ادب وفن

الطبيب والفنان المبدع.. كتاب جديد للتكمجي (1-2)/ إبراهيم السواعير

استكمالاً لموسوعاته الغنيّة المنهجيّة بالتوثيق والتأني والبحث التي تؤرخ لرواد الحركة الفنية والفكرية والوطنية في العراق، أنجز الدكتور حمدي التكمجي كتاباً فاخراً في إخراجه ومجموعة الصور والذكريات والشخوص والفصول التي يجمعها عنوان" قتيبة الشيخ نوري: الطبيب والفنان المبدع".

وهو منجز يضاف إلى المنجزات التي رهن الدكتور التكمجي نفسه لها منذ مدّة طويلة لمفاجأة الوسط المثقف العربي والعراقي، وبالطبع الوسط الثقافي الأردني كون الكتاب يصدر من عمان، وقامت بتصميمه وإخراجه الفنانة المبدعة كفاح فاضل آل شبيب، مثلما أبدعت تصميمات المؤلف السابقة في هذه السلسلة الفكرية الفنية الوطنية المهمة في العراق.

الإنصاف والتوثيق

الدكتور التكمجي ذاكرة غنيّة، ومؤلفاته القيّمة الفخمة لا تندرج إلا عن مثقف جايل كل المثقفين العراقيين وعاش طموحاتهم وعلم قسوة المراحل التي مرّوا بها باتجاه تحقيق الحلم. وحين ينطلق الدكتور التكمجي مستعيداً ذكريات بغداد والمنفى الثقافي فإنّ التأليف في هذه الحالة هو بقصد الإنصاف ورفد الخزانة العربية بكل ذلك الدفق الإبداعي في العراق، وهو دفقٌ لا ينقطع ويمتزج فيه الموضوع السياسي بالفكري بالفني بالأدبي، وفي ذلك طول نفس للتكمجي في توفيره مادة الكتاب النادرة في صورها مهما كان التعب في توفيرها أو في استنطاقها لتتحدث عن تلك المرحلة العصيبة من تاريخ العراق.

سطور مضيئة

وُلد الدكتور قتيبة الشيخ نوري في بغداد عام 1922 من عائلة كردية معروفة، وتخرج في الكلية الطبيّة في بغداد عام 1949، وحاز دبلوم جراحة الأذن والأنف والحنجرة من جامعة لندن عام 1959، وكان جراحاً بارزاً في هذا المجال، وأسهم بفاعلية في الحركة الوطنية العراقية منذ سني دراسته، وهو رسام وعضو في "جماعة الرواد" في الفترة 1950-1959، وكان رئيساً لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين للأعوام 1972 و1974، وقد مثّل العراق في سكرتارية الاتحاد العام للفنانين العرب في سبعينات القرن الماضي، وهو من "جماعة البعد الواحد"
أقام ستّة معارض رسم شخصية في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث وقاعة جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين في نهاية الستينات من القرن الماضي وفترة السبعينات منه، وكان أُقيم له معرض في قاعة الأورفلي ببغداد عام 1985 بعد وفاته.
واشترك في العديد من المعارض داخل العراق وخارجه، منها معارض الكلية الطبية في بغداد في أربعينات القرن الماضي، ومعرض الهواء الطلق في هامستيد بلندن أواخر الخمسينات من ذلك القرن، إضافة للمعارض السنوية لجماعة الرواد في خمسينات وسبعينات القرن الماضي، والمعارض السنوية لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، ومعارض جماعة البعد الواحد في السبعينات، ومعرض الملصقات الجدارية، ومعرض الفن العراقي المعاصر، ومعرض الواسطي الفني في بغداد، ومعرض الفن العراقي الشامل، ومعرض السنتين العربي الأول في بغداد، ومعرض أسبوع النضال العربي في بغداد، ومعارض الفن العراقي المتجولة خارج العراق في بولونيا والسويد والنرويج والدنمارك ودمشق، وكل تلك المعارض كانت أقيمت في فترة السبعينات من القرن الماضي.
قتيبة الشيخ نوري من المثقفين العراقيين البارزين الذين اهتموا بالآفاق الثقافية والاجتماعية للفنون وقدّم العديد من المحاضرات، منها: تاريخ البوستر، الميزات الفنية للبوستر، البوستر السياسي، البوستر العراقي، الحرف العربي والبوستر، الفن والتكنولوجيا، العلاقة الفلسفية بين العلم والفن، الفن البصري، الرسم والفوتوغراف، الفن الإسباني المعاصر، الجدران في الأندلس، الفن العراقي المعاصر.
قدّم هذا الطبيب الفنان المبدع عروضاً فوتوغرافية، منها عرضٌ عن الحرب المأساويّة في لبنان بعنوان:"بيروت تحترق"، مشتركاً مع الشاعر بلند الحيدري في نادي بغداد عام 1978. ثمّ فارق الحياة نتيجة حادث سيارة مطلع عام 1979.
وصف الدكتور حمدي التكمجي، في تقديمه الكتاب، الدكتور قتيبة الشيخ نوري طالباً متدفقاً حيويّةً ونشاطاً وذكاءً، وطبيباً إنسانياً ضليعاً في تخصصه، وواحداً من رواد الحركة التشكيلية العراقيّة، وفناناً مبدعاً في التصوير الفوتوغرافي، وذا إلمامٍ كبير في فن النحت والبوسترات والموسيقى، ومثقفاً وطنياً أسهم بشكل فاعل في الحركة الوطنية. وبيّن التكمجي أنّ قتيبة الشيخ نوري جاء لوالدٍ متدين كان في الوقت ذاته منفتحاً دينياً وثقافياً.

نشاطاته الوطنيّة

يرى الدكتور التكمجي أنّ الانتصار العالمي ضدّ الفاشيّة في الأربعينيات، وتأسيس مجلس الأمن والأمم المتحدة وانتشار أفكار الحريّة واستقلال الشعوب في المجالات العالمية، شجّع الحركة الوطنية في العراق "بصفتها إحدى حركات الشعوب المستعمرة والمظلومة" أن تنشط ثقافياً ونضالياً للحصول على الحرية والعدالة والمساواة والاستقلال التام، وكان "اتحاد الطلبة العام"، أحد تنظيمات الحركة الوطنية الذي لعب دوراً مهماً في نشاطاتها.
ففي هذه الفترة نفسها اختير قتيبة الشيخ نوري واحداً من قادة اتحاد الطلبة العام الذي أسهم مساهمة فعالة في نشر البيانات والنشاطات والمظاهرات ضد معاهدة "بورت سموث" في 1948 وكذلك أسهم في الاجتماع المشهور الذي انعقد في "ساحة السباع" وحضره الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وبعض قادة الحركة الوطنية وأعلنوا مطالبهم الوطنية ضد معاهدة بورت سموث وضد الحكم الاستبدادي التعسفي البعيد عن تطلعات ومصلحة الشعب العراقي.
وقد أدت جهودهم ضمن الحركة الوطنية إلى إسقاط المعاهدة التي أرادت تكبيل العراق بشروط مجحفة. وفي هذا الاجتماع تم الإعلان عن انبثاق "اتحاد الطلبة العام". وأصبح اجتماع "ساحة السباع" من الأحداث المهمة في تأريخ العراق السياسي والوطني. واستمر اتحاد الطلبة العام في نشاطه الوطني بصفته طليعة العمل الوطني والاجتماعي والثقافي وقائداً للحركة الطلابية العراقية التي لعبت دوراً مهماً في تاريخ الحركة الوطنية والثقافية، وكان قتيبة أحد قادة هذا الاتحاد.. بنشاطه وثقافته وآرائه وشجاعته الوطنية التي استمرت طوال حياته، وبسبب نشاطه الوطني بصفته رئيساً لاتحاد طلبة الكلية الطبية كان قد فصل لمدة سنة من الكلية.

الفكر الوطني

يقول الدكتور التكمجي إن ميول قتيبة الشيخ نوري وإحساساته وتربيته الأخلاقية والوطنية والإنسانية التي كانت تتطور وتتسع بتوسع ثقافته التقدمية جعلته دائماً يقف إلى جانب الفقير والمظلوم والمضطهد ويصطف مع الحق والحرية والعدالة للجميع. تجلى ذلك في ممارسته هذه المشاعر نظرياً وعملياً.. بعمله طبيباً إنسانياً حاذقاً وفناناً واقعياً تعبيرياً رائداً ومثقفاً ثقافة عالية وموسوعية بمحاضراته الكثيرة المتعددة وكتاباته في مختلف مجالات الفن والحياة.
ففي عام 1963 أو بعده، كان تم اعتقاله في السجن رقم واحد "معسكر الرشيد" مع خيرة المثقفين من الأطباء والمهندسين والأدباء والشعراء وقادة الفكر والضباط التقدميين ثم نُقلوا في قطار الموت في تموز 1963 الحار "50 درجة" داخل عربات شحن حديدية مغلقة مزفتة من الداخل بالقار ومن الصعب التنفس فيها إلى مدينة السماوة ومنها إلى سجن "نقرة السلمان" لقتلهم والتخلص منهم بواسطة الحرارة الفائقة وصعوبة التنفس، وقد لعب د.قتيبة وكذلك الدكتور رافد صبحي أديب بابان دوراً مهماً في إنقاذ الركاب من الموت بمنعهم من شرب الماء قبل أخذ الملح وذلك لجفاف أجسادهم وجلدهم ومعالجة المغمى عليهم في القطار. وكذلك مارس قتيبة الشيخ نوري الطب والمسرح والثقافة في سجن نقرة السلمان بحيث صار السجن يسمى جامعة نقرة السلمان بسب كثرة المثقفين فيه.

الفن التشكيلي والريادة

يقول الدكتور التكمجي إنّ قتيبة الشيخ نوري عبّر عن موهبته الفنية منذ دراسته الأولية قبل دخوله الكلية الطبية في بداية الأربعينات واستمرت نشاطاته الفنية في الكلية الطبية جنباً إلى جنب مع دراسته الطبية الأكاديمية، وله الفضل في قيام أول معرض فني فيها سنة 1945، بالإضافة إلى تشجيعه الفرق المسرحية حتى أنه بدأ بتمثيل إحدى المسرحيات، كما كان يعقد جلسات للطلاب لسماع الموسيقى الكلاسيكية العالمية. ويذكر التكمجي ريادة قتيبة الشيخ نوري ومبادراته وتأسيسه لكثير من النشاطات الفنية والاجتماعية والثقافية أثناء الكلية وبعدها، وعضويته في جماعة الرواد وجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين وتمثيله العراق في سكرتارية الاتحاد العام للفنانين العرب بداية سبعينات القرن الماضي وعضويته في جماعة البعد الواحد بالإضافة إلى معارضه العالمية ومحاضراته القيمة الأصيلة.

الانطباعية والتجريد

يشرح الدكور التكمجي أساليب قتيبة الشيخ نوري في الرسم وتجديده وابتعاده عن التقليد، والمرحلة الأولى في استخدامه مختلف الأساليب الانطباعية والتجريدية "المفهومة" والرمزية والواقعية والمزج بينهما أحياناً. ويرى التكمجي أن إعطاء اسم لأساليب قتيبة في الرسم سواء الانطباعية أو التجريدية أو البعد الواخد أو الدائرة "الإنسان والجدار"..إلخ، هو تعبير مجازي وليس تعبيراً محدداً نهائياً، لأن الدكتور قتيبة يعتقد بانعدام الفواصل بين أصناف الفنون الحديثة بعد أن أصبح الفنان حراً ومنفتحاً في تعبيراته الفنية، ويذكر التكمجي البحث الذي نشرة قتيبة في مجلة "ألف باء" منتصف سبعينات القرن الماضي.
ويعتقد د.قتيبة بالجذور التاريخية السومرية والبابلية والأشورية للفن العراقي وقد انتهت عند البغدادي الواسطي عام 1237 وبعدها انقطع هذا الفن لمدة 700 سنة، وبدأ الفن الحديث في الأربعينات بعد إرسال البعثات إلى الخارج لدراسة الفن، أما الانطلاقة الفعلية للفن العراقي الحديث فكانت بدأت في السنين الأولى من الحمسينات بظهور ثلاثة تجمعات رئيسية: جماعة الرواد برئاسة الفنان فائق حسن وهي جماعة استخدمت التجربة الحسية في رسم الطبيعة والتعبيرات الشعبية، وجماعة بغداد للفن الحديث برئاسة الفنان جواد سليم وقد جمعت بين حسية الرواد وتفهم أهمية الاهتمام بالتراث العباسي خصوصاً والإسلامي عموماً، وجماعة الانطباعيين الذين تأثروا بالمدرسة الانطباعية الغربية ولكنهم توصلوا إلى انطباعية عراقية مميزة. يتحدث الدكتور التكمجي عن اعتقاد الدكتور قتيبة بأن الفن العراقي الحديث نتاج بيئته الطبيعية أو الاجتماعية أو الإنسانية أو السياسية مما جعل لهذا الفن مساحة كبيرة بنكهة وطنية واجتماعية وإنسانية.
يذكر التكمجي أن قتيبة الشيخ نوري أشاد بتجرية الفنان المفكر محمود صبري في مجال نظرية واقعية الكم- وكان التكمجي ألف كتاباً مهماً في سيرة محمود صبري الفنية والسياسية- ويتحدث التكمجي عن ثقافة قتيبة الفنية الواسعة وحبه التجديد والتطوير، حيث المقولة (فن من أجل الإنسان)، كما وجد التكمجي ذلك في مجلة آفاق عربية 1985.

الدائرة

يرى التكمجي أن العالم بالنسبة لقتيبة الشيخ نوري دائرة، معبراً عن رؤيته للعالم: "الحياة دائرة عظيمة ذات محيط لا مرئي مركزها الإنسان"، وفي ذلك يستعيد التكمجي دفاع قتيبة عن استخدامه الدائرة: "إنها تجريد ولا تجريد في الوقت ذاته، وما العيب في التجريد؟!.. ولماذا يلجأ الفنان إلى التجريد عندما ينشر التوافق بين إيقاعيته وإيقاعية الفكرة التي تعبر عنها اللوحة إذا ما أحس بالرجوع إلى اللوحة".

يرى المؤلف أنّ الأسلوب الذي استخدمه الدكتور قتيبة في تقسيم بعض هذه الدوائر إلى أنصاف وإلى هلالات أو بالدمج بينها إنما جاء ليعبر عن فكرة مفادها بأنه أسلوب لا تجريدي، إذ قال قتيبة: "الدائرة رفض لمكننة الإنسان وعودة إلى النبض والتفكير والحلم والحرية"، ومن هذا يستنتج التكمجي أن ذلك تجديد في فن الرسم التقدمي ذي المعاني الواقعية وذي التشكيلة من الألوان الفنية الجميلة. وينقل التكمجي ما قاله جبرا إبراهيم جبرا من أنّ قتيبة يمتلك "نزعة تعبيريه استبدت به".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عن جريدة "الرأي" الاردنية