ادب وفن

"خميلة الأجنة" وقوة الذاكرة (2-2) / حميد حسن جعفر

هل من الممكن ان يكون القرن العشريني العراقي الذي يحاول ان يعيد تشييده وفق كتابة سردية هو نفسه القرن العشريني الذي كتب عنه الروائي والشاعر والمسرحي والرسام ـ الألماني ـ غونتر غراس ـ روايته التي اسماها "قرني" وسطر آراءه وأفكاره ومواقفه، وما دار في فضاء القرن العشرين هل هناك تشابه أو تداخل أو استعارة أو استفادة من تجارب وطرائق الكتابة.
لا يمكن لأحد منا ان يجزم بهذا أو بذاك وسط ثورة الاتصالات. حيث تداخلت المسافات حتى تحول العالم وكما قيل ـ الى "قرية" ووسط جغرافية قرية كهذه لابد للتجارب من ان تصل الآخرين وفق سرعة لا تعادلها سرعة الضوء.
بل ان هناك محاولات قد يكتشفها القارئ النبه. محاولات خلق حالات في تشظي الذات أو الأنا ـ أنوية الكاتب وتوزيعها على العديد من شخصيات النص. قد يكون الكناني واحداً منها. ولكن المؤكد كذلك ان سوادي وعلاقاته بالثقافة ومكاتب الاستنساخ والشعراء. لم تكن من خصوصيات هذه الشخصية. ولكنها وضمن حالة من القناعة التامة انها من خصوصيات المؤلف ذاته. وان معرفة المؤلف بالشاعر عقيل علي هي علاقة شخصية كذلك. ولكنه منحها لسواه من الشخصيات التي أنتجها ضمن المسار الروائي. وكذلك شخصية توب تونتي الطبيب الذي أهدى لسوادي القردة/ سومة. التي لم تكن سوى مفصل حياتي من الممكن ان يذكره بالسيرك وبقدرة هذا الحيوان/ النموذج ان يتخلص من قنابل الحروب المتفجرة في حديقة الحيوانات التي لم تكن سوى جغرافية صغيرة للوطن تحت ظل سلطة القمع. ومن ثم لتموت ـ سومة ـ في ملجأ للمسنين والعجزة. وحيث يتحول هذا الملجأ وبفعل شمولية الفكر وسلطة الحروب الى مأوى لكتاب الروايات والشعراء المتصعلكين والمهتمين بشؤون الابداع.
الكاتب في آخر كتبه الثلاثة يكون قد غادر ما تمت معايشته، راميا بجسده في لجة ما لم تتم معايشته. الواقع الذي لم يصنع بعد. الواقع الذي لم يستطع ان يصنع جذورا يتمكن من خلالها ان يمتلك مرجعية بشرية وهذا ما يمنحه العديد من الحريات بالحركة والقول والفعل والحديث وصناعة الأشخاص السرديين بعيدا عن الرقابة.
فرغم اتساع المساحة التي يتحرك عليها فعل الروي والتي من الممكن ان تقل قليلا عن نصف مليون كيلو متر مربعا من الجحيم. إلا ان الواقع المشوه لا يمنحه سوى فسحة ضيقة خالية من الأمل. لذلك لم يجد أمامه إلا الشيخوخة والرثاثة والأمراض المزمنة والجنون. والفساد والانحرافات النفسية والجسدية.
فالحروب كثيرا ما تفقد الشعوب افراداً وجماعات القدرة على الاحتفاظ بالصفاء، بالبوصلة البايولوجية، حيث يتمكن الكائن البشري من الحفاظ على امكانية دوزنة الحياة والعمل على ديمومة الانضباطات لكي لا يتحول هذا الانسان الى قاتل أو لص أو مدمن مخدرات أو مجنون رغم انفه.
ان تعدد الشخصيات قد يشكل هماً ثقيلاً ـ تلك الهموم التي يحاول المبدع ان يجعل منها ملمحاً جماعياً. فالقارئ الفطن لابد له من ان يعاين ما يتحدث الكاتب عنهم. ان أي إحصائية بسيطة قد تمكن هذا القارئ من ان يضع إصبعه على هذا الكم الكبير من كائنات بشرية استطاعت ان تثير اهتمامات الروائي، وان تلفت انتباهه.
لقد كانت الماكنة العسكرية تعمل بصمت رغم قعقعة الحروب التي غطت حدوداً تمتد على مسافة ألف من الكيلومترات أو تزيد على ذلك. هذه الماكنة ـ وبفعل من صناعها ـ تعمل بفعل يقترب من التمثيل الصامت رغم ضجيج المعارك وصراخ وعياط الثكالى والأرامل ومواقع التأبين/ الفواتح. كانت تعمل كما لو كان سوادي ممثلها الشخصي والشرعي.
تلك الماكنة المختصة بانتاج الأجساد المشوهة والنفوس المريضة، والذات المريضة المتورمة.
لقد استطاع الكاتب ان يشكل عبر سردياته مجموعة من الأفعال التي لا تمثل سوى حالة من الادانة للفكر العسكريتاري. وللسلوكيات الهمجية المنتمية لبدائية الكائن البشري حيث الغابة والكهوف الأولى، وانعدام الحوار وعدم الاعتراف بالآخر.
ان الكتاب الثالث ومرقوماته الستة عشر، هو كتاب تعرية لما كان يسود الكتاب الثاني من حروب وتقتيل ودمار وتشويه، وتحويل الانسان الى دمية مهمتها الأساسية ان يكون جندياً أعمى. ان كان يرى.
وجنديا أصم ان كان يسمع.
وجنديا اخرس ان كان يتكلم.
في الكتاب الثاني تتحول الدمية/ الجندي الى صامولة أو الى عجلة أو ناقل حركة في جهاز غير عقلاني يضم الملايين من الكائنات التي غادرت جغرافية البشر. ولتتخذ مكانها في جغرافية حيوانية قد تنتمي الى شيء اسمه الخرافة أو الأسطورة أو اللامعقول. انه السعلاة.
وسط هكذا فضاء يتحقق القارئ من ان الكاتب ما عاد معنياً بالعقلاني من الواقع، بل راح يصنع واقعه هو، واقع الروائي. حيث اللامكان حيث لا مكان لما يحدث على الأرض بل يصبح كل المكان للواقع المتخيل الطالع من الواقع المشوه.