ادب وفن

يوتوبيا الخلاص.. وثورة الخطيب / مزاحم الجزائري

منذ القدم.. والى الآن، والناس يتطلعون إلى عالم تسوده المساواة ويعمه العدل الاجتماعي. وبالرغم من التطورات الهائلة في مجال التقنيات، وعالم الاتصالات، والزحف المطرد للمدارس والمعاهد صوب تخوم لم يألف أهلوها أي شكل من أشكال المعرفة، إلا أن البطش اليومي بسبب الحكومات المستبدة أو النزاعات المحلية. مازال يفتك بالناس يوميا دونما رحمة.
وإذا كانت " يوتوبيا " الخطيب في بعدها الإنساني، تمثل واحداً من مواد أحلام البشرية المشروعة، فالرجاء يحدوه لأن تحيى البشرية في قضاء أكثر أدمية وتسامحاً، لا أن تنكمش تطلعاته وتنحسر، وتقتصر أحلامه في أن يرى عالماً أقل عنفاً ودموية وهذا ما تكشف عنه رواية " ثورية الخلاص " للدكتور غازي الخطيب. والمنتظمة توطئة، والمتوزعة على ثلاثة وثلاثين فصلاً قصيراً وهي من إصدارات "دار الرواد المزدهرة. بغداد"، 2012. وتقع في 174 صفحة من القطع المتوسط.

سمات الرواية العلمية

من الممكن تصنيف الرواية على الرواية العلمية، والتي من أهم سماتها كما هي أحداثها اللا واقعية مع مفردات الحياة اليومية، وهذا ما اتصفت به " ثورة الخلاص " ، وهي بلا شك تميل القارئ إلى " جمهورية " أفلاطون، والى " المدينة الفاضلة " للفارابي، وهي بتمثلاتها لرواية الخيال العلمي، تكون قد ربت أهم سماته السردية المتمثلة بـ " سعة النص "، لأن لسعة النص معنىً دلالياً يحتم صعوبة جدية في المستوى البنائي. وما يقتضيه التشكل من تعارضات فنية، وتقاطعات فكرية، ومن هنا تنبثق اشكاليات التنازع الأسلوبي فيما بين الوصف والسرد لأن نزاع الفاعلية الوصفية، والفاعلية الاستعراضية، تأخذ شكلاً آخر- على حد وصف جان ريكاردو- فتمظهراتها الوصفية تحايث الواقع أكثر من الصيغ الاسكارية. والقارئ للرواية بمقدوره تلمس الكفاءة الوصفية للكاتب في محاورها الأساسية والفرعية. من خلال عرض التفاصيل، وإمساك الراوي بإيقاع التوازن الحركي في إطاره العام، لذا نجد أن عنصر التشويق المتدفق، والمتمثل بـ " اللقاءات، والاتصالات، والاجتماعات بين قادة الثورة، وما يرافقها من أساليب صارمة على مستوى التخطيط والتنفيذ تفصح عن ذلك ". مع ما يرافقها من عفوية بارعة في دمجها للمسرود الحكائي، وهو مع ابتعاده عن الصيغة الأكاديمية المألوفة في تناول أحداث الرواية، وعن الصيغ القديمة في كتابة هذه الصنف من الروايات، إنما يتبنى إسلوباً مغايراً، قائماً على صراع الأضداد، وعلى قدرته التخييلية في إغناء عناصر الحلم الروائي. وتنامي أحداثها، ومن المعروف أن الحكاية في الرواية تمثل الحوادث، أما النص فكثيراً ما يمثل الأفكار والأشياء، بالرغم من أن سرده في عمومياته يدور في فضاء ايديولوجي، ويتوارى خلف قناع إنساني

العوامل الحافة بالرواية

الرواية في موجهاتها العامة: تتناول المعاناة البشرية المتشظية عن الصراع الطبقي وما يرافقه من عسف وعنت، أصاب حياة الملايين من الناس الأكثر فقراً، جراء هيمنة الشركات العابرة للقارات، وسياسات النيولبرالية. والتي بسببها تراجعت أحلام الإنسانية، وتبددت في مستنقعات الحروب الداخلية والخارجية، بسبب تعاظم الأخطار الحافة ببؤر التوتر العرقي، والطائفي، والتطرف الديني، مما شكل عائقاً جدياً لتعثر سياسات التنمية الاقتصادية في معظم بلدان أسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وهذا يعني أن حلم الإنسانية في عالم تتوفر فيه إشتراطات التكافؤ، والعدل الاجتماعي، بدت أقل حظوظاً إن لم نقل محض خيال، وان كانت حاضرة في المنظور المتصور. على وفق التطورات الفكرية أو الفلسفية، وأعتقد أن هذا يمثل سبباً رئيسياً لممارسة غازي الخطيب لعبة الحلم والغواية، التي مارسها قبله بألفين وخمسمائة عام تقريباً أفلاطون في " جمهوريته "، والمشترك فيما بين الجمهوريتين: إن "اليوتوبيا" تظل الملاذ الأخير للإنسان. لكونها تقوم في تعارضاتها الجمة مع اتساعات المعاناة الانسانية، لكونها السبيل الوحيد والمعوض عن حالة الكبت الشعوري والعاطفي لمشاعر الاغتراب المتنوع على وفق فرويد- المتعددة الاسباب. والباحثة عن البديل الوضعي.
يقول جومسكي: " ربما كنا " الوحيدون " ولا نزال نحلم بأن يسود الإخاء والمساواة في يوم من الايام بين البشر، دون أن يقضيا على تنوعهم".

مفاهيمية النص

يتبدى من طريقة عرض الأحداث، أن مفاهيمية العرض لم تخل من الالتباس والتزاحم بسبب مراكمة الموجهات الانفعالية، أحياناً والتشابك الشديد جراء تسارع إيقاع الأحداث وتداخلها أحياناً أخرى، ويتمظهر ذلك جلياً في أسلوب سرد الأحداث عبر محاولات المؤلف المحمومة لاستكمال عناصر الحلم المفتعلة. مع تبدياتها المتمثلة بسلالة الاسلوب وبساطته، من دون اللجوء إلى الطرز البلاغية. أو النثرية العميقة، وغرائبية التمثلاث لحيثيات الواقع، وفي المقابل تتلمس شيوع التوصيفات الايديولوجية، والاختراعات العلمية، وهيمنتها على الموجهات التعبيرية والتمثيلية المتدرجة الوصف في السرد. ومطاردتها لأحداث تدور وقائعها في قارات عديدة، وهذا يبين أهمية الوصف الحكائي- على حسب جان ريكاردو- ودوره في رسم معالم حكاية خيالية أو مضللة.

يقينية التسجيل

سعت الرواية الى امتلاك قدر كبير من الموثوقية بسبب توافر عناصر الكتابة فيها على عناصر " المكان، الزمان، الحدث " وما رافقها من تفاصيل الحياة اليومية، ومن مستلزمات، وأشياء، وأسماء لشخصيات واقعية، منهما الكاتب لشخوصه، وشكل الحوار فيها جانباً كثير الفاعلية وأضفى عليها قيمة وثائقية. الى جانب اجتماع الهيئة المنظمة والقائمة على الثورة في عواصم ومدن عالمية، إن لابتعاد الرواية عن العفوية في موجهاتها الموضعية، ووقوعها تحت هيمنة القصدية الفكرية، الاثر الكبير في مزج الصور الفنية بالصور الفوتوغرافية، وان توظيف الكاتب للغة قريبة من اللغة اليومية منح بعض حواراتها الكثير من اليقينية والموثوقية التي قربتها من " الواقعية التسجيلية " ويكشف هذا التوجه عن العمدية التي أشتغل عليها الخطيب في سردياته للوقائع والأحداث، وفق رؤية كلية لكونه يمثل الراوي العليم.

القيمة الأخلاقية للرواية

من المؤكد: أن القيمة الأساسية للرواية تتمثل في " خلاص " البشرية من براثن الاستغلال المركب " القومي والطبقي " وإشاعة الإخاء والعدل والمساواة، وهذا لن يتم إلا بتسيد مفاهيمية الاشتراكية ببعدها الانساني. والتي تتسق مع توجهات الاديان الوضعية والسماوية. في موضوعة " المنقذ/ المخلص " في حين تتمثل موجهاتها العاطفية، وعن تباين التصورات والتخريجات مع نسقية ملازمة لتصورات الإنسان وتمنياته التي لا تبتعد في مفاهيمها عن فضاء منتظر وغير متحقق، ومن الممكن تحقيقه في الواقع، وإن تعند ذلك، فان (اليوتوبيا) المشكلة للمتصور الإنساني عن الحياة لا تبتعد أبداً عن الحيثيات الأخلاقية للأطر الإنسانية.
كشفت لنا رواية الخطيب المتدرجة في وصفتها عن جدة، وحيوية إسلوبية، ولأن موضوعة الرواية تمثل الشغل الشاغل لتطلعات الملايين من البشر. فقد مثلت هذه الدافعية للكاتب، الرغبة والحماس لتحول هذه التطورات " الطوباوية " الى مدونة لغوية، لا تتموضع فيها أنصاف الحلول، بل تمضي في معطياتها المتخيلة الى نهاية المطاف، ساردة مراحل التحول المتصورة عبر سلسة من الأحداث الجريئة، والمفاجأة، والرؤى المتبدية في جهود علماء، وساسة من اقطار شتى، وفهمهم للشعور الإنساني للتضامن، وتوافرت لهم سبل المشاركة الاجتماعية لتشييد ملامح مجتمع جديد، وإن كان بين دفتي كتاب.