذا يكون رصدنا لتشكيلات النص عبر محاور هي:
«مستوى التخييل، المستوى الاجتماعي، المستوى التاريخي، المستوى الأسطوري»
الأمر الذي يتطلب متابعة هذه المستويات، لكي نتعرّف على الجُهد الذي صاغ حكاية «السيد أصغر أكبر» روائيا ً.

أولا ً ــ مستوى التخييل

من ابتداء وصف الرواية بأنها تطرح «نظرية السيد أصغر أكبر» يضعنا أمام حراك سردي ينبئ بطرح تصورات واسعة تنحصر في نظرية تخص نشوء وتطور المدينة ، كذلك متابعة ما رافق هذا التاريخ من ولادة أحداث، ومستجدات تاريخية شعبية. وما وجود البنات الثلاث، سوى من أجل تحقيق هذه النظرية المستعادة من خلال دخول المدينة والبحث عن بيت الجد ومن ثم المطبعة في سرداب البيت «نحن معينة ونظمه وواحدية بنات السيد خنصر علي، وحفيدات السيد أصغر أكبر، الذي تشير مشجرات نسب العائلة بأنه مدفون هنا في هذا السرداب، تحت بيتنا القديم، الذي يسميه الناس بيت الشرايك» ثم تكشف الذاكرة عن ثوابت تـُحيل إلى واقعية النزل هذا في كونه «لكنه لا يزال مجاورا ً لقبر المغولي الأعرج تيمورلنك، وقبور بعض السلاطين الجلائريين. وهذا يعني بأنه قريب ولا تحجزه سوى بضعة أمتار عن ضريح الإمام علي بن أبي طالب». هذه الصور الحقيقية تـُشير إلى تاريخية الثوابت التي حققت صحة تعيين المكان الذي نجده يراوح بين «بغلة عباس، بحر النجف، الثوية» لا لشيء سوى لتأكيد قوة الذاكرة ومشروعيتها في البحث. إن الأخذ بالنتائج من الأحداث لتخليق صيرورة حدث مركزي، هو السبيل الأمثل الذي وجده الروائي ممكنا ً لإحداث مقاربة بين الواقعي والمستحدث في السرد. وهذا ما يقود في سردية كهذه إلى التوفر على علامات سردية تؤشر رمزية الأمكنة التي تعالجها الرواية. فهي تنطلق من الجزء إلى الكل، آخذاً بنظر الاعتبار إن ما يدور هنا لا يبتعد عما يدور هناك في المدن، وبالتالي تكون خلاصة الأمر إن البلد يتعرض إلى محاولة تشكيل واقع جديد له، وتحويل التاريخ إلى نوع من الوهم. وما عودة السارد لذاكرة المدينة تخيّلا ً إلى العمل على إزاحة العالق في هذا التاريخ، فالتاريخ نص وما إجراء التقشير على بنيته كنص، سوى نوع من التنقية الخالصة، والتشبث في الذي يوفره العقل المؤرشف والمدوّن للأحداث في تاريخ المدينة الشعبي. من هذا نرى المخيّال الروائي قد قسّم واقع المدينة إلى طبقات؛ منها الأعلى والأسفل. وفي كل منها جملة محركات، فالأعلى يوحي بالطبقات المدينية والأخرى المتواصل مع المعرفة، وممن يؤازرون السلطة السياسية وما يحيط بالمقدس. أما الأسفل فيشمل الشقاوات، وذوي المهن ذات الإنتاج الشعبي وحفاري القبور والمشيعين للجثث ــ الجللجية ــ والذين يمارسون قيادة الزوار في أداء مراسيم الزيارة. هذه المكوّنات هي التي حاول المخيّال تنفيذ إجراءاته عليها. ونعني أن السرد أنطلق في تشكيل مدوّنة المدينة من هؤلاء الذين بحكم وجودهم النافر من أي سلطة أو صفة احتلال، إذ يمكن اعتبارهم ثواراً فطريين، كما هو في التاريخ كثورة الزنج والقرامطة، وما حدث في مدينة كربلاء في العهد العثماني في ظهور «إبراهيم الزعفران» كثائر، وهي المدينة التي كانت النجف تابعة إداريا ً إليها. وبمثل ذلك عمل «نجيب محفوظ» في روايات «زقاق المدّق، خان الخليلي» في تثوير النماذج الشعبية كـ «زيطة» ثم أسطرة التاريخ كما في رواية «الحرافيش» بعد أن استفاد من حيثيات روايته السابقة «أولاد حارتنا» والعمل على تنشيط الذاكرة باتجاه تفعيل الهامش الذي يضم المسحوقين والمستلبين. وما فعله مرتضى كَزار يتوافق مع مبدأ مركزية الهامش. وهو ما عمل عليه مخيّال الكاتب السردي، الذي هو جزء من مخيّال الجماعات القابعة في قاع المجتمع.
لقد استعان الكاتب بالشفرات التاريخية والشعبية كدالات لدلالات أكثر عمقا ً.
فهو لا يأخذ بالأفعال الكبيرة لتحقيق قناعاته، بقدر ما يأخذ بتراكم الأجزاء من أجل تشكيل الكل. فالبنات الثلاث قد أخذنَّ بالاعتبار خطورة ما أقدمن عليه في استحداث صورة جديدة للتأريخ الشعبي للمدينة. وكان الانتباه هذا محفوفاً بالخوف والحذر. الأمر الذي دفعهنَّ إلى التحوط أثناء البحث عن الوثائق في سرداب البيت «تمتنع نظمة متذرعة بالخوف من فنجان (أبو نصيحة) شقاوة النجف العتيد الذي تروي الحكايات بأنه لا يزال يبحث في سراديب الولاية الطويلة المتداخلة عن رقبة أصغر أكبر لينهشها» هنا نجد الإشارة إلى سلطة فردية الغرض منها التعبير عن سلطة أكبر من مثل المحتل سواء كان العثماني أو البريطاني، وصراعه مع مكوّنات المدينة الاجتماعية التي شكّلت قوة لايستهان بها في تاريخ المدينة. إن الاستعانة بهؤلاء المهمشين يعني الإقرار بقوة تأثيرهم كما هي في الواقع في ما فعله «الحبوبي» ومن تجنّد معه لمقاومة المحتل.

ثانيا ً ــ المستوى الاجتماعي

ما نعنيه بالمستوى الاجتماعي هو العلاقات التي تشد الأفراد والجماعات مع بعضها، ليس من باب الآصرة وقوة التماس التي تفرضها الحياة فحسب، وإنما تلك التي بمجموعها تشكّل واقع الزمان والمكان. ولما كانت الكتابة هنا تتعلق بسيرة مدينة، فيتحتم بذلك أن تربط الحيوات منظومة معينة اعتبارية. فالملاحظ على الرواية كونها تعالج هذا الضرب من المكوّن الوجودي من منطلق التشكيل الأول لتلك المنظومة الاجتماعية بإتباع أسلوب استحداث العلاقات آنيا ً مع زجها بالأطر الأسرية ومن ثم الاجتماعية القائمة آنذاك. وهذا ما تستوضحه ذاكرة العوانس الثلاث في الشروع بكتابة التاريخ المزيج ــ كما ذكرنا ــ بين الواقع والمتخيّل. إن العلاقات تلك تحركها المصالح الذاتية والسلطة الدينية وما تفرزه حالة الاحتلال للمدينة، والاستفادة من التاريخي لصالح الاجتماعي. فصراع عشيرتي «الزقرت والشمرت» واحدة من ظواهر دالة على مثل هذا الحراك الاجتماعي، يُضاف إليها حراك الشقاوات وقدرتهم على احتواء الواقع نفسيا ً ومعنويا ً ثم اجتماعيا ً. فمثلا كان «فنجان أبو نصيحة» من المسيطرين على المدينة، بل وحتى على ذهن العوانس، بسبب ما تجسده صورته وهو يتتبع الجد أصغر أكبر عبر السراديب وممراتها الخفية، وحسب العبارة التي أوردناها أعلاه لنظمة «لينهش لحمه» هذه الهيمنة واحدة من الوحدات المؤثرة في تشكيل منظومة المجتمع في المدينة، التي نقلتها السردية إلينا على أنها من مروياتها. يُضاف إلى ذلك فعل الجللجية وما تشكّله أفعالهم اليومية في تشييع جثث الموتى، بمعنى تجسيدهم لظاهرة الموت والفناء. وأرى أن التأكيد على الجللجية، إنما للتأكيد على جدلية الوجود في المدينة أو المدن الأخرى، أي واقع مجريات تاريخها وهي ترزح تحت نير محتلين ــ العثماني والبريطاني ــ.
إن رواية النص من قبل النساء الثلاث معنية بعكس صورة المدينة اجتماعيا ً منذ دخولهم المدينة عبر «بغلة عباس» قريبا ً من بحر النجف. فهي تصف أجواء صباحية تؤشر كثيراً لبنية المجتمع في «نزلنا منذ الفجر، مع صوت أول جللجي نشيط تسلـّم نوبته، مع أول «جل الله سبحان الله جل الله» مدوّية وواضحة أيقظتنا. كان الجللجي يبثها مع ثلاثة حمّالين، من تحت تابوت ملفوف ببطانية عسكرية».. هذه الصورة السردية الوصفية تكشف عن طبيعة المدينة ومشهدها الاجتماعي. وقد تتالى الوصف والسرد الذي يكشف طبيعة اندهاش النساء الثلاث ومألوفيتهنَّ مع المكان والذي صاغ بطبيعة الحال سيرتهَّ في المكان، والذي أنتج لنا سيرة المكان ــ البيت والسرداب ــ ثم المدينة بمكوّنها السياسي والاجتماعي والأسطوري والفكري وبضمنه التمرد هنا أو هناك في تاريخ المدينة. فتدوينات النساء العوانس بمثابة الطـُرس الذي يستقبل كل المرويات كطبقات من سيّر خاصة وعامة ــ حسب رؤية جينيت ــ في التدوين. لذا فكل الذي عملته العوانس هو الكشف عن كل ملفات المدينة ومنها الملف الاجتماعي، الذي روى لنا طبيعة النسيج هذا، وما تمخض عنه من حراك عبر تاريخها القديم والمعاصر.