ادب وفن

مفهوم العولمة للثقافة / محمد حيّاوي

تعاني الثقافة كمجموعة نظم إجتماعية وأخلاقية في عصرنا الحالي من الاندحار أمام سطوة المفاهيم الرأسمالية المادّية البحت، ففي الماضي كان للثقافة بعض التطبيقات والتأثيرات على مجموعة النظم الاجتماعية، الأمر الذي أثرى تجارب الشعوب وعزز منتجها الثقافي، أما في عصرنا الحالي فتعاني الثقافة في مفهومها العام، من الانفصال عن الواقع بسبب ضغوط اجتماعية واقتصادية جمة. ونظراً لارتباط الثقافة بمفهوم التحضّر في القرون الوسطى، سادت مفاهيم الشعوب المتحضرة وغير المتحضرة، هذا الفصل البورجوازي لمفهوم الثقافة سرعان ما سيصطدم بما سي?مى لاحقاً عولمة الثقافة نتيجة لتطور وسائل التعبير، وستنعدم الحدود في العالم كله لأن منظومات القيم والمعايير الثقافية والتفكير والتقييم والأنماط السلوكية هي نفسها لدى الجميع. لكن هذا المفهوم، ونتيجة لآمتلاك الجميع لوسائل التعبير تلك، أدى إلى ما يسميه ماريو فارغاس يوسا بالثقافة التالفة التي تتيح للجميع إدعاء التحضر.
كان علماء الأعراق البشرية وعلماء الأنثروبولوجيا في الماضي هم من يرصد تحرك ونمو الثقافات، قبل أن يتآكل التعريف الكلاسيكي للثقافة، وفي مرحلة من المراحل ونتيجة لتدخل علماء الاجتماع والتركيز على النقد الأدبي، أدى إلى ثورة مجتمعية في أوساط البرجوازية الصغيرة، وسادت فكرة ما بات يسمى بـ»الثقافة الشعبية»، وهي شكل أقل تطورا، لكن أكثر حريّة، وأكثر صدقا، وأكثر انتقادا وأكثر تمثيلا وأكثر جرأة. وعلى الرغم من أنّها غير حضارية بالكامل، وفق المفهوم القوطي للثقافة، إلا أنّها حققت الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية. تلك الثقا?ة سيسميها بعض منظري الفلسفة الاجتماعية في الغرب، من أمثال برغر هومر وغيره، بأنّها ثقافة غير كفوءة ومبتذلة أو مهلهلة، ومثل هذه الطروحات ستمهد فيما بعد لثقافة العولمة كما سنرى.
في الوقت الحاضر لا أحد غير متحضّر، فالصحف والمجلات ومحطات البث التلفزيوني والرديو، تبث على مدار الساعة الكثير من مفردات الثقافة العالمية المتداخلة، وبالتالي، ووفق هذا المنظور، نحن جميعا متحضرون بطريقة أو بأخرى، على الرغم من أننا لا نقرأ الكتب أو نزور المعارض التشكيلية أو نحضر حفلات موسيقية ولا نطلع على المعرفة العلمية والتقنية في العالم الذي نعيش فيه.
فما هو المفهوم الدقيق للثقافة في عصرنا الحالي، وكيف يمكن للبعض الحديث عن عالم بدون ثقافة في الوقت الذي وصلت فيه المركبات الفضائية إلى المريخ؟
هناك من يعتقد بأنّه تقدم حقيقي، لكن ليس ناجماً عن متراكمات تحضّر حقيقي أيضاً، وإلا ما معنى الوصول إلى المريخ في الوقت الذي يموت فيه الملايين في أفريقيا من الجوع والمرض وتنتشر الأمية في الكثير من بلدان أسيا، وتسود مفاهيم التعصب الديني والعنصري؟
كيف يفسر علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا هذه الإشكالية الشائنة؟
في الحقيقة أدت العولمة إلى تشجيع ما يسمى الاختصاص كتمظهر ثقافي في عصرنا الحالي، على الرغم من أن المسافة بين الثقافة والتخصص كبيرة جداً، كما يعتقد الباحث الأنثربولوجي مارسيل كرو. نعم صحيح لا أحد يستطيع أن يعرف كل شيء عن أي شيء في كل مكان، لهذا اقتضى التحضر ترتيب الأولويات في مجالات الثقافة والمعرفة والقيم الجمالية.
لكن المشكلة هي أن المتخصص يحفر عميقا في حقله فقط تحدوه رغبة التفوق، من دون أن ينتبه لما يحدث من حوله، وبالتالي لا يستطيع تحديد الضرر الذي قد يسببه في المجالات الأخرى من الحياة، هو مثقف متحضر ذو بعد واحد، سينتج لاحقاً متخصصاً كبيراً غير متحضر بالنتيجة، لأن علمه لا اتصال له مع الآخرين، ويعزله تخصصه فيما يشبه زنزانة صغيرة معزولة عن مجالات المعرفة الواسعة الأخرى.
هذا هو مفهوم الثقافة الذي تحاول ان تحدثه العولمة ومجموعة النظم الاجتماعية والإقتصادية التي أتت بها، وعلى الرغم من أن التخصص موجود منذ فجر الحضارات، إلا أنّه كان دوماً مرتبطاً بتقدم المعرفة والتواصل الاجتماعي، الذي يعد القاسم المشترك، أو الغراء الذي يشدّ النسيج الإجتماعي في مختلف مجالات المعرفة، كالعلوم الطبيعية والإنسانية والفنون الجميلة والتكنولوجيا.