ادب وفن

بلاغة الالتفات إلى الأمام الموقف والاحتجاج (2-2) / جاسم عاصي

هذا التوزع جاء من سبب موضوعي مركزه تفشي الخلل في المنظومة العامّة. والدليل على هذا ما ذكره في خاتمة القصيدة.
وهو نوع من التهكم أيضا ً المكلل بالنقد على ما يجري:
«أنا شاهد!
كنت بنفسي هناك،
في متنزّه أشعار المدينة،
كانت هناك قصيدة جميلة...
ناعمة وفارعة الطول،
تشبه فتاة مظلَّلة،
اغتالوها...
بنقد كاتم الصوت».
هذا المقطع يؤشر للكثير من الاستخدام في اللغة المجازية، التي لا تسمي الأشياء بأسمائها، بل تنحرف عنها من أجل الدلالة التهكمية ومنها «متنزه، أشعار» وعلاقة الاثنين ببعض من خلال الاستبدال كالــ «أشعار، المدينة، متنزه» كذلك استبدال الوردة في الحديقة مثلا ً بالقصيدة الجميلة ، ثم إضفاء خصائص جسد المرأة على جسد القصيدة ووصفها بـ «قصيدة جميلة وناعمة وفارعة الطول» إذ يُسقط جمال المرأة على القصيدة. وهو انزياح يؤكد قدسية الشعر ورفعته. ولا يخفي جوانب تشبيهه هذا، بل يؤكده، ولكن بحالة مغايرة. فالفتاة «مظَّللة» ولما كانت هكذا جوز لهم أمر اغتيالها. ويتواصل بتهكمه الذي طغى على جملة القصيدة في كون أداة الاغتيال هي النقد. أي الإغواء. وهو نقد يتمثل خاصية السلاح القاتل.
لعل الشاعر في كل استخداماته واستبدالاته، إنما يؤكد مجاز اللغة أولاً وقدرتها على التطويع ثانيا ً وهذا التطويع حصرا ً يدفعه إلى اجتراح توصيفاته للظواهر، فهو يراها بعين ثالثة، تحاول اختراق المألوف. وفي هذا تلعب عوامل كثيرة من شأنها إظهار الأشياء والمرئيات على غير ما يراه الآخر. والشاعر هنا لا يمتلك أداة تعبير سوى اللغة. لذا فأمر تطويعها بات ينساق وراء وعي الفكرة المتأتي من وعي الواقع اليومي، الذي عجزت اللغة المألوفة الاستخدام من الاقتراب من مركزها فتزعزعه. إن اختيار اللغة المشحونة بالتهكم عبر الاستخدام الأمثل لشاعريتها المتمثل لغة كهذه، هو السبيل للتعبير وعكس الصوّر من خلال وجهة النظر. لذا نجد الشاعر لا يبتعد عن استخداماته هذه، بقدر ما يُطور منحاها عبر التوفر على مُخرجات للمفردات وتركيب الجملة الشعرية، كذلك التوفر على مناخ ذاتي يفتح أمام القصيدة باب الدخول إلى غير المتوقع تلقياً. وهذا ما نعني فيه جانب التعبير بالشعر.
وفي جانب المغايرة في السياق والنمط، نجده يبتعد عن التقليدي في النظرة وفحص الواقع. فهو يجري فحصا ً لمستلزمات القصيدة ابتداء من عتبتها، دخولاً في مسارها. فمثلا ً «راعي الهموم» فيه استبدال وإضفاء الكثرة على الأشياء المعنوية وهي «الهموم» ووضعها بين مستويين. الأول: ما يمنحه الراعي لخرافه من حرص وعطف، وما يوليه الشاعر للآخرين في علاقته الحسيّة بهمومهم. والثاني: أن يترك لهذا الراعي يومياته التي تخص الآخرين من خلال أيام الأسبوع. ابتداء من السبت وانتهاء بالجمعة. في السبت يتخذ من ما يشبه خيبة الأمل التي يواجهها، وهو يحاول المساس بالمرهف من الشعور عبر مسميات عدّة. لكنه يقابل بما يعاكس هذا التصوّر للأشياء والعلاقات من خلال ثنائيات متنافرة كالآتي:
ــ طهارة الليل ــــــــــــــــــ نواقص المغفرة.
ــ أسوّد شعري ــــــــــــــــــ لم التوقف عن السعي .
ـــ أبيع الأغاني ـــــــــــــــــــ سد أذنيه.
ــ أزرع الحَدَقات ــــــــــــــــ أغمضت عينيها.
ــ أبذر القهقهات ـــــــــــــــ أجهش بالبكاء.
ومحصلة هذه الثنائيات في التعبير عن المختلف في الموقف، نجده يوضح المرمى ، فتبرز هوية الضمير في كونه يبحث عن المكان المفتقد. أي الاستقرار في:
«الأرض شرعت في الاهتزاز،
والسماء لم تستيقظ بعد،
نسيم انتظاري التهَب،
ولم أعد إلى مسقط رأسي».
في «الأحد» من الأسبوع تضطرب الأشياء، وتتماهى مع بعضها، دونما حدود واضحة. تنثال صوّرها عبر أسئلة متوالية حتى تستقر في إناء القناعة من خلال سؤال الحيّرة أيضا ً، وأمام أجوبة مضمرة ومبهمة:
«أنعود جميعاً إلى ينابيع الاصطفاف»؟
سؤال فيه وجاهة منطقية، تُزيل الشك عند الذات. ولكن السؤال المترتب على هذا السؤال، هو سؤال مضمر أيضا ً يخص «العودة» تلك. لكن «الاثنين» تكاد تنشر خصائص أخرى تقترب من الجواب ذي الأجوبة المتعددة، تتناولها القصيدة بنفس حاد ومثير. غير أنها أيضا ً تتمحور في سؤال ينطوي على مبهم:
«وا صرختاه... إلى أين أتجه؟
لا يصغون إلى الصمت،
ولا يأخذون بنصيحة عزف الريح».
والبيت ألأخير يقترب ــ وكما ذكرنا في غير موضع ــ من حدث الطوفان الذي يحسم كل شيء قبل أن يطغي مد الماء ــ الخراب ــ . وهو تهديد يتماثل مع «سآوي إلى جبل يعصمني من الغرق ـ ولا عاصم إلا الله» وهو متحقق أسطوري سجّله التاريخ عِبرة للقادم كبقية المتون القصصية. فالشاعر أراد وفق التعبير الذي يتماثل مع النسق الأسطوري لغة ونثرا ً حول ما يحتويه من مجال مليء بالخطأ والخلل الموصوف بمفردات دالّة مثل «القرقعة، الزلزلة، النهر، الفخاخ، السقسقة» ثم يتمها بالريح كما ذكرنا، ويعني فيها صعود زبد الماء حيث الطوفان المعنوي.
في «الثلاثاء» تحضر الثنائيات أيضا ً لإبراز ما يحتويه الواقع من خطأ وكالآتي:
ــ السحابة ــــــــــــــــ لم تشبع.
ــ الفخاخ ـــــــــــــــــ وباء القفز.
ــ لحنتها ـــــــــــــــــ لم تنطق.
ــ الشبابة ـــــــــــــــ لم تجعل نشيداً.
ــ النجمة ــــــــــــــ لم تتلألأ.
ــ اللون ــــــــــــــــ لم يبرق.
كما أنه أيضا ً يضع الضمير في دوامة:
«اليأس... حاصرني هازّاً ذيلَه.
الفوضى... جعلتني أقعي .
القلق... نجّسني».
في «الأربعاء والخميس» يجلس الضمير إلى نفسه، فلا يجد سوى التبعثر والضياع للقيّم التي يضع لها اعتباراً، وقد أثاره من خلال حسّه الشعري في الأيام السابقة، يجد كل ذلك وسط وهم الإهمال والمجافاة. ويكون يوم الجمعة خاتمة اليوميات، حيث يتراكم حس الخيبة من كل ما جرى ويجري، عبر متوالية لخّصت كل محتويات الأيام، ليكون سؤال الأحد هو الأساس في سؤال الجمعة، الذي يقابل كل هذا المنوه عنه:
«واجهتاه ... إلى أين أذهب؟
ها قد لفّوا سجّادة الطهارة،
وأقاموا صلاة النميمة».
في «قصائد تلتفت إلى الأمام» يضعنا بإزاء خمس وعشرين مقطعاً ــ قصيدة فرعية ــ تصب في مركز واحد، لا يبتعد عن مجمل الحراك الوجداني الذي يصوغه المبنى الفكري للشاعر أصلا ً. فوجهة النظر هي البوصلة التي تدفع الذات الشاعرية نحو إجراء الحوار والجدل الرؤيوي مع مجريات الأزمنة. وهي مقاطع تباينت في إيقاعها بخصوص حيادية الموقف وحدّته. وهي في مجملها مقاطع تنطوي على تذكير بما هو مطروح في شعر «طيب» لكن ما يميّزه هو درجة الإيقاع الذي يعتمده في قصائده، لاسيّما في ما يتعلق بالسلّم الصاعد والنازل في التعبير الشعري من جهة، والحفر في المسكوت عنه من جهة أخرى. فالشاعر مولع بالمغايرة التي تتخذ من الرصانة في التعبير سبيلا ً لها. فمفردات مثل «إلقاء القبض ، اختطاف الخسارة، كمائن للانفلات، الكسل، العجز، الاستيلاء، تقويض، حصار» واضح فيها القصد. وهي أيضا ً تُشكّل الموقف المعنوي لكل الأطراف، بما فيه الشاعر كطرف. ولعل عناوين المقاطع ما يوحي بالمتداول ضمن سياقها مثل:
ـــ تمهّلْ_________ وينطوي على دعوة لاستقرار الرأي.
ـــ لا تتعَّجبْ ______وفيه أمر ينطوي على استرخاء.
ـــ لا تقلق _______ دعوة للتبصر.
ـــ لا تندهشْ ______ أمر يراد منه الانتباه.
ـــ حدّقْ _________أي دقق.
ـــ هكذا كان ______تاريخ.
ــ ربما ___________ شك.
ــ قُلْ لي _________ دعوة.
وتتوزع العناوين من بعد ذلك على نحو «لا تسألني، بوسعي» ومن مجموع الأنا «أنا قلت، أنا أريد» كذلك من السؤال والتعجب «كيف يجوز ؟ كم مرة قلت! حتام أبقى هكذا، تكلَّم! كذلك الاحتواء على المحذوف في «من الأفضل أن.../ أنا وَعدتُ...» ومجموعها تحتوي فرشة من التأمل والتبصّر. ولعل الأسئلة هنا تقود إلى الحفر المعرفي في المعاش، لاستكناه المضمر ومعالجته بروح الشعر ذات الضرب الذي اعتاد عليه الشاعر، وهو التعرية والتهكم. أما التعجب، فأنه يُثير الدهشة كما هو مألوف. لكن السؤال الذي يترتب على هذا هو؛ من أي شيء يكون الاندهاش. لاشك أنه حاصل تحصيل للظواهر التي تستفز مشاعر الشاعر، لأنه يأخذها بمأخذ الجد والفحص والإعراض والرفض إن اقتضى ذلك. أما بخصوص المحذوف، فهو يضع المتلقي موضع الاختيار من بعد الحيّرة. لكن سياق النص يوصله إلى ما يعنيه المتروك تحديدا ً. إن توظيف مثل هذا التشوف في الشعر، يعني خلق الحيوية في النص، بسبب توفره على عوامل الحث في الحفر الشامل، ومنه المعرفي. فالفلسفي والاجتماعي والسياسي يأتي من هذا المتن المركزي، ونعني به المعرفي، الذي يقود إلى الوعي، والوعي يقود إلى الشك، وهو بدوره يؤدي إلى المداورة النصّية، ثم التساؤل. بمعنى يتخذ من منهج النقد والنقد الذاتي مسارا ً لرؤاه. فالشاعر بهذا مشارك في حراك الواقع، لكنه منطلق من صيرورته الذاتية، وحصرا ً المعرفية. وقد ذكرت في دراسة سابقة، إن قصائد الشاعر ترشّح خاصية معرفية. أي أننا بإزاء شاعر مثقف.
في متون القصائد التي ذكرنا عناوينها وانتماءاتها، ثمة جدل قائم بين ما يفرزه الواقع، وبين المخيّال الذي يرى ما لم يره الآخر دون الشاعر مثلا ً. لذا نرى القصائد تلك تعمل على مثل هذه الجدلية في رؤية العلاقات القائمة في الوجود، والنظر إليها على أنها تنطوي على محركات ذاتية، أي فعل ورد فعل. لذا فأمر كشف صيرورتها ينبع من حشد تصوّرها وفي فحصها بمستوى تفكيكها. فالعلة والمعلول لم تنعدم في النصوص، بل قامت على نبض تلك العلاقات البانية أو المشيّدة للصوّر البديلة لمستقبل الواقع ــ الحلم ــ .
كما ذكرنا ونحن بصدد قراءة قصائد الديوان، أن الشاعر تأخذه حالات الاستثناء في رؤيته للظواهر، ناظرا ً إلى وجودها الفاعل في الحياة بروح الشعر، بل الشعر المحتج دون ضجيج. الاعتراض ووضوح الموقف متأت من وضوح ونصاعة النظرة في الكشف من جهة، ومن قدرة الشاعر على تكييف ما هو غير مألوف في التعبير من جهة أخرى. بمعنى تحمّل ذائقته الشعرية الظاهرة خصوصية في مجالها الحيوي، لذا فأنه إزاء هذا يُعبّر متمثلا ً المغاير من المفردات والتراكيب في الجمل. وكما أكدنا ؛ في كونه لا يسمي الأشياء بأسمائها، بل يصوغ النسق اللغوي صياغة مبتكرة، تخضع لرؤيته الذاتية. وهذا ما لاحظناه في قصائده ذات مناحي الرثاء وتجسيد التراجديا والوجع الإنساني والاستذكار المرّ والمقارنة. ففي قصيدة «مرة أخرى أقبل الليل» يُجسّد مأساة الإنسان المعذب في الأرض بروح شفافة، لا تنحو للتهويل والتراكم الحسّي، بل تكتفي بملاحقة المتغيّر الحسي، وموصلة إلى نقطة القطع في وعي الظاهرة، ومن ثم الموقف منها:
«مرة أخرى أقبل الليل
أغثني،
النار تهطل في بيتي.
رباه... أيّ شيء يُنقذني؟
هل تهدأ وتستكين
روحي الهوجاء والخرساء؟
بين الأوراق الناعمة للكتب،
أم في حضن دافئ لفتاة؟».
أم نراه يرثي بصمت الشعر الناطق صديقه «حسين المصري» حيث يُطلق عبارته، التي هي لازمة القصيدة «رفيقي لا ترحل/ الوقت لم يحن بعد» فيستعرض جملة الظواهر القاطعة في الوجود، والتي تقطع الطريق أمام الباحث عن حريته وتحقيق ذاته:
«رفيقي لا ترحل، لا تتركني.
أما كان مقرَّراً
أن نبني سوية متحفاً للوقت.
رفيقي لا ترحل، لا تتركني.
رفيقي لا ترحل،
رفيقي...
رفي...».
هذا التدرج في أن تكون القصيدة تأكل نفسها، دليل على تصاعد الحزن ونفاد الصبر جرّاء فقدان الشخص المرثي. وقد حاول الشاعر أن يُقدم ما يحس به وما يخلق في نفسه مثل هذا الحزن، فيبدده بكثافة الشعر.
في «البرقية الأخيرة لـ «نالي» محاولة لعكس مجموعة استذكارات، حاول من خلالها طرح ما يخص الواقع، مفتتحا ً برقيته:
«فداك،
إن تسنّى لك، زُرْ خراب الديار
لتعرف
هل ذيول الغيم باقية
على سفوح الجبل؟».
لكنه في نفس الوقت يستحضر النموذج الذي كان مؤثرا ً في مجال تاريخه، فـ «نالي» أحد رواد الشعر الكلاسيكي. وما بث الشاعر لهمومه المعاصرة ممزوجة بما كان، إلا نوع من الوفاء، والاستعانة بالأصل الذي تأسست على جهده ورؤاه، رؤى شعراء الكرد.
إن الشاعر «طيب جبار» في ما شكله من انعكاسات تداول من خلالها أكثر الظواهر حركة وتأثيرا ً، إنما ليحقق نوعا ً يُضاف إلى ما قدّمه في شعره بشكل عام. محافظا ً على خوّاصه الذاتية والموضوعية.