ادب وفن

توظيف الموروث الشعبي في الأدب.. رباعية شمران الياسري انموذجا* / لفته عبد النبي الخزرجي

الحلقة "1 " الزناد:

البحث في الادب الشعبي... من ألأمور المعقدة جدا،لأنها تستدعي قبل كل شيء، توفر الصبر والمزيد من التنقيب ومواصلة البحث في التراث... ودراسة المتوفر من مصادر ألأدب الشعبي، نتاجات الشعراء، البحوث التي تناول فيها اصحابها مختلف جوانب وصفحات الادب الشعبي، بما في ذلك.. شعراء الفترة السابقة... وخاصة الشعراء الذين برزوا في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين...وهذا من اصعب ألأمور وأشدها تعقيدا.. لأن اغلب اولئك الشعراء الشعبيون وغيرهم ممن عمل في صنوف ألأدب الشعبي والفن الشعبي.. كانوا يعملون في بيئات متردية وظروف لاتتوفر فيها مستلزمات ا لتوثيق اوالإمكانيات التقنية المتوفرة حاليا.... لكن الملفت والمفرح ايضا... ان هناك البعض من الكتاب والباحثين والأدباء ممن توفرت لهم عناصر البحث وتهيأت لهم ظروف العمل التي كانت عاملا إضافيا في وجود الكثير من البحوث في هذا الجانب.
إلا ان الذي ورد في رباعية شمران الياسري.. من موروث شعبي وكيف إستطاع هذا الكاتب الكبير ان يوظف مفردات في التراث ويضعها في ايقونات رباعيته المشهورة ( الزناد، بلابوش دنيا، غنم الشيوخ وفلوس حميد )تلك المفردات التي تكاد تضيع او تنقرض لولا ان هذا الكاتب البارع إستطاع ان يوظفها بأسلوب حضاري وفني رائع... ان ذلك كان له ابلغ الاثر في توثيق هذا الكم الهائل من المفردات والاهازيج والامثال وما ردده الشعراء في تلك الفترة.
ومن تلك المفردات:
بلابوش دنيا: وقد إحتلت هذه المفردة اللطيفة حيزا كبيرا من رائعة ابوگاطع... حيث كانت همزة الوصل في تلك الرباعية الفريدة...كما إن تلك المفردة قد حملت إسم الجزء الثاني من الرواية" بلابوش دنيا".
وقد ذكرت في كتابي "تأملات في ألأدب الشعبي " الصادر عن دار الفرات في الحلة..هذا الجانب وتحت عنوان (الموروث الشعبي ورباعية ألأديب شمران الياسري) حيث ورد فيه:
((من خلال رباعيته المشهورة " الزناد، بلابوش دنيا،غنم الشيوخ، فلوس إجميد " إستطاع الكاتب وببراعة واضحة ان يوظف الموروث الشعبي توظيفا رائعا... ولانه من بيئة ريفية تمتلك خزينا وافرا من المفردات الشعبية والموروث الذي يتم التداول به في الدواوين في تلك الفترة والتي تمكن الكاتب من غرز تلك المفردات والأهازيج في رباعيته على نحو مبدع وخلاق مما اضفى على الرباعية هالة من ألألق والسمو ومنحها جوازا للدخول الى قلوب المثقفين اولا ومن ثم الشرائح ألإجتماعية ألأخرى وخاصة من هم في اسفل الهرم ألإجتماعي من الطبقات المسحوقة والكادحة والمهمشة)).
إن الدخول الى عالم الموروث الشعبي واحتضانه.. ومن ثم صياغته بألأسلوب الذي قرأناه في رباعية ابو گاطع... كان عملا إبداعيا رائعا...
يا حمد خيل الصـبايا برهن
ما يعرفن هورهن من برهن
ام العلا بالسيف ماهي بالرهن
غصب ع الباشا يودي كركنا
وهذه من اغاني ابو الغمسي الشاعر المشهور في زمن الشيخ حمد آل حمود... وقد جاءت على لسان حسين احد ابرز شخصيات الرواية في جزءها ألأول "الزناد".والملاحظ ان الشاعر وهو يخاطب شيخ الخزاعل ورئيسهم... بمفردة بسيطة جدا ومباشرة "ياحمد "... وهذا ما دعى حسين لأستخدام تلك المفردة للتعبير عن العلاقة مع الشيخ وقبل ان يستبد به المال والجاه وسعة النفوذ.
واوي الكوت إجه متعني ومتمور
يگول شهالربيعة شكثر بيها كسور
واوي العارضية يگله من ياخور
(شيم اهلك بلچي يشبعونك)
لكن الأهازيج تتواصل وحسين لا ينفك يغازل سعدون "شيخ العشيرة ":
"ومن يعرضلك جاون جيبه "
وتسحرنا مفردة: "زبون شال ترمة "التي لم تعد في قاموسنا.. فقد اصبحت من الموروث..وهكذا اضاف: " لو تلگاگ الخير لا تزل عن دربه "..
وبعد ان تأكد حسين ان زبون الشيخ سعدون لا يليق بهذه الطرشة "للانگريزي" ترنم:
خل الحجل ينشاف گصري زبونچ
گولي جليل الخام لو ينشـدونچ
وعندما جلبوا "كلاش " لسعدون.. هوس حسين " غط جاب الدره اضوت بيده "
ويعود حسين لينشد لابي الغمسي:
آنه دوم إعلى المحاسن شاربي..... شارب اسموم الحيايا شاربي
ما يطوبس للهضـايم شاربي وخابت امك يلتعيش بمسكنه
ثم ان حسين لا ينفك يرمي بشباك صيده:
برگعوهن بالمطارج والبطن بديرة العدوان خاطن والبطن
لا تگولش خيل ابو فدعم بطن لحگن المديون وإستافن منه
وهكذا ومع سكون الليل.. تبقى الترانيم متواصلة:
لا بسه الشـاكر وگالبته گلب
يا بعد جـوز الچلاوي والگلب
الما تشوفه العين يسلاه الگلب
ولو سلاه الگلب چيف اسلاه انه
ويرتفع الرنين ويتواصل الصمت مع هذا ألإنشاد:
لابسه العسجد وخصر الخل خل
وفوگ مجرى الماي شدت خل خل
جيت اگض الزلف گالت خل خل
إشلون اخلي الزلف وحياتي منه
ولا يتوقف هذا السيل من الشعر ومازال حسين يسحر الجالسين بشعر ابو الغمسي:
ريت ربك يا غميسي بيدرك
ليش مشيك كل زمانك بيه درك
يلتحوف الناس حافوا بيدرك
لا يعطرونه ويفلسـونك منه
ويتواصل هذا ألإيقاع.. مع حركة المسبحة:
لا تلوم إشهاب لا ونش وجن
ويحسب الساعات لو راحن وجن
بين نهدچ والخواصر والوجن
ضـيعت كـارة گرنفل مثمنه
ويبقى شعر ابو الغمسي.. يشنف الديوان.. وتتواصل ليالي السمر:
يا خشيف الواردة بشاطي الحلال
وشاده على الراس چفية حلال
آه وا ويلاه من شافچ حـلال
مصة إرياگچ لعيش ابها سنه
ويستمر الغزل على لسان حسين ومع شعر ابو الغمسي:
يا خشيف الواردة من شيب ابوه
وچاسرة المشعل بشيبه وشيب ابوه
واليحبچن حيل زينن شيب ابوه
والتحبنه الحية ابـوها مزينه
ولا مجال للتوقف... فالليل مازال في اوله:
جهجريتي تگرص الممشى گرص
وما تهاب الشالخ زناده وگرص
إفرث الباگه وغمس بالـگرص
إكل وإشـبع والمدابج لي انه
وتعود ألأمور ثانية.... وبعد ان فرغ الديوان من زبائنه !!
ومع ألأمثال:
"ما يحل رجل دجاجة"
ويعود حسين للشعر في ليلة اخرى..بعد الحاح شديد من الحاضرين في الديوان:
من تطب للسوگ صبحة
صابت الدلال فرحه
جيت اعاملها الوگـحه
غطت الروبه بطبگها
داده خيعونه الشبگها
وللدارمي تاثيره الواضح... فعندما يتردد صوت المغنية بهذا البيت من الدارمي... تتعالى رياح الشجن والهم وتستعاد الذكريات المرة:
ما ظل عدل بعضاي حي وارتچي عليه
كـل هذا ما خليت شـامت يحس بيه

الحلقة "2"بلابوش دنيا:

وفي مناسبة ثانية..شهدنا اعادة الدارمي...تعبيرا عن التنكر للماضي والحبيب:
سلم على الوياي چني غريبه يادمعة البلعين صيري اديبه
وما زال حسين...يعيد على مسامع الجالسين بمعيته... بعضا من الاراجيز والهوسات...
"يصفالي الجو واهلس ريشه".
وعندما إستمع الى صوت المذياع... وهو يدني راسه من الراديو... ارتجل هذه الهوسة " يگح بلنده وصوته اهنا ".
وعندما مات سعدون "شيخ العشيرة " واجتمعت اللطامات قريبا من مضيف الشيوخ.. كانت اصوات النعي تصل الجالسين داخل المضيف:
حفر بير الفهم بابره وطلع ميتين نباره طرف صيته وصل بغداد واهل الحي والعمارة.
اما ان "السالفة ماچلها الثور"... فان المثل "لوردت حظك يميل اشتر ازناد وسبيل" ورد مكملا لما يعانيه المدخنون آنذاك.لكن الحرب التي استعر اوارها "صخونه...تطحن عظام الناس سكتاوي".
واعاد حسين بيتا من الابوذية ارسله الضابط التركي محمد ازلام للشيخ بدر الرميض:
امدهلي وارد اضربك بيس واكراك واعلمنك للبس البدن واكراك
بعزم الله اوچر فـوگ وكراك واهلس ريش جنحانك بديه
ومع الخيرة التي يتعامل بها حسين... يردد الجناس الأخير من هذا البيت:
سشوي للبخت لومال والحظ يجيب لصاحبه وين الرديه
وبعد ان مات احدهم.. هوس حسين:
باشينه زلازل واصگر البيگات
اجينه بجيش چلته ما يحسب المات
حاصرنه المعصيه والمعاون بات
" ظل ملچ الموت ايحوم اعليه "
ولان حسين من الد اعداء الانگليز وهم يبسطون سيطرتهم على ارض العراق.. فانه يترنم:
لا اسبوع الهم وادبره والخلگ من وسع الأبره
والگلب مثل المعبره ولـد، وامخليه الثاني
وعندما فارقه صديقه حسين.. إغتم خلف كثيرا.. وهكذا رفع عقيرته بالنعي وهو يستعير ما قالته فدعة بنت علي آل صويح، في مدح اخيها حسين:
حسين السحاب وهمل مايه يموحان يمشـيل الگرايه
يعربيد ياشيخ الحـيايه على گرصتك ما ترهم آيه
يبگار واخوانك ثوايه
وما تزال ذكرى حسين تؤرق خلف.. فينشد مترنما:
اجلبنك يليلي والهموم اطعوس
نخرن سباح گلبي مثل نخر السوس
اداري چم نذل واصبر لچم ديوس
واسكت لو حچي اليتنومس بعيبه ؟؟
ورددت احدى الشاعرات بوفاة حسين:
ابـو ناصر سبع ياحيد يسنافي
يا هدمة جرف يلتخبط الصافي
وسبق للمشيعين ان رددوا جزء من هوسة:
جبل حمرين هذا الشايلينه ارجال
يا سيل العرم يلما يرد لوسال
وفي حديث خلف مع بن حسين.. يستفسر منه عن الأضطرابات التي عمت البلاد آنذاك... وعندما لم ترق له الإجابة.. اضاف " ابگع عبا !!ابگع عبا ما يسوي شي، هاي ينراد الها صماخات ". ومفردة ابگع عبا: نقولها نحن " البروليتاريا الرثة ".. ويقولها الناس " اولاد الخايبة ".
ولان الفلاح مازال يعيش في ظل الخوف " اخذيني بسدچ يا خاله!!"
وعندما يتسع فضاء الإقطاعيين وتزدان جلساتهم سحرا وبريقا..يعلق احدهم ".. گامت تعلس بجلالها المهلوبة".
وفي عشية اعدام المناضل الشهيد علي الشيخ حمود... قال المهوال":
احنا اولاد واسط ما نريد اشهود
تگول الناس عنا لو حچينا ابزود
صدى صوته يرن للساع ابن حمود
" من ينشگ لحدي انوب المبدا هذا اتمسك بيه ".
وعندما تستغيث احداهن بابن الاقطاعي.. الذي سبق له وان اغتصبها دون علم اهلها او اي احد من الناس.. قال لها " إشلون ضاملچ رجل لگطة.. " ثم يورد المثل " اسمك رجل يگعيم عنوحشة الليل ".
وتتوالى الامثال " العنده اگراب بالشام ماينضام ".
وعندما تسير الامور عكس ما مقرر لها، وهكذا جاء المثل: گالوها اهل المثل: الما ينسمع لهامر، ايكف لسانه وينطمر "
ويعود الشباب الذين غادروا الموروث وانغمسوا في إشكالية الاوضاع السياسية والاجتماية وغيرها.. يعودون لبعض الامثال:" وارد اشرد لبغداد بأم الغمارة.... وشبلشچ ياروح بأهل العمارة". وبعد ان سمع خلف صوت المذياع وهو يعلن قيام الجمهورية... لا يتردد في الاعلان عن ذلك.. لكن ولده كان خائفا.. وهكذا سمعناه ينفعل " لا تصير مثل البده مايه عل السراب ". وتترى الامثال " العاجل وده ولا توصيه " و "ما شفناك يانون لما خضرت العيون "؟؟. وتعالت هوسات الفلاحين وهم يحتفلون بيوم الثورة "14تموز"..
"اتصنت والله اتصنت..هذا اليوم الرادة العامل والفلاح "
ـــــــــــــــ
* لمناسبة الذكرى الثمانين لميلاد الحزب الشيوعي العراقي.. وعرفانا منا بالتضحيات التي قدمها شهداء الحزب على طريق الوطن الحر والشعب السعيد.. نستذكر الشهيد شمران الياسري (ابو گاطع).