ادب وفن

الحرب في الشعر العراقي المعاصر - القسم الثاني - / مهدي الحسناوي

وطن من رماد
لم يعد قبلة الأساطير
موقدا للسنا ،وآيات نار
ملء المكان
مرايا.. مرايا
وليل من الرمل
وسفر سبايا
وطن الموت والرحيل
سلام الوداع الأخيرإن الأساس في القصيدة المعاصرة هو التزاوج بين النثر والشعر لكن لا يبقى هذا الإيقاع خارج القصيدة حتى لا يغير شكلها المعروف ..حينما يتحول الى محدد داخلي في القصيدة ،فوحدة القصيدة هي مجموعة الصور والتداعيات التي تنطلق من الرؤيا الشعرية صوت الشاعر من جهة وصداه الداخلي من جهة أخرى ...لذلك تبقى القصيدة الحديثة بهذا المعنى،أنها محاولة لإيصال تجربة إبداعية ضمن صور الواقع الى الناس داخل حالة متغيرة تتداخل فيها الآراء والذات والرؤية.
يعيد الشاعر في أكثر من قصيدة بشكل تفصيلي واقع الحياة اليومية، فالصورة الشعرية في كل مزاياها تصبح أكثر من مجرد نقلة نوعية من الحياة ضمن الذات الشعرية الجديدة وسياقها الحديث، واستطاعت القصيدة الحديثة ان تستجيب بأدواتها لمعطيات الواقع نفسه، لتأسيس أول خطوة لمواكبة الحداثة الشعرية، ولعل إصدار بعض شعراء المنفى لمجاميع شعرية تهتم بواقع الحرب، إنما هو رفض حقيقي لواقع الحرب ومخلفاتها فعدنان الصائغ اصدر العديد من الدواوين الشعرية التي تتناول الحرب كواقع مأساوي كمجموعة (سماء في خوذة)
اذكر كنا نجوب الشوارع
نحلم في وطن بمساحة كفي وكفك
لكنهم صادروا حلمنا
ها أنا الآن انظر من شق نافذة
للشوارع
وهي تضيق
تضيق
تضيق
فابكي
يا سماء العراق.. أما من هواء
تلفت
كانت سماء العراق مثقبة بالشظايا
الشاعر العراقي المعاصر لم يتفاعل مع هوس الحرب بل شجبها بكل قوة، ورأى فيها تخريبا للواقع والتراث وإنها تترك اثأرا سلبية ومأساوية على الواقع الحياتي، وهذه الحروب لم تكن مبنية على أساس عقائدي أو أيدلوجي، وإنما هي نزوات الوصول إلى قمة المجد ولكن بأساليب زائفة، والشاعر هنا وظيفته ان يكون لسان حال المجتمع سواء أكان هذا المجتمع من شرائح مختلفة (جنود، فلاحين، عمال، كسبة)يبث رؤاه الشعرية عبر نصوصه لكي تكون هذه النصوص كفترة زمنية قاسية يؤطرها بالرفض والشجب،والتي مارسها الشاعر العراقي في الداخل والخارج ساعيا منه ا?ى نبذ كارثة الحرب.
لقد عاش السياب في الكويت سنتين متتاليتين، وعاشت نازك الملائكة في هذا البلد ردحا من الزمن وكتب السياب اغلب قصائده في هذا البلد فقصيدة غريب على الخليج وغيرها من النتاج السيابي، كتبت في بيوت ومقاهي ومستشفيات الكويت، ونال هذا الشاعر إثناء مرضه الاهتمام والرعاية من شعراء وأدباء هذا البلد، وقسم آخر من الشعراء العراقيين كان يقيم في هذا البلد العربي الجار وهاجر الى المنافي، وبقي يحن الى تلك التربة والأرض الطيبة لهذه الجارة أو تلك كالشاعر احمد مطر في قصيدة (يا كويت)
حينما سرت الى طائرة النفي
الى الأرض الغريبة
عابرا طأطأت راسي
ولعينيك انحنيت
وعلى صدرك علقت بقايا كبريائي
وبكيت
آه ... يا فتنة روحي كم بكيت!
آه ...يا فتنة روحي كم بكيت!
كنت من فرط بكائي
دمعة حيرى على خدك تمشي
يا كويت
ويستخدم الشاعر العراقي في المنفى أحيانا. لغة لاذعة تشوبها السخرية من هذه الحروب والأناشيد الحماسية التي كانت تروج لها، فهذا مختار سعيد يستنكر الحروب في قصيدة (عاصفة الصحراء).
وصوت داوود علا
(اسباع ولد اسباع، صنتو
شرف هالكاع)،
فامتلأت بيوتنا الجميلة
بالخوف من دوامة الظلام في الظلام (.9 )
ويحاول الشاعر العراقي الاستعانة بالذاكرة وإطلاق العنان لأحداثها المتشابكة فتمارس هذه الأحداث حضورها في اللحظة الشعرية الراهنة أي لحظة ولادة النص ،هاربة من زمانها ومكانها المبعثرين (هناك/ أمس) في ذخيرة الوجدان الشخصي له وعن تقطير الوقائع ومزجه بما تراه العين من مشاهد يومية ومكررة آلاف المرات، ينطق النص بما تحضره هذه الحوادث المخزونة ليقيم حوارا معهم، حوار الرؤية الصافية غير المشوبة بغبار الوقائع حيث أن المعاناة الحقيقية الثانية تبدأ مع الكتابة فتتم المعاينة المتألمة والمتأملة؛ إذ ان حالة التقادم تنقي وتهيئ ?اقتناص المكنون الباقي عازفة عن ملاحقة ما هو عارض زائل فتخرج الأشياء من عتمة الفوضى لتدخل في ضياء التسمية،وهكذا يسمو الوجود فتصبح الذاكرة هنا وسيلة لتحرير المقموع الراكد، الذي يرزح الكائن تحت سلطنته الكابحة ضد حريته، فهذا كاتب هذه الدراسة يقول في قصيدة (العزف في أوتار الحصاد)
ويكشف الستار
وتبتلع حروبهم الأجساد والأسماء ؟
وتصرخ الإذاعة الأجيرة
(عاد الكـــ ... )
وبيرق عاصفة البيداء
يلوح من أسطولهم
للجندي المجهول
نستنتج من هذا الكلام، بأن المنجز الشعري العراقي المعاصر، أو النص الشعري هو خطاب (DICOUYSE) يستبطئ ذاتية الشاعر والواقع ويلاحق الأحداث التي تحيط به بروح إبداعيه ورمزية متألقة وخيال شعري خصب، والشعر سلاحه الكلمة وهذا السلاح ذو حدين، يدخل من خلاله الشاعر بوابة التاريخ بموقف ايجابي يخلده ،فالنتاج الشعري هو سيرة الشاعر ومسيرته.
إن قتامة الواقع لا تحجب ممكناته تلك التي تعبر عن نفسها من خلال تجليات هي اقرب للتمني. والشاعر العراقي المنفي هنا يحاول النفاذ وبإصرار الى ما هو قيد الحلم من واقع معتم، أثرته هنا في هذه الرؤية هو حلول الرؤيا في هذه النصوص،فهي تحيل المرئي الموضوعي الى شفافية بمعنى أخر يعمل على تذهين ما هو حسي وتطعيمه بنكهة واقعية ،والشاعر المبدع هو الذي يتقن تناول الوحدة الموضوعية للنص، وتكون رؤاه بمثابة إعادة تشكيل للواقع المخرب والشعر الحديث يتلاقح بنصوصه مع الفكر والفلسفة والتراث والحضارة ،بل ومع باقي الأجناس الأدبية الأخ?ى.
والصورة الشعرية الحديثة، هي خلق وصياغة وإبداع، فألارق والموت ليس نسخة مكررة في الصورة، ويخطئ من يفسر الصورة الشعرية بأنها عملية تطوير للظاهرة الكونية الحياتية أو الاجتماعية لأنها في الأساس تكوين جديد بدليل الانقلاب الكامل في الصورة الكونية والحياتية، وان الوجود الخارجي بالنسبة للشاعر حافز ومثير ،والقصيدة وجود آخر.
ان الشاعر العراقي المعاصر الذي يصور في قصائده الحرب وأهوالها، ويصور الإنسان الذي يضيق الخناق حوله بفعل هذه الكوارث، نجده لا يقف عند حدود ذلك
إنما يجعل الإنسان معلنا تمرده واحتجاجه وعدم وقوفه مستسلما، وهو مهما حاول الزمن الصعب قهره نراه حتى في موته يقف شامخا كشموخ النخل.