ادب وفن

مسرحية من فصل واحد .. أحلام مؤجلة .. / جمال نوري

تنقسم خشبة المسرح الى ثلاثة أقسام، الأول عبارة عن طاولات وكراسي يمثل كازينو أو مطعماً على وجه التحديد ... صور مختلفة معلقة على الجدران ونادل واحد يقف الى يسار المكان بانتظار الزبائن وطلباتهم، أما القسم الثاني وهو الأوسط فثمة خندق او موضع وأكياس من التراب، وفوضى تشير الى ساحة معركة محروثة بالقنابل.. أما القسم الثالث فيمثل حديقة عامة ومصاطب وأشجاراً خضراء ... خلف المشاهد الثلاثة ساعة كبيرة عقاربها مربوطة بحبال أو شيء اشبه بذلك (صوت عقارب الساعة مع موسيقى هادرة ).

يدخل الرجل الى الكازينو وبيده الجوال يبحث عن شيء ما في حيوية :
لقد نسيت هذه المرة أيضاً (يشير الى رأسه)، يا لها من ذاكرة صدئة نخرتها التجارب الحزينة .... أين تركت المفتاح يا ترى ؟ كنت اضعه هنا في جيبي (يرن الجوال بنغمة حزينة) نعم .... هذه الخطوط اللعينة .... أتصلت بك أكثر من مرة ولكني بالكاد سمعت منك كلمتين .... أين أنت الآن ؟ حسناً .... فليكن، ولم لا .... لقد تعبت من الانتظار ... ولكن (يضحك بقوة)انتظارك من أجمل الاشياء التي ادمنتها ..... نعم ....نعم .... في نفس المطعم ..... لقد ضجر النادل مني ....تصوري .... أرجو ان تصلي بسرعة .... لابد ان نتحدث هذه المرة بجدية ونخطو خطوة واثقة نحو الامام .... (ينقطع الخط).... اللعنة على هذا الموبايل (يضعه في جيبه) ثم يواصل البحث في جيوبه (يجلس اخيراً) (يشرب رشفة ماء من قدح مترع).
- المشكلة ان الامور بدأت تتعقد ... بدأ ذلك من عقود ....كلما حاولنا ان نقترب من واحات الفرح ينبري خطب ما ليرجئ مشاريعنا المستقبلية (يمسح فوديه الاشيبين) لقد رسم العمر ذكرياته البيضاء في شعري الاسود الفاحم (يبتسم) لم يكن كذلك قبل سنين، لكنها الشيخوخة والحزن والموت البطيء (يرتفع صوت اغنية تراثية)(ظلام) ثم تضاء بقعة الحديقة الصغيرة في اقصى المسرح ومصطبة ... يجلسان ازاء بعضهما.
المرأة هل فكرت جيداً بالامر ... انت ترى ذلك ؟
الرجل : نعم ... هي الحرب لاشك اعلنت تباشيرها ... تصوري في الحرب يهزم كل شيء ... الحياة نفسها تتراجع لقدرها المحتوم ... وستعلق مواعيد الحب الكثيرة ويغادر الرجال الى جبهات الموت ...
المرأة : ولماذا لا نتحدى براثنها وأنيابها القاتلة، لنتزوج وننجب اطفالاً رائعين .
الرجل : كي نوقد نار الحرب بهم .... لان تاريخنا سلسلة من الحروب المتواصلة ..
المرأة : دعنا نتحدى الكراهية واليأس .... لنوقد قناديل الفرح، لا تكن متشائماً ...
الرجل : أنا لست متشائماً ولكن تخيلي معي (ينهض)ماذا لو عدت لك من اول معركة ضارية في تابوت ... وربما اعود بنصف جسد ... كيف سيكون مصير الاطفال؟ المرأة (أسم الله) لا تقل هذا يا حبيبي ... إذا كنا نفكر بهذه الطريقة فهذا يعني اننا سنرفع الراية البيضاء ..
الرجل : ابداً ... هو ليس استسلاماً ... تعرفين حبي لك وللحياة واصراري على ابتكار الاشياء الجميلة ... لكن يبدو ان هذا اصبح مستحيلاً في زمن داعر صار الرهان فيه على مصائرنا أمراً مفروغاً منه لصالح بعض الرؤوس الفارغة .
المرأة : انك تختبئ خلف الذرائع مرة اخرى ... أنا أرى ان نتزوج
أن نعلن الفرح نصلاً أهيف في خاصرة الحرب ... سحقاً للحرب
الرجل : أما أنا فأرى ان نتريث قليلاً لعلها تنتهي في القريب العاجل هل تصدقين حين سألوا محمود درويش لماذا لم تتزوج فرد عليهم فوراً لا أريد أن انجب ثلة من اللاجئين .
المرأة : بل لماذا لم ينجب ثلة من المقاتلين لكي تستمر القضية؟ المهم انا لست معك وما ذا لو لم تنته الحرب ... هل نسلم امورنا لأتون جنونها المستعر ..
الرجل : دعينا من هذا الان (تبدأ موسيقى راقصة .... يرقصان على انغامها الى ان يحط الظلام )
(اصوات انفجارات ودوي متواصل يصحب ذلك اضاءة متسارعة وبمختلف الالوان حيث يطغى اللون الاحمر)
(يرفع الرجل رأسه من موضعه وهو يرتدي خوذة)
يبدو ان جنونها لن ينتهي ... هي الحرب إذن ... لا أريد شيئاً غير العودة سالماً، ولكن كيف سأسلم من هذه الشظايا المتطايرة لا ادري، هل اصدق ذلك الشاعر الذي قال شيئان ينبغي أن نقاتل من اجلهما الوطن وامرأة جميلة؟ ... قدرنا أن نكون ضحايا حماقات ساقتنا إلى هذه الأرض القصية ... من كان يتوقع أن تكون هذه الأرض المنسية مسرحاً وملاذاً ومقبرة لنا ولهم ... لا أذكر تماماً ذلك الذي قال .. ما من أحد يخرج من معركة منتصراً الانتصار أسطورة لا أومن بها ... الانتصار خرافة يلفقها تجار الحروب في سورات شبقهم المستديم .. الانتصار .
على ماذا ؟ ماذا يعني النصر وعجلة الموت تطحن الآلاف بلا رحمة واذرع الحرب تبطش في كل شيء وتترك خراباً مروعاً في مدننا الحزينة .... كم هي حزينة بلادنا؟ ...(يستمر دوي الانفجارات بلا توقف)
يجلس الرجل على الكرسي في المطعم في هيأة من يحلم.يوقظه النادل: عفواً ... لم تطلب شيئاً هل ستتأخر كثيراً ؟
الرجل (يتفاجأ وكأنه يستيقظ من حلم)من .... من ..... هل جاءت ؟
النادل عفواً استاذ لقد سألتك فقط ....
الرجل لا ضير ... ستأتي ... اصبر عليّ قليلاً وسأجزل لك العطاء... النادل لا بأس (ثم ينسحب الى مكانه في نهاية المسرح)يتصل الرجل عبر الجوال ... الو .... أين أنت الان ... لماذا تأخرت يا حبيبتي ... أنه الزحام لا شك .. شوارع بغداد ما عادت تتسع لفضلات الغرب انهم يصنعون ويغرقون شوارعنا بعلبهم الحديدية الفارغة ..
الرجل نعم ... انا انتظر ... لا أملك غير الانتظار (يقطع الخط) (ينهض الرجل )
- منذ ثلاثين عاماً انتظر .... انتظر لحظة ينتهي هذا النزيف ... أن يتوقف الموت ويبتعد عن شوارعنا ومدننا وبيوتنا ...
إلا انه يخيم على أنفاسنا وأحلامنا ومشاعرنا، يتربص بنا في كل زاوية ومنعطف وشارع، أنه يلون لوحتنا الكبيرة بالاحمر القاني ... (ظلام)
(في الحديقة الصغيرة يتمشى الرجل قلقاً بينما تجلس المرأة عل الكرسي بعد قليل يتكلم :
- ها هي السنة الثالثة تمضي والأمور تتعقد أكثر ... ستنتهي الإجازة غداً وسأعود كرة أخرى إلى غابة الشظايا وفك الموت الحديدي الذي لا يتوقف عن التهامنا واحداً تلو الاخر ... في المرة الأخيرة. اعدموا جندياً تخاذل وانسحب من ساحة المعركة ... ربما أراد أن يمسك بتلابيب الحياة او ان يعود الى حبيبته المنتظرة أو ربما أراد ان يسخر من الموت فوجد حبائله تلتف عليه ... أوقفوه أمامنا هكذا (يمثل دور رجل مقيد مغطى الرأس ثم هطل الرصاص من كل جانب ... طا ...طا ...طا..) وانحنى رأسه بعد ان امتلأ جسده بالرصاص ... اظن روحه المحلقة كانت تسخر منا جميعاً أو ربما كانت تصرخ بنا وبقسوتنا اللامتناهية
المرأة : لماذا تكدر صفو اللحظات الأخيرة من اجازتك .... أمك تتوسل اليك ... أرجوك حقق أمنيتها الأخيرة وأمنيتي ... دعنا نتزوج .... لنملأ بيتنا بضحكات الأطفال وضجيجهم ستعود من الحرب سالماً معافى ... من يدري ... قد تنساك عجلتها في دورانها الرجيم .... إبذر في احشائي طفلاً جميلاً (تتلمس بطنها برقة) سأحمله ولن أضجر حتى لو استغرق ذلك تسع سنين، سيكون جميلاً وأنيقاً مثلك (تدور بفرح وهي تحلم)وجهه كالقمر وعيناه كالبحر .. لقد صدق ناظم حكمت حين قال ... أن أجمل الأطفال هم أولئك الذين لم يولدوا بعد وأجمل البحار تلك التي لم نرها بعد ... أتوسل اليك (تتذرع) أغمض عينيك واترك وساوس الحرب وهواجسها المظلمة ...
وأعلن من دون تردد قرارك ... هيا ...هيا ....
(في الموضع وتحت وابل الرصاص )
هذه سواتر الموت ... كم من الأصدقاء غادروا هذا المكان بعد ان اقتنصتهم شظية طائشة، نعم تلك الشظايا التي تتطاير كجمرات صغيرة تافهة سرعان ما تجهز على حيوات الجنود .. آزاد صديقي الحالم اصابته شظية صغيرة في رأسه .. كان نائماً وربما كان يحلم بمدن الثلج ... بعدها لم يستيقظ ... أخذت جثمانه إلى أهله في رحلة مؤلمة كنت أتمنى أن تطول أكثر مما ينبغي، فقط لأتجنب ذلك الموقف المأساوي الذي كان مروعاً بحق حين توقفت السيارة أمام بيتهم ... تلعثمت ولم استطع ان امنع نفسي من البكاء (يبك) (ظلام) (في المطعم...) (ينهض مرة أخرى ليتصل بالجوال) أين أنت الآن ... ماذا ؟ الطريق مزدحم ...لا ضير ستصلين يا حبيبتي وسنجلس طويلاً سيكون قراري حازماً هذه المرة لان لعبة الكر والفر لن تنتهي وان النزف لن يتوقف ... إلى متى سأستسلم إلى الظروف ... أنا بانتظارك حبيبتي (يطلب من النادل قدحاً من الشاي)
في الحديقة يجلس وحده ... تصحبه أغنية ثمانينية حزينة ينظر الى ساعته بين الفينة والأخرى وينتظر ...
- متى ستأتين ... أعرف انك مغتاظة مني ... أمي كذلك انها لا تحدثني منذ أسبوع ... لماذا نولد ونحيا ونعاني ونحب إذا كنا سنموت ؟ لا استطيع ان أتخيل ذلك، شارعنا أصبح يكتظ بالأرامل والأيتام ... من يدفع ثمن ذلك، ما هي جريرتهم لكي يعيشوا في هذا الضنك والعوز ... ؟ عشرات اليافطات السود تعلن موت أروع الجنود الذين غادروا الى حافات الموت ... الموت المجاني الذي يحصد من دون هوادة ... يتسلق أجسادنا الضامرة ويسخر من إصرارنا في مواصلة الحرب ... ليس إصرارنا نحن، بل إصرار أولئك المنكفئين في غرفهم السرية يتربصون بفجائعنا ويستلذون بنزيف أرواحنا الراعف .. اوقفوا هذا الخراب ... من يوقفه يا ترى ؟!!
(في المطعم) (يسير الرجل .... يستبد به القلق )
- متى ستأتين يا حنان .... سنرقص هذه المرة طويلاً.سنغني أغنية (يغني مع الأغنية التي تترد كلماتها على أسماعه)(يرقص مع ايقاع الأغنية)يسقط على الأرض
- تراها هل ستأتي ... أم أنها ستقترب من سيارة مفخخة أعدت لقتل الناس البسطاء ... تقترب وهي تحلم بأطفالنا المؤجلين كأحلامنا المؤجلة ... لا لا ...لا ولكنني قلت لها اننا سنتزوج وليكن ما يكون ... صحيح أنني تأخرت كثيراً في اتخاذ قرار الحسم إلا ان ذلك لن يمنعنا من إنجاب العديد من الأطفال ...اعرف انها سعيدة الآن ... تود لو تحلق بجناحين كبيرين تعبر بهما أحياء بغداد المكتظة بالبشر والسيارات وتحط هنا ....هنا قرب المطعم، ثم تتسلق السلالم بروية وهدوء ...أخشى أن تتعثر بالسلالم وتقع ...سأستقبلها بأحضاني هكذا من دون وجل، سأمسح أحزانها وأطبع قبلة رائعة على وجنتيها ...
بل قل على شفتيها ... سأحلق بها عالياً ... عالياً كالنسر هنا ...
ها .... ها.... ها هو الجوال يرن (يرن الجوال)
- نعم الو ... من حبيبتي الغالية ؟ اين وصلت ... جميل جداً اذن انت لست بعيدة ... كم انا سعيد يا نرجستي ...
- (صوت دوي هائل يهز المسرح، تسقط الكراسي ويسقط الرجل ارضاً )
(بعد وهلة يعم الهدوء ويطول قليلاً (ربما خمس دقائق) حيث لا حركة او نأمة تصدر من الرجل ... يطول الصمت ... ثم يرن الجوال الى ان يتوقف ... ثم يرن كرة اخرى ويتوقف في المرة الاخيرة تمتد يد الرجل بصعوبة ليرفع الجوال ويقول بصعوبة
- ألو .... حبيبتي .... ما زلت بانتظارك ....