ادب وفن

"لا يوجد شيء لعرضه".. قصائد لهدى ياسر (2-2) / كريم ناصر

إنَّ بلاغة التصوير تولد غالباً المعنى، نفهم أنَّ اللغة تنمو بحذر شديد وسط ركام من الصور الشعرية التي تكون في الأغلب الأعمّ عصيّة على الفهم، لكنها موحية، فلا توجد لغة معينة مستنبطة من قوانين عامة، فالنص إجمالاً لا تصنعه نبرةٌ لغويّة محدّدة، إنّما تصنعه الوحدات الشعريّة التي تصبح تجليّاً لبنى متعدّدة تدخل في صناعتها عناصر مشتركة:
"تقولون لا تؤولي الأمر قبل أن تظهر سمة برجك الخاصة
ربما ميتك كنس قلبكِ الأخير"
لذلك فليس للواقعية مكانٌ في الفن الشعري، ما دام لم يكن للشعر قوانين مطلقة تحكمه بمعنى من المعاني، انطلاقاً من هذا المفهوم تعيد اللغة الغرائبية النص إلى فضائه المدهش. "فالشعر برغم ما قال عنه أدغار الان بو ليس مسكوناً بروح السلب، فإنه لا ينقض البناء إلاّ ليُعيد بناءه، ليست العملية في مجموعها كما هو واضح عدماً. إنها الثمن الذي ينبغي دفعه مقابل وضوح من طبيعة أخرى":
"كل الصغار حزمة واحدة والمسارب تحفظُ الحكايات" ص53

إزدهار قصيدة النثر:

لم يعرفِ الشعر ازدهاراً إلاّ في السنوات الأخيرة على يد شعراء من أنماط أدونيس، أو سعدي يوسف، أو محمد الماغوط، أو أنسي الحاج، أو شوقي أبي شقرا، وكان لهؤلاء النصيب الأوفر في وضع اللمسات الأولى على الشعر العربي، مع العلم أنّه ليست هناك "قراءة تامّة" تُوحّد الآراء وتنصف الشعراء، وهذا ما ينطبق أيضاً على شعراء قصيدة النثر الجُدد الذين أثبتوا دون جدل إمكانات كتابتها، فما عاد هناك هدفٌ موحّد يجمعهم في سياق واحد، إلاّ أنّنا نقرأ بين الحين والحين نقوداً مهمّة تتناول تجارب بعضهم..
لم يمتِ الشعر كجنس أدبي، ولم يتخلّ الشاعر العربي عن قصيدته، مهما قلّت درجات التلقي، وتغيّرت ذائقة القارئ، وتعدّ الشاعرة (هدى ياسر) من الأسماء النسوية الجريئة التي واظبت على كتابة قصيدة النثر العربية شأنها شأن مثيلاتها دون أن تثبطها العقبات مهما كانت جسامتها:
"الله الكامن في العبارة
أنتَ المتآمر على جثته داخل القميص"
"الشتاء مقبرةُ القرية"
ولربما كان السبب الجوهري الذي أدّى إلى عدم انخراطها الكامل في المشهد الشعري هو نتيجة طبيعية لكلِّ امرأة تعيش في مجتمع منغلق على نفسه، ويظهر أنَّ الشاعرة ظلّت متماسكة رصينة لا تنساق وراء شعرية تقليدية، تبدو في نظرنا سهلة، لا تشغل حيّزاً كبيراً في ثقافتنا المعرفية، لقد وجدت "هدى" نفسها في وضع يسمح لها بالخوض في غمار الكتابة الحديثة، حيث لا بدّ من التقدّم إلى الأمام، ولم يعد من جدل لخرق التقليد الشعري..
"الصبيان والفتيات أقلام ألوان، والأمهات لا يخطر ببالهن زيف الأفكار
انطوى ذاك الشغف"
لم يكن نص الشاعرة ستاتيكيّاً بمعنى أو بآخر، وهذا ليس مدحاً، بدليل أنَّ شعرها ليس نمطياً أو ثابتاً، وسأكتفي بالإشارة إلى تطوّر البنى الشعرية في بعض المواقع التي لا تني تعود بالأساس إلى استعمال الاستعارة والمجاز كأمثلة تركيبية، فكلّ تطوّر بنيوي يسبقه تجلّ لغوي:
"تزيل المرأة الشعر عن جسدها,
حتى لا تلتصق بها جرائم الرجل"
وقد تكون بعض الصيَغ ذاتية لكنّها تحتفط ضمناً بجوهرها الدلالي:
"أهدابي تلعق الغيم
أمي الأرملة نفسها نسخة الأب تلحظ المطر يسقط,
ولا تيأس من تسليط شمس المجتمع"
وهذا من الطبيعي ما يجعل النص الشعري في نظرنا قابلاً للفهم، ويتوفّر على معنى، غير أن هذا الاعتبار يخضع لتأويلات لغوية، إذا ما اعتبرنا الشعر جنساً ملتبساً دائم الصيرورة:
"هل ما زال على أحدنا أن يضع صخرة؟"
"الغصن جسدي، الريح رجل لا أعرف برجه"
ونظراً لكون التراكيب الايروتيكية محظورة في مجتمعات معينة، إلاّ أنّها تعدّ واقعية، فهي ليست شاذّة أو خارجة عن سياقها الطبيعي، ذلك لأنّها تعلن عن بنية جمالية تسمح بالانزياح عن البنى التقليدية دون أن تقوّض مقوّمات وجودها، وليس من باب المصادفة أن تصبح الكتابة الايروسية أُسلوباً للتعبير عن حاجة داخلية:
"جدتي الصغيرة العروس كانت تلعب في النهار وتُنكح في الليل"
أو
"لا رجل أملس أشاركه الشارع/ المقعد وحتى السرير
فأتزحلق معافاة من حمى شهوته"
أو
"طفلة كنتُ لا تغريها الدمى بل ابن عمها" ص75
"أشتهي نَفَسك يعض شحمة أذني, أشتهي الخضوع لجموح الفارس"
أو
"أريد رجلاً أتقاسم معه بالتساوي عيال وجداني،
أريد رجلاً يروّض قلبي الذي يجعلني أدور كلبؤة"

البحث عن الأمل في طيات لغة شعرية:

لكي نفهم أنَّ الشعر قضيّة جوهرية، فإنّ الشاعرة اعتمدت في استدلالها على تأكيد المعاني الدلالية قبل كلّ شيء، لأنَّ السمات الشعرية تكون غالباً متجسّدة في اللغة، وليس في تقنية الأسلوب فقط، وفي هذه خاصيّة صياغية، فمثل هذه السطوة لا تلغي موضوع الشعرية داخل النص الشعري، ما دامت هي تبحث عن قضايا المعاني، لذلك "لا وجود لمعنى أو فكرة ليست من إنتاج صورة ملحوظة" كما يقول "فاليري".
"كلما ألح طيفك على تجسيدك،
هرع حناني إلى تعطيل قلبي
ويقول: أعني حناني ـ إياك من تكرارك".