ادب وفن

"ماضي".. والشخصية المتفاعلة مع الحدث / علوان السلمان

القص القصير فعالية عقلية مقترنة بمعطيات الواقع العياني في صور متخيلة..محملة بأبعادها الإنسانية والوجودية..والقاص عبدالكريم العبيدي في نصه القصصي "ماضي" ... يمارس فن تكثيف مواقع الرؤية المشبعة بالحركة وعمق المضمون بدلالاته الإنسانية..

فضلا عن أنه يحاول تجاوز الواقع المرتكز الحيوي كي يلامس قضاياه الإنسانية بلغة مكتنزة ورمزية مكثفة وإحالات متميزة بوعي جمالي..
"النزيل الذي كان يقاسمني غرفتي مات.. صاحب الفندق يعرف ذلك.. ولطالما هز برأسه مؤيدا.. ومساعده يبدي أسفه كلما شاهدني.. "ماضي" الصباغ الأخرس كان شابا لطيفا.. هكذا تجيبني المنظفة الشابة.. فأعيد لها ما رويته مرارا:" في المشرحة أشار أحدهم إلى جثة مشوهة وزعم أنها جثته.. كدت لا أصدقه لولا ذلك القميص اللعين وبقع الأصباغ المنقوعة بالدم.. قلت:لا.. رددتها كثيرا للإجابة على استفساراته.. لا أسرة له.. لا أقرباء.. لا معارف.. انه مثلي مقطوع من شجرة.. المشرحة تخلصت من جثمان ماضي وسلمته لي.. وأنا دفنته في المقبرة وعدت بقميصه الى الفندق..علقته بمكانه القديم..."..
فالنص يهيمن عليه عنصر الشخصية المتفاعلة مع الحدث ببناء فني يتداخل فيه الوصف والسرد لتعطيل حركة الفعل من جهة واعتماد هوية متجاوزة في تحطيم أسوار السرد التقليدية التي تحايث الحكي بنظرة متأملة لحركة الواقع..مع اعتماد بناء التوازي لإشكالية الفكرة بحركية تنهض على مجموعة أفعال ابتداء من العنوان العلامة السيميائية المتشكلة من فونيم له دلالته التكوينية التي تتشكل من مكونين شخصي وزماني.. فضلا عن اكتنازه بدلالات موحية تظهر أمام المتلقي في كل محطة من محطاتها التي تميزت بلازمتها المنولوجية "ماضي الذي قتل ودفنته بيدي وعدت بقميصه الى الفندق... لقد لمحته مرارا بجلسته البائسة تلك.. كان يمد قدميه ويطأطئ برأسه ويشرع بإحصاء البقع الملونة.. البقع المتلاصقة من أعلى كتفه إلى أسفل بطنه والتي كانت تدعوه لتعرض عليه قصصها..."..
فالنص يركز على الشخصية ويجسد اضطرابها النفسي متنقلا ما بين ضمير المتكلم وضمير الغائب في مناجاة طيف الشخصية الرئيسة " ماضي ".. فيقدم نصا سرديا متعدد الحقول الدلالية عبر مقطعية منحوتة بلغة مكثفة العبارة.. مركزة التعبير.. مشبعة بالإيحاءات والإيماءات مع رصد كل ما يثري الجو الدرامي المشهدي.. فضلا عن انسنته الجمادات اللونية وتركيزه على الهوية المكانية بشقيها "المغلق والمفتوح" والتي شكلت جزءا متميزا من جماليات النص السردية فهناك "الفندق وشارع السعدون وساحة الطيران وحديقة الامة...".. فضلا عن توظيفه للتقانة اللونية عبر البقع التي زخرفت قميصه التاريخي "الأسود/ الأبيض/ الوردي/ الأصفر..".. كونها موحياً اشارياً يعد من المعطيات الرمزية في المتخيل السردي الذي يحمل في طياته دلالة سايكولوجية تعزز مجمل الفعالية الإبداعية من جهة ومنح سيمياء النص مساحة دلالية من خلال انسنته كقيمة دلالية تسهم في خلخلة البنى الرتيبة من اجل الوصول الى التوترات السايكولوجية لمسيرة الخطاب النصي..
"ثم يغرق في سبات عميق.. لعلني كنت بصحبة احد الطيور.. هكذا كان يعلل غيبته بإشارة محلقة من كفه مصحوبة بأصوات متداخلة تهيئ له ما يشبه الصحو فيبتسم ويتهلل وجهه ثم يختار أول بقعة "بقعة سوداء".. ما بها؟، ها.. شارع السعدون. نعم الذي نفطر فيه.. نحتسي "الشوربة" صباحا على رصيفه.. ها.. هذه البقعة من طلاء أرصفته منذ أعوام عديدة.. ماذا؟.. كانت نهارات جميلة.. شاهدت فيها الكثير من المارة.. أجانب.. أطفال. فتيات جميلات.. امرأة جميلة ابتسمت لك.. يا شيطان.. ايه.. هذه بقعة وردية.. أين؟، مسرح؟، المسرح الوطني.. ها.. ها.. مكتظ بالفنانين والجمهور.. عائلات.. ثياب ملونة.. فنانات يرتدين البنطلونات الضيقة.. حفلة موسيقية.. يا لبؤسك يا ماضي.. وبعد.. البقعة البيضاء.. نعم.. نعم.. مدرسة.. مدرسة ابتدائية.. أطفال.. تلاميذ.. المنظفة؟، جميلة وفاتنة.. ها.. أصحيح ما تقول؟، وأكثر من مرة؟ وكيف حظيت بها؟، ها.. بعد ان غادر المدير والمعلمون والتلاميذ.. ايه.. وكانت تجلب لك الطعام والماء المثلج.. انت مغامر يا ماضي.. هذه بقعة صفراء شاحبة جدا.. من بقايا طلاء بيت فخم.. وبعد؟...".
فاللون الذي طرز جوانب النص يبرز كعنصر جمالي لما يشتمل عليه من دلالات تعبيرية ونفسية وفنية واجتماعية تعزز من مضمونه .. فضلا عن أحداث الاستفزاز النفسي وما يتركه من تداعيات.. "فالأسود دلالة الحزن والخطيئة، والأبيض دلالة الصفاء والنقاء والطهر والسلم، والوردي دلالة الحلم .. أما الأصفر فهو دلالة الحزن والموت والبؤس..."..
وبذلك قدم القاص نصا تتجلى فيه كثافة وعمق المعنى والحدث المستجيب للحبكة الحاضنة للعقدة التي ينصب فيها الصراع بين ثنائية تكشف عن المفارقة عبر لغة محملة بالإيحاءات التي منحت فضاءات النص أبعادا وقدرا من التدفق السردي الذي شغلته الحوارات الذاتية "المنولوجية" والموضوعية "الواقعية"..