ادب وفن

"رائحة الذبول".. المفارقة والإدهاش الشعري / داود سلمان الشويلي

إن بعض نقود النص، أو فحصه، أو قراءته بوصفه ظاهرة حياتية كأي ظاهرة حياتية أخرى، تحاول بعضها بعلم او دون علم - أن تصادر ذائقة المتلقي التي تقوم على فهم وإدراك المعنى الذي يقدمه هذا النص لأنها تتحدث بتعليمية عالية مما تجعل تلك القراءة أو النقد أو الفحص هي القراءة الوحيدة، أو النقد الأمثل، أو الفحص الممكن الذي ليس بعده فحص للعمل هذا، على اعتبار ان النص الشعري - خاصة - المدروس هو ظاهرة وجودية ، ظاهرة قائمة بذاتها، ولذاتها، وفي ذاتها.
في القراءة هذه التي يمكن ان تكون قراءة واحدة من القراءات المتعددة التي يتيحها النص الشعري لمتلقيه، سنفحص فيها الترابط الموجود بين كلمات النص الشعري، والمفارقة التي تقدمها نصوص "رائحة الذبول".
لبعض الكلمات سحرها الذي لا يقيده زمان او مكان، وتبقى مؤثرة في سامعها لزمن بعيد، بل يبقى تأثيرها في أحايين كثيرة إلى نهاية العمر لما في ترابط كلمات النص من سحر يأخذ بالباب ذائقة تلقي واستجابة القاريء.
وعندما تترابط هذه الكلمة مع أخرى لها تأثير الأولى فان سحر هذا الترابط سيكون كبيرا وطاغيا على كل شيء من سياقات، أو ترابطات أو ما شاكل ذلك.
وتنهض قصيدة النثر والشعر بصورة عامة - على الترابط التركيبي في المعنى المعجمي للكلمة المفردة بغض النظر عن امتلاكها لسحر ما، إلا أنها تحمل في طياتها مصطلحات لمفاهيم معروفة سلفا، ومتحددة قيميا.
والترابط بين الكلمات المعجمية يولد أفكارا جديدة تنثال على ذائقة المتلقي بترابطات سحرية ادهاشية، تحمل بين ثناياها صورا يعمل فيها المخيال الكثير، لتعيد من حولها ذكريات غاصت في ذاكرة المتلقي العميقة الى الحياة.
مصطلح المحسوس هو كل ما تدركه الحواس، واللامحسوس هو الذي لا تدركه الحواس، وانما يدرك ذهنيا.
أمامنا المجموعة الشعرية الأولى للشاعر حبيب النايف "رائحة الذبول" الصادرة اخيرا عن "دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع"، والتي تضم " 26 " قصيدة، والتي سنفحص في دراستنا هذه استخدام الشاعر لمعجم شعري يترابط فيه المحسوس واللامحسوس لتنشأ شعرية النص الذي يكتبه في ذهنية المتلقي لما يقرأ من قصائد المجموعة، وكذلك نفحص استخدامه " للمفارقة " بوصفها ظاهرة اسلوبية عامة في الشعر، فاننا سندرس ما ينتجه ترابط مرجعية الشاعر بما سيقوله في الشعر.
بدءاً من العنوان الذي هو " رائحة الذبول " والذي يتكون من كلمتين ذات معان معجمية محددة ومعروفة للسامع، وهما " رائحة " والتي تعني " النسيم طيِّباً كان أَو نَتْناً - لسان العرب"، و" الذبول " التي تعني هي الأخرى "ذَبَلَ النباتُ والغُصن والإِنسان يَذْبُل ذَبْلاً وذبُولاً: دَقَّ بعد الرِّيّ، فهو ذابِل، أَي ذَوى، وكذلك ذَبُلَ، بالضم"، فـ " رائحة الذبول " تعني " النسيم الذابل " والنسيم لا يذبل، والرائحة كذلك.
" الرائحة " هي مفهوم ذهني غير محسوس، يدرك ذهنيا، لمعنى متعدد ومختلف بين الطيبة والنتن .
و"الذبول" هو مفهوم لمعنى محسوس يمكن ان نراه او نلمسه.
اذن الترابط الموجود بين الكلمتين ينشىء عبارة بمعنى جديد يختلف عن المعنى السابق للكلمتين، فذكر كلمة "الذبول" عندما تكون مرتبطة بكلمة "رائحة"، وكذلك ذكر كلمة "رائحة" عندما تكون مرتبطة بكلمة "ذبول"، يدفع بالذهن إلى ان تنثال أمامه الصور العديدة والمتنوعة لأحداث وحوادث حلوة او مرة ليس منها المعنى الأول الذي تعطيه العبارة ذاتها.
"الاوراق الذابلة تحتفي بذبولها، وجه القمر غائب... حملته انكساراته، الفراغ يحوي
الفارين من معركة الإهمال والتردد، دموع الورد
امتزجت مع الندى المتساقط "
كل هذه مظاهر لذبول قد حدث، لأننا:
* "ذات مساء
ارتحلت أقدامنا
تحملها الدروب،
وترسم لها وحشتها
وصار العمر سرابا آفلا
فبعثرنا الآمال ..
المواعيد ...
اللقاءات
يدفعنا الوقت
حتى غدت أحلامنا
ترف الأمنيات .. ".
ان هذا الترابط يولد توترا يثري القصيدة ويدفع بها الى ان تكون عند المتلقي في حالة تحرك فيه الذهنية التقبلية للشعر، ومخيال المتلقي .
***
في قصيدة " أحلام عارية " نجد الشاعر قد استخدم مفردات من كلا الجانبين في تلاق وترابط ذهني انتج في ذهنية القاريء انا واحد من هؤلاء القراء سحر خاص، من مثل : " واحتضنت خيالي / فتمدد خوفي"، "وسرق أحلام للطفولة"، "خطى الضياع باعدتنا"، " وبنت مدنا من الوهم"، "احلامي العاريات"، "المذبوح بسكين الصمت":
* "مرة ..
زاحمتني الريح
واحتضنت خيالي
فتمدد خوفي
مذعورا بفزعه
وسرق أحلام الطفولة
خطى الضياع باعدتنا
وبنت مدنا من الوهم
تحتمي بها
أحلامي العاريات
إلا من صراخي
المذبوح بسكين الصمت ".
ان التلاقي والترابط هذا هو ترابط فني، ابداعي، جمع بين المحسوس واللامحسوس، فعندما يكتب الشاعر "سرق احلام الطفولة" فقد جمع بين "سرق" الفعل المحسوس القيام به، و"احلام" المصطلح الذهني لمفهوم ما يراه النائم أثناء النوم، وهذا الجمع والاقتران السحري، يجعل المتلقي في حالة ذهنية يتماهى مع الشاعر ليدخل في تجربته بحيث تتلبس تلك التجربة المتلقي نفسه، فتكون عندها تلك التجربة تجربة المتلقي ذاته، حيث قدم الشاعر تجربته في القصيدة، فيما استقبلها المتلقي الواعي لما يقوله الشعر على انها تجربته هو من خلال ذلك الترابط والتلاقي والاقتران الشعري بين المحسوس من الألفاظ واللامحسوس منها.
ان الحساسية التي استقبل بها المتلقي تلك التجربة الفعلية المكتوبة شعرا، هي حساسية مهيئة لكي تتماهى تجربته مع تجربة الشاعر، من خلال هذا الترابط .
* * *
وان من اهم ما تنهض عليه القصيدة النثرية ايضا حالها حال القصائد الشعرية الأخرى إلا انها متميزة في ذلك هو " المفارقة " الشعرية، خاصة المفارقة التي تنهض على اثراء المكون المرجعي المعتمد عند الشاعر، والتي هي وسيلة اسلوبية اعتمدها الشعراء بوعي او دون وعي منذ كتابة الشعر.
المفارقة التي تعد بنية اسلوبية - هذه تنمي الروح الشعرية عند الشاعر، وتعزز روح التلقي عند المتلقي، لهذا تعمل المفارقة عند الشاعر والمتلقي على السواء على كشف المدهش السحري الذي كان قبل ان يدخل عالم القصيدة "الشعر" شيء عادي غير ملتفت اليه.
ان استجابة المتلقي لقصيدة ما، تكون فيها عملية الادهاش التي قدمنا لواحد من تجلياتها قبل قليل فعالة وحيوية، و كذلك المفارقة .
* "أقمار غارقة في وحدتها
وعاشق يبحث في صمته
عن أوهام خربها اللقاء
ودروب حفرتها
أقدام العشاق
وظلت خاوية
ضيعها الفراق".
فمرجعية الشاعر / الانسان عن " القمر" هو جسم مضيء في السماء، والعاشق موله بمن يعشق لا ان يصمت، الا ان الشاعر جعل من القمر يعيش الوحدة، وجعل العاشق الولهان يصمت ويبحث في صمته عما خرب اللقاء من اوهام في هذا العشق.
واذا كان "التضاد" المتولد في القصيدة جراء الفهم الخاص والذاتي لمرجعيات الشاعر، فانه كذلك يولد مفارقة شعرية تعطي للنص حركة و ديمومة ايجابية فعالة :
* "يوم ..
اغتسلنا بماء الفرات
وتعطرت وجوهنا
برائحة الطين
نمت على الضفاف
وردة برية
اعتصرت همها
وتكورت
تبحث في خفايا الروح عن وجه
أخذه الموج للضفة الأخرى .
أشرعة الرحيل
تاهت بطريق
ضيعته المسافات .
ذاكرة الماء
تحفظ أسماءنا ...".
فمرجعية الشاعر هي ذكرى قديمة طفت على ذاكرته مع ما كان يفهمه من تلك الذكرى التي تعطرت فيها الوجوه بالطين، فلعب فيها مخيال الشاعر وثقافته ومعارفه الى الحد الذي بدت فيه شعرية النص الموجود.
ان ما تولده المفارقة من معان كثيرة عند المتلقي المتلقين هو احد مفاهيمها التي تؤكد عليها.
ان مجموعة "رائحة الذبول" تطرح قصائدها امام المتلقي ليقرأ فيها ما يدهشه من شعر، ويسحره ما فيها من لغة، وتترابط فيها اللغة المعجمية لتتحول الى لغة شعرية، لأن الشعر هو لعبة في اللغة، وعندما تجد نفسك محاصرا لا يمكنك ان تفعل شيئاً، تجد اللغة، وتجد الشعر الذي يطوع اللغة بين يديك فتجد ذلك أفضل شيء تفعله وأنت محاصر.