ادب وفن

«وضوح أول» .. للشاعر طارق ياسين :صورة للشعر الشعبي العراقي الحديث / ريسان الخزعلي

*... حلب يا بن غريبه.. يا غريب الگلب..
يا مصلوب فوگ إثبات كل ردّه.
حلب.. يلي سوادك سفن زنجيه..
رگص بيها الخليج وما نگص مدّه.
وأخذ من كل جرف مركب...
تجاره وگاع المحمره.
وحنين إمك.. لچه إبدمك.. خبز فقره،
ولبن فقره.
أبيض مثل كل ثوره
واسود مثل كل ردّه
...،
يا حلمان بالحلم الچبير ودولة الفقره
(مامش دوله للفقره)...**.. الشاعر الراحل /طارق ياسين/ من الشعراء المجددين في القصيدة الشعبية العراقية- بعد تجربة الشاعر الكبير /مظفر النواب/ وما أضافته هذه التجربة من فتوحات فنية وجمالية على مستوى اللغة وتشكيل الصورة وفهم فكرة الشعر ومعنى الشعر- وقد أضفى هذا الشاعر (طارق ياسين) هو الآخر، ملامح تجديدية مغايرة لتجربة النواب حيث الابتعاد عن التوتر الرومانسي، الانشغال بما هو فكري وفلسفي، إسقاط الهم الوجودي على تجربة الكتابة الشعبية، الاكثار من /نثر الشعر/ دون الالتفات الى الايقاع القادم من موسيقى الشعر، اختلاط المفردات الريفية والمد?نية، الالتفات الى تطور الشعر العربي والعالمي والاستفادة من التطورات الجديدة في الاشكال والمضامين، الميل الى المعنى الصادم في توليد قصائد قصيرة، تطويع النكتة وطرافتها في صياغات شعرية جديدة غير مسبوقة، الاشتغالات الحسية/ النفسية، التجريد والتحديد في مزاوجة فنية عسيرة، هموم يوميات المدينة، التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وانعكاساتها في نمط التوليد الشعري، الثورة والحلم والمستقبل، وعيه، وثقافته العالية حياتياً وفنياً.
*.. ان هكذا انشغالات واشتغالات، جعلت من شعره، وكأنه اللعبة الشكلية التي تبدو غريبة على القصيدة الشعبية العراقية، وذلك لغرابة النمط المحدث في نسيجها، حتى ان شعره يواجه احياناً (بالاستهجان) نتيجة هذه الغرابة من قبل المتلقي البسيط الذي ألف البساطة والوضوح، الا انه في التوصيف الشعري الدقيق شاعر كبير، يمتلك الشعرية والشاعرية في الفهم العميق للشعر وفكرة الشعر.
* سبق لهذا الشاعر ان اشترك في مجموعة (قصائد للمعركة) عام 1967 بعد نكسة حزيران، مع شعراء آخرين، كما أصدر مع الشاعرين الكبيرين الراحلين (عزيز السماوي وعلي الشباني) مجموعة (خطوات على الماء) عام 1970، كإشارة لحداثة اخرى، بعد صدور (للريل وحمد) عام 1969، كما ان قصيدته المعروفة (لا خبر) كانت سبباً في إعادة تقييم هذا الشاعر من قبل المتلقي العادي، بعد ان حظي بالأساس بتقييم المثقفين كونه شاعراً مثقفاً يجيد صناعة الابداع على مستويات عدة (قصيدة النثر بالفصحى، كتابة الراوية الحديثة- الكوميديا الوجودية، التي أعجب بها ال?اعر الكبير سعدي يوسف وكتب عنها ولم تصدر حتى يومنا هذا، الامكانية الموسيقية في التذوق والتلحين، حيث لحن أغنية المشتعل گمره من شعر علي الشباني وغناها المطرب فاضل عواد، الكتابة النقدية).
*.. رحل هذا الشاعر، عام 1975، رحل مبكراً كعادة المبدعين قبل أن يرى صدور اعماله الابداعية، ومنها مجموعته الشعرية (وضوح أول) الصادرة عن دار ميزوبوتاميا بعد مرور (38 عاماً على رحيله) وبمقدمة للروائي سلام ابراهيم، وقد تمثل هذه المجموعة معظم أشعاره (بعض القصائد لم تدرج)، وسلام ابراهيم وعقليته ناهدة أم كفاح، كانا وراء هذا الجهد جمعاً وتنضيداً كما جاء في المقدمة (مخطوطة الأشعار عثر عليها اصدقاؤه في غرفته بعد وفاته فجمعوها من قصاصات مبعثرة في دفتر صغير أحتفظ بنسخة منه في مكتبتي)..، و /وضوح أول/ تضم 41 قصيدة من بين?ا قصيدته الطويلة (حلب بن غريبة المستقاة من قصة للقاص فهد الأسدي في مجموعته طيور السماء). والشاعر طارق ياسين في هذه المجموعة، يثير الاسئلة الكثيرة، مما يعكس قدرات فنية وجمالية على مستويات عدة، من بينها، جماليات اللغة والرمز والصورة الشعرية (وقد كتبت عن هذه الجماليات في مخطوطتي الشعر الشعبي العراقي الحديث، حدود التجربة واللون، دراسة في الجوانب الابداعية للقصيدة الشعبية الحديثة، ونشر فيما يخص الشاعر طارق ياسين على هذه الصفحة سابقاً) لذا سوف لا أكرر ما قلته، واكتفي باشارات عن هذه المجموعة الرائدة والتي تمثل صو?ة للشعر الشعبي العراقي الحديث، ابتهاجاً بصدورها وترسيخاً لذكرى هذا الشاعر المجدد، صاحب الحضور المستمر، ومثير الأسئلة الوجودية.
*.. گتلي هاك.. هاك الأبرة.. هاك الخيط
شد جرحك
وما مديتلك إيدي وگمت أضحك
أو شفت الحيره بعيونك سؤال..
أكبر امن الأبرة..
والخيط، وعقلك ونصحك.
والسكته عذاب وياك
وأخذت ايدك الأخرى وسكنت وياك
ومن بين الدمع گتلك:
لا تحتار بالمرّه
آنه جرحي ابضميري ما تلوحه إبره
ولا يندل عذابه الخيط من برّه..*
*.. ومن بين الاشارات التي لا بد من إيرادها:
1- وضوح أول.. كتابة شعرية حداثوية، تمثل نمطاً في القصيدة الشعبية العراقية، بعيداً عن الشكل والنمط النوابيين عدا قصائد البدايات.
2- طارق ياسين.. شاعر مدينة واشتغالات فكرية وفلسفية ومعرفية:
*.. الشمعه من يگضي ضواها..
الليل هم يگضي اوياها.
اختبي بنفنوف ضيگ..
حته تتعلم شنو معنى النفاهه
الليل أملس والضوه مثل الحجاره
الليل أملس وانت حلمك خشن يزلگ ع المخده
الليل أملس مثل زبده..*
3- طارق ياسين.. يبحث عن كشف سريّة التعب والملل والضيق والعمق القصي في الحب ومعنى الحب، والصداقات الذاهبة الى الفراق القسري:
*.. تشبهني واشبهك.. صرنه إحنه اثنين
من إتضيع تلگاني..، او تلگاني من تضيعني
او من نتلاگه آنه اوياك.. نتضيّع سوه ونحتار
تشبهني واشبهك والشبه ثاني وضوح..*
4- طارق ياسين.. يكتب الشعر الشعبي بوعي الشعر العالمي وتحولاته الفنية.
5- /وضوح أول/.. قصائد الاسئلة الوجودية والغنائية الملتبسة، والضجر اليومي من ايقاعات حياة بلا حياة، والانحياز لبطولات يتمناها بعيداً عن سلطة الايدلوجيات.
6- /وضوح أول/.. تتمثل التكوين النفسي والروحي للانسان، والبعد الآخر في اسباب وجوده واندحاره المستمر.
*.. في اشارة اخيرة.. ان قصائد المجموعة لم تكتب بطريقة سليمة وقد اكتفت وأخذت بالنطق دون الأملاء الصحيح، كما ان سقوط بعض الكلمات يشكل عثرة في القراءة والتلقي، وهذه الاشارة لا تقف ابداً امام تلقي هذه المجموعة الرائدة التي ينتظرها الوسط الثقافي منذ عقود زمنية، وان صدورها يمثل صورة في اكتمال مشهد الشعر الشعبي العراقي الحديث.