ادب وفن

العمارة.. النص المرئي .. رؤى في الشكل والمعنى والوظيفة (2-2) / جاسم عاصي

في كل هذا تكون قد تعدت فكرة أن يكون الشكل المصمم يخضع لشكل ثابت. كما وأنها تعدت فكرة أن تكون الطاولة مثلا ً مجردة أو كونها منظراً طبيعياً. وهذا يعني أيضا ً أنها تخضع التصميم إلى جدلية وجوده وتكوينه الفعلي، مستندة إلى كونه لا يقوم على التشكل العضوي فقط، وإنما على المتغيرات الذاتية المحركة لهذه العضوية. وبهذا نلاحظ تجدد ومغايرة الأشكال المصَممة في عمارتها. أي أنها سائرة في تدرجات متواصلة في المتغيّر والمتميّز، دالة بذلك على رفعة الذوق الفني ورقيه. فهي مشغولة دائما، ومنذ بواكير حياتها، لاسيّما زيارتها برفقة والديها إلى أهوار جنوب العراق، ورؤيتها لانسيابية المياه والسطوح المائية الواسعة وتلألؤ هذه السطوح، وتعامد أعواد القصب والبردي وتراقصه، وحركة الحيوات داخل عمق المياه، مما ولـّد لديها رؤى استنهضت في ما بعد ولع و رؤى الطفولة والصبا أخذت بجوانبها الفنية وقادتها لمطاوعة تلك الأشكال المتحركة التي كثيرا ً ما أكدت عليها وهي تستعرض تجربتها الفنية المعمارية وجماليتها. إنها وهي تتعرض للأشكال التقليدية للعمارة والأثاث، إنما تتقصّى ما هو قادر على تجاوز ذاته، والتجاوب مع محاولات من يُسهم بالأخذ به. وهنا تكمن رؤيتها للمورث، في كونه يمتلك خاصية التجديد من خلال التجاوب مع المعاصر. لكن هذا يتطلب من يمتلك القدرة على المزاوجة بين هذا وهذاك، معتمدا ً على القدرة في الكشف عن مثل هذه الإمكانيات والمواطن القادرة على التجاوب. في هذا سعت المعمارية في كشف ما هو كامن في التقليدي وتوظيفه في العمارة الجديدة. ذلك يؤكد على أن الابتكار والتجديد يعتمد على المعرفة المختزنة، لاسيّما ــ وكما أكدت مرارا ً ــ من أنها استفادت من الموروث للعمارة الإسلامية حصرا ً وذلك في المزج بين الفضاءات الداخلية والخارجية للعمارة الإسلامية وانسيابية الخطوط العربية والأشكال التراثية. لذا نجد عمارتها كثيرا ً ما تـُثير مخيلة الرائي، لأنها أيضا ً تتجاوب وتتداعى مع مخياله أولا ً، ومع خزينه المعرفي بالفنون الأخرى في العمارة الموروثة ثانيا ً. ولعلها لم تبتعد عن الرؤى الأسطورية الحالمة بأشكال تنطوي على ذاتها من خلال الحركة والانسيابية والتمدد، لتصل بذلك إلى حقيقة شكلية ومعرفية في تصور يعزو كل هذه الأشكال من العمارة إلى نوع من البنى لأسطورية التي تشيع على هيئتها آثار الأحلام والرؤى ذات الامتدادات الأسطورية الخالصة. وذلك من اعتبار أن الأسطورة تتجدد وتتغيّر بنيتها إذا ما توفر من ينظر إليها على أنها بنية متحركة ونامية ومتكيّفة للمتغيّر. والعمارة بذلك وحسب تصور «زها» هي أسطورة، لابد من وطء موضعها وباقتدار من حصّل على إمكانيات التجاوز والتقشير في خلق الرؤى الجديدة. فهي تصف مثلا ً دار المسارح والفنون في (أبو ظبي)، وهو من تصميمها بأنه « محمية كاللؤلؤ، وظاهرة في آن معا ً، لتكون أشبه بثمار نبتة تطل على البحر» وهذا وصف أسطوري خالص. فهو مبنى يفتح ذراعية للزوار، لينقلهم صعودا ً نحو صالات فنون الأداء في الأعلى مع إطلالة على الخليج. فهي في هذا وغيره من العمارة قد حاكت أسطورة «نهر اللؤلؤ» المنسوبة إلى «ساوثيوبو» كما ذكر الدكتور «السلطاني». فقد تدرجت في صياغتها للمكان من اعتبار هذه الأسطورة المعنية بصخرتين تغنى بهما الشعر الصيني القديم، مستفيدة من نعومتها في تشييد المبنى على شكل صخرتين . وبهذا نقلت ما في الأسطورة إلى الشاطئ، مؤكدة في التصميم على حقيقة الإزاحة والابتكار، بأن وضعت المبنى على شكل صخرتين مختلفتين في الحجم، احداهما سوداء والأخرى رمادية.
ما نريد التوصل إليه من خلال استعراض جهد الفنانة المعمارية «زها حديد» هو التأكيد على جدلية وجود الأجناس الإبداعية، وكيفية تداخلها مع بعض من جهة. ومن جهة أخرى قابلية الفنان والمعماري على التكيّف لمثل هذه المتغيرات، بما لا يفقده قدرته الذاتية، مستفيدا ً من جـُهد الآخر شرط أن لا يذوب أو يتيه في تجربته حد التقليد. فلكل مبدع طريقته وأسلوبه النابعان من تجربته ورؤيته لكل ما هو قادر على رفد تجربته في الوجود. وزها بهذا اجترحت لها منهجها المعماري، المتأتي من تجدد رؤيتها للتصميم وتشكيل الهيآت والبنى التي باستطاعتها مواكبة تجدد الوجود ومعارفه.