ادب وفن

العراقيون والمخاض الدائم / وديع شامخ

مارتن لوثر كنغ :» إما أن نتعايش كأخوة، أو نقضي على بعضنا البعض كالحمقى»
لكل شعب وأمة علامات فارقة وسمات مشتركة تقتضيها طبيعة العيش الدائم في وحدة جغرافية وتاريخية، وفي زمانية دائمة. وكلما كانت الشعوب تحمل سمات التعدد « الثقافي»Multiculturalism»، صارت حظوظها في التقدم والنجاح عالية جدا. لتوافر ممكنات التكامل والتكافؤ بين عناصر الشعب أو الأمة. والعراق عمليا يمتلك من أسباب التعدد ما يجعله نموذجا لتجربة التعددية في العيش المشترك السعيد، فهذا البلد بخصائصه التاريخية وحضارته قديما وحاضره السياسي في الوجود كدولة منذ عام 1921 يستطيع أن يستثمر هذا الفضاء المتنوع لخلق مناخ يشير إلى مجتمع غني باختلافه وتعدده، فالعراق يتكون من خليط قومي وديني ومذهبي وعرقي لا يمكن أن يختصر بوحدة شاملة هزيلة ولا برقيع أوهام بأننا شعب واحد نمتلك رسالة خالدة.
ليس المجتمع حاصل جمع أرقام وبيانات إحصائية بل هو مجموع أحلام وتطلعات وأمنيات ووقائع عملية مشروعة، يراد منها التعايش المشترك بفضاء إنساني شامل، أي أن العيش وفق ممكنات التكامل والإختلاف يحتاج الى «عقد إجتماعي» وضرورة تاريخية ووعي بهما.
لم يكن التفرد أو التعدد صفة حسنة أو سيئة في فكر البشرية وحياتها إلا بعد سلسلة خيارات واقعية أملتها ظروف التعايش الإنساني على أرض الواقع، ففي العالم القديم كانت هناك استقرارية جغرافية أُختصرت في القارات الثلاث «أوربا، أسيا، أفريقيا» وكانت الحياة في هذه المناطق تسير بشكل منفصل ولكل مجتمع هويته الغالبة، إذ لا إنفتاح على بقية الأنماط البشرية على مستوى الهجرة أو الإحتلال لإحداث إخلال في ميزان الديموغرافيا، بل كان التلاقح من بعيد وضمن حدود الحاجات المتبادلة الخاصة. وفي سير الحياة الجدية نحو التكامل واكتشاف مساحات جديدة، لم يعد العالم سوى هذه القارات الثلاث بل تمدّد وتوسع حتى صار بما يسمى «العالم الجديد»، وكان نتيجة مهمة للتواصل بين أهل الأرض سواء برحلات الإستكشافات الجغرافية والإستعمار والتبشير أو الهجرة، وهذه الأخيرة تحديدا أصبحت السمة المهمة لملامح المجتمعات التعددية الحديثة بوصفها النزوع الدائم للإنسان للبحث عن الحرية في المكان البعيد عن منطقته لأسباب متعددة ومتشعبة.
لقد نجحت الشعوب المتعددة الأصول والثقافات والأجناس والعقائد والديانات والمذاهب والتطلعات الى نتيجة مهمة هي صهر هذا التنوع في إناء المواطنة ودولة الدستور المدني، دولة التوافق الحضاري والمدني. ومن هذا النسق الحضاري أينع القانون المدني الموحد للجميع.
لقد تجاوز الجميع نعراتهم في أفضيلة أو أسبقية الوجود بهذه القارة أو تلك من بقاع العالم والتي شهدت نجاح التجربة التعددية، توافقوا على العيش المشترك وجاء الجميع ببضاعتهم الدينية والقومية والأثنية و.. جاء الجميع بعاداتهم الإجتماعية وسلوكهم المجتمعي وثقافاتهم وعاداتهم الغذائية.. ونجحوا في التعددية.. لأنها ألغت التفرد وقبلت بالوحدانية الجامعة.
ولكن محنة العراق الماثلة تأريخيا تجلت بوضوح في طروحات القوميين الذين اختصروا مشتركات العيش والتوافق بمبادئ منها «الأرض والتاريخ واللغة والدين..الخ .» ومع مفهوم الأمة العربية الواحدة وذات الرسالة الخالدة، نرى أن العراقيين دخلوا في نفق قاتل يهدد وجودهم الإنساني وهويتهم الوطنية أولا ، ثم الهويات الجزئية التي يحملها العراقي المتعدد الأعراق والأنساب والديانات والمذاهب والأحزاب، فالعراق عمليا أثبت فشل أننا أمة عربية واحدة كما أثبت بالوقائع الوجودية إننا شعب واحد ننتمي الى معيار واحد وحزب واحد، هذا المخاض غير الواقعي تاريخيا وعمليا جعل العراقيين يلبسون رداءَ يضيق بهم حينا ويكون فضفاضا حينا آخر. وكانوا دائما في « خانق المخاض الدائم «.. انهم في حالة قلق بلا ولادة، لأن الدولة العراقية منذ تأسيسها تكونت على مبدأ طائفي، أحادي، إقصائي، لا يمت لقيمة «العقد الإجتماعي» والدستور المدني.. فملكنا العربي الهاشمي فيصل الأول جاء بجلباب إنكليزي لم يفلح تماما في فهم الشخصية العراقية، وهكذا كانت محنة الفترة الملكية كلها، وبعد سقوط الملكية مضرجة بالدماء، لم يقدم المشروع العربي -العراقي حلا واقعيا لمشكلة التنوع والإختلاف القومي وغيره، ولم نجلس كعراقيين على طاولة المراجعة والتأسيس لمرحلة «العقد الإجتماعي» الذي يكفل لنا قيمتنا « الحوارية» في تأسيس وطن نشترك فيه جميعا.. لأن العراقيين كانوا في مراحل المخاض دائما.
وحين سقوط « دكتاتورية البعث» كان الأمل عريضا في إستعادة الهوية العراقية بواقعية مع إنبعاث «الهويات الجزئية» كعوامل مساندة للتكامل النفسي والإجتماعي للشخصية العراقية التي عانت من الإنفصام والمظلومية طويلا..
لكن «الحلم العراقي» سقط كأي «يوتوبيا» لأن العراقيين لم ينضجوا بعد لحمل بذرة التوافق والتعايش وصولا الى «العقد الإجتماعي» وبناء دولة المؤسسات.
العراقيون الآن يعيشون صراع الهويات الجزئية كنتيجة منطقية لإزدواجية العراقي الأزلية. العراقيون في حالة المخاض دائما.
متى نُخصب بيضة الأمة بسائل التنوع المنوي العراقي لنحصل على كائن َيتقبل الوجود العراقي هوية كبرى مع الإحتفاظ الكامل بهوياته الجزئية؟.
سؤال في صميم ما كان يفكر به مارتن لوثر «إما أن نتعايش كأخوة، أو نقضي على بعضنا البعض كالحمقى».