ادب وفن

"لا يوجد شيء لعرضه".. قصائد لهدى ياسر(1-2) / كريم ناصر

اللغة دلالة:يمكن أن نقسّم المجموعة الشعرية الموسومة "لا يوجد شيء لعرضه" إلى ثلاثة مستويات تخضع بديهياً إلى معايير مختلفة، لكنّها بالتالي تنتج صورة واحدة ترجع شعريتها تحديداً إلى تقنية اللغة، وفي أغلب الأحوال تكاد تكون المعيار في كلّ المقاطع الشعرية، والحقيقة أنَّ المقصود هنا ليس الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه، ولو تقودنا الفكرة إلى نفس الإطار، وهذا أمر طبيعي يسمح لنا بإبداء الرأي في النماذج الشعرية حسب العنوانات:

1.الأُسلوبية المتطرّفة
2.العفوية الناضجة
3.التكثيف والثراء اللغوي
المستوى الأول: ينحو باتجاه أُسلوبية متطرّفة، ما تؤدي إلى اختلال في التوازن بسبب وجود انزياح مستقل يلغي جمالية اللغة، في حين لا يدحضها كمادة أو كبنية، من هنا يصبح التطرّف غير ضروري يمكن تلافيه في أيّة لحظة، على اعتباره انحرافاً أُسلوبياً، والانحراف بالتحديد لا يمكن أن يُفهم كعائق، بل نعزو سببه في حالات كثيرة إلى التشظّي في وحداته الدلالية ولو افتراضاً، فتغدو التراكيب معقّدة تخلو من أيّ تحوّل بنيوي عميق، فبعضها مثلاً لا يدلّ على مكان أو معنى محدّدين كما سيتضح، لكن مع ذلك يبقى الخيال معياراً لصور تخيلية تحمل في حقيقتها المعاني الدلالية برغم فوضى الكلمات كما تؤوّل الشاعرة:
"أظنّ الأزواج قروروا جادين أن يعلوا
أو"أحتفظ بكفك اليمنى بين راحتي
وكدجاجة أم ترقد عليهم كفك اليسرى
أو
"ماذا تركتَ للإنسان إنسانك المذبذب!
تنكرُ سيلان شهوته يوم تعثر باقتحام
ليس صحيحاً أن يكون التطرّف اللغوي مقياساً، فكلّ الصيَغ المضافة لا تعدو تامّة، لكنها بديهياً لا تخرج عن سياق المعنى، وفضلاً عن ذلك يجب التسليم بوجود الثغرات التي تعدُّ نقصاً، وهي ما تؤدي إلى إضعاف الشفرة التأويلية أو ضياع وظيفتها والحق أنّ هذه الثغرات قد تغدو طبيعية، ليس هدفها كما نعلم هدم اللغة:
"سيّدُ السترةِ الحمراء استصرخ فينا بنوتنا،
فتحنا أفواهنا فاغرين في اللحن وملائمة الرقصة ص105
"قريتي الحبيبة كما في صغري ضميتني
ولكي نفهم الشعر علينا أن نكتب انطلاقاً من حساسية اللغة، لأنّه لا يوجد في الواقع شعرٌ من دون تجلٍّ لغوي يضع الفن داخل سياق أُسلوبيته وشروطه الصارمة.
لا يمكن أن نقرأ النصوص من دون أن نرمز إلى الفكرة بمعنى من المعاني، أو نبدأ بتفكيك الجمل من أجل إعادة انتاجها، نحن هنا نعالج بنية تقتضي إشراك القارئ في تفكيكها، وانتاج معانيها الدلالية لتظلّ دوماً متراصّة، كما هو الشأن في عملية الانتاج الأدبي.
"لو أن النور الذي كان أبصرهم,
لضم الراسيات بلا تمهل
ليس من الضروري تفسير كل ّما هو خارج محيط إدراكنا، إذا لم نتوفّر على معرفة كاملة تساعدنا على التأويل، ولا نسعى هنا إلى شرح نصوص غير مفهومة يكون معيارها نقص اللغة، إلاّ في حال كوننا نريد أن ندرس علماً أو نظريّة بطريقة مميّزة:
"ممتلئاً بوهج الأفواه
شفاهك فيما بين طفل وببغاء"
لا شك في أنَّ فكرة تجسيد ذاتية النص بغية تفسيره ـ بصورة طبيعية من دون الأخذ بعين الاعتبار التأويل ـ إنما تمثّل حالة سابقة على صيرورة اللغة، فماذا نصنع والحالة هذه إذا استعصى علينا استنباط المعنى؟ ففي ذلك مبالغة لو قلنا إنَّ كلّ نص قابل للفهم، ولا نستطيع أن نُوهم أنفسنا أنّنا قادرون كليّة على فهم أشياء غير ملمّين بصحّتها، لأنّنا في هذه الحالة سنقوم بتفسير ما هو ناقص في اللغة بطريقة آليّة، وليس تأويل ما هو دلالي تمثّله اللغة، ولا تصبح القراءات مفيدة من دون تكوين فكرة أولى عن ميكانيزم التحكم..
نحن نعلم أنَّ كلّ عبارة تتضمّن بنية خاصة تحتفظ بالمعنى الدلالي، وهو أمر طبيعي دائماً سواء أكان مبطناً أم ظاهراً، والحقيقة أنّ ضياع المعنى أيّ معنى كان في الجملة، هو عادة ما يحصل من نقص في اللغة يمكن أن يؤدي إلى تصدّع البناء المعماري، ولتقريب الأمر نقرأ هذين المثالين:
"كما لو أنك زحل حفتك الوجوه"
أو
"الخيط في يدي/ ضبابيتي قطعة معدنية
يرشحان الخطوات"
فالغموض هنا هو المعيار، وليس الدلالة بفضل تعابير لغوية، غير أنَّ ذلك ليس حكماً ثابتاً دائماً، فإذا كان غياب الشعر يرجع سببه إلى الانحراف اللغوي، فإننا لا نتردّد من وجهة النظر النقدية أن نعتبر الصور الشعرية غير معبّرة نتيجة هيمنة الكلام على التعبير:
"كيف لا تغص أمنا الأرض، ونحن نستعيرُ أرحاماً سواها
كل القرى إنفصامية بخلاف أسلافها"
أو
"حتى لا يجد الغبار لنفسه سانحة"
سمة ضرورية من سمات الشعر أن يكون جوهره مطابقاً لتمظهراته. إنَّ الدقة في التصوير تسهّل استنباط المعاني وتجعلها أكثر دلالة، حيث لا تكون هناك خيارات أفضل، وإنما يتحدّد ذلك بتطور اللغة السياقية، وقد سبق أن عالجنا الموضوع في دراسة خاصة، فلا بدّ من أن تتنوّع المعاني بدل أن تخرج عن السياق الصائب.. إنّنا نستطيع أن نقول إنَّ الشعر في جميع الأحوال يقبل التأويل بفضل نوعية النمط التي تمثلها الدلالة.
"ولكن القول إنَّ كلّ شيء تأويل لا يعني أنّ كلّ التآويل متساوية"، فليس هناك قراءات متشابهة لتأويل النص الشعري أو إعادة انتاجه على مستوى المعاني، ما لم تكن هناك آليّة تصوّرُ اللغة تجليّاً لفضائه الشعري، لا بدّ من الاعتراف باللغة وليس "بالنص" وحدَه، إذا نحن فهمناه على أنّه شعر، بل يمكن القول إنَّ اللغة تظلّ لصيقة بفضاء النص رغم اختلاف الصيَغ. إنَّ ما ندعوه بالهنات النحوية لا تمعننا من قراءة الوحدات النصيّة.
المستوى الثاني: يقوم في حقيقته على حشد الألفاظ والعفوية، فهاتان الصيغتان تضعفان الخيال والمعنى معاً، فكلّ منّا يعلم أنَّ الشعر انعكاس محض لظواهر عامة تنبثق معانيها من الواقع، كما تنبثق من الخيال، فكلّ جملة تحمل مما هو بحوزتها من معاني دلالية مستنبطة تنتظم في محتوين متباينين في المعنى واللغة السياقية..
الأول: نمطي خارج عن سمات بنيته الشعرية
"هاتفها ذات ليلة سائلاً إياها أن تجد له عروساً"
أو
"تعلمنا في المدرسة كيفية الصلاة أول مرة،
أمي منذ السادسة تنهرني..
صوت الآذان/ الجيران/ الناس في الأماكن العامة,
يذكروني بالصلاة. تمنيتُ لو أن أحدهم أخبرني لماذا نصلي"
أو
"رأيتُك تبتسمُ/ داخلك يضج: كاذبة"
أو
"لذا هذه ورقة صغيرة لك مكتوب فيها,
ـ لا تربطنا علاقة حب ثنائية إنما كونية ـ"
أو
"حتى نحن الفتيات لا يغرينا الزواج بشاب نعرفه"

والثاني: غرائبي/ دلالاته هي ما تكوّن نواةً لبنية ناضجة..
ونحن تلافياً للإطالة فلن نسعى هنا إلى الشرح الكثير، بيد أنّ المطلوب هنا أيضاً الوقوف عند المقاطع من الدرجة الأهم، ولو بالاِشارة في حقل دراستنا كما في الفقرات المذكورة:
"لماذا وشيت بالدودة كانت تقدرك؟"