ادب وفن

مخيم المواركة.. ورواية القناع (2-2) / حميد حسن جعفر

تحولات الكتابة عبر عشرات العنوانات، لا يمكن أن توفر للقارئ الكلاسيكي، القارئ الذي لا يستطيب سوى الحكاية المباشرة، والسرود المفتوحة، والشخصيات التي لا تمتلك تواريخ مطموسة. وحيث الواقع المصنوع ضمن تسلسلات الأحداث والوقائع والمسببات والنتائج. هذا القارئ الكلاسيكي قد لا يجد مبتغاه فيما يكتب الروائي "جابر خليفة جابر"؛ فالسرود الروائية لم تعد تتشكل وفق بداية ونهاية وحبكة وحدث متصاعد وشخصيات متناحرة، وحل العقدة.
الروائي صاحب الكتاب القصصي "طريدون" لا يكتب وفق مواصفات ثابتة أو خاصة، بل من الممكن أن يقول قائل إن الرواية لدى جابر خليفة جابر فن كتابي يدير شؤون الكتابة بنفسه؛ أي إنها عمل مكتف بذاته. وفق هكذا منهجية من الممكن أن يقول القارئ إن الفعل الروائي يتحرك ويتنقل في فضاء مخيم المواركة.
فالقارئ لا يدري من أين يطلع عليه الرواة، الجميع كل واحد من الممكن أن يضيف، أو أن يعلق، أو أن يكون البطل، أو المتفرج، أو قد يكون الضحية.
إجراءات الكتابة هذه قد تثير الكثير من الظنون، من إن الكاتب كان يدون وأمام عينيه قارئ معين، قارئ معرفة، له من السمات ما تدفع به الى أن يتحول من قارئ الى مكتشف.
القارئ هذا لا يمكن أن يكون فكرة، بل إن الرواية ذاتها هي رسالة مشفرة، معنونة الى أفراد أو جماعات، وليست رواية بريئة، أي إن هناك أهدافا ومقاصد وغايات من الممكن أن يكون بانتظارها قارئ يمتلك عنوانا.

"4"

النص السردي في مخيم المواركة يعتمد الحراك، حركة الأفراد، حركة ما يحيط بالفرد. ليس هناك مفاصل تقف خارج الصراع، الجميع يتحرك وفق مبدأ المقاومة. فمقاومة الشطب/ الاستبداد الذي ارتدى لبوس الدين، أي إن وجود أفراد محاصرين يستوجب وجود مقاومة مشروعة لسلطة تقود عملية التهميش. ورغم وجود شخصيات رئيسة في النص إلا إنها لا تشتغل منفردة، إذ لا مجد للأفراد. هنا يتوجب على النص صناعة الهوامش المتماهية/ المختبئة خلف الآخر الظاهر. فلا مركز من غير هامش من الممكن أن يكون بعيدا عن عصا السلطات.
***
قد يعتمد الكاتب في تناصاته على وقائع موضوعية، إلا إن المخيال الذي بين يديه كان هو الأكبر. وكما يصنع "كريم كاسيوس" المايروكات ـ دمى خشبية ـ كان جابر خليفة جابر قادرا وبشكل متفرد على خلق كائنات سردياته. ليس هذا فحسب، بل انه يعمل على صناعة نص قصصي موضوع وعلى السنة العديد من "المورسكيين".
القارئ الذي يتجاوز عتبة المخيم سوف لن يجد ـ اذا ما التفت الى الوراء ـ لن يجد المدخل الذي أوصله الى وسط غابة النص. حيث إن المداخل تتناسل، وتتناهى، تغير أماكنها من غير وجود مخارج. وبذلك على هذا القارئ أن يكون كشخصيات القص، أن يكون مجبرا على ممارسة القراءة، مجبرا على ممارسة كتابة النص.
مغامرة القص هذه فعل لا يتقبل النكوص، أو التراجع، وليس أمام الروائي سوى المداومة على صناعة قصاصات السرد، وعلى صناعة الخيمات "خيمة اشبيلية، خيمة البشرات، خيمة غرناطة".
إشكالية الكتابة لدى الروائي لا تتوقد عند تعدد مصادر الروي، بل واختلاف الموقف منها، بدءا من التشابه الى الاختلاف. لا كما يقال "يزيد الطين بلة" بل يزيد المواقف غواية. فالروايات لا يلغي بعضها البعض الآخر، بل إن تعدد الاحتمالات من الممكن أن يوفر حالة من حب الاستطلاع.
***
ورغم محاولات الروائي في صناعة تسلسل للأحداث والوقائع، إلا إن إشكالية النص لديه تعمل على الضد من ذلك. فتسلسل/ تراتبية الأحداث لا توفر للقارئ سوى الشيء القليل من المتابعة، ولا توفر كذلك حالة اندفاع لصناعة الخرق/ التجاوز، الذي يشكل جانبا مهما من جوانب الإبداع. حيث إن مهمة إدارة شؤون القص وسط تكاثر وتعدد الرواة لم يكن بالمهمة السهلة، ولم تكن بالشأن الواقف خارج مهمة المغايرة. لذلك فإن إصرار الروائي على صناعة تكسير، وتدمير البريد _ الاستلام والتسلم ـ يمثل حالة إصرار على تفتيت سكونية المتلقي، الذي لم يتعود نصا سرديا يذهب به بعيدا عن قراءة غير اعتيادية.
فما أن يجد الروائي مخلوقا سرديا قادرا على الإضافة حتى يزج به حتى يطلق هواجسه، مستنفرا الكوامن.
***
ورغم البرمجة والتخطيط للكتابة مع محاولة القبض على تصرفات شخصيات النص وتقنينها، إلا إن الروائي كثيرا ما يستجيب لرواية جديدة، أو لمعلومة كاشفة، أو لتاريخ مهمش. في محاولة منه لكسر الخط المستقيم للكتابة، مع التشديد على إن النص لا يمكن أن يشكل حالة نهائية لما في دواخل الرواة. وذلك بسبب توفر رغبات الإضافة، أو الحذف ضمن ممارسة يقول عنها الروائي: "كنا نمارس احتفالاتنا القصصية في المخيم".
***
قد تبدو القراءة للبعض من القراء، على إنها فعل يقف خارج المعرفة، أو خارج صناعة التغيير؛ ناسين أو متناسين، أو غير عارفين أن القراءة هي مصدر التحولات، والانقلابات على الذات أو على الآخر. سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي، بل إن نهوض حضارة لاحقة، واندثار حضارة سابقة، هو نتاج لقراءة مستندة على مبدأ المغايرة.
هكذا قد يبدو التصور للبعض من القراء، أو هكذا يبدو الاعتقاد، أو المفهوم العام للفعل القراءاتي.
إن تصورا ينتمي للسلبية يلصق بالقراءة هو مفهوم بعيد كل البعد عن ماهية القراءة، وكينونتها. إذ إن القراءة فعل كشف وتعرية، واحتفاء وتغيير وإزاحة. ومن غير هكذا مفروزات، أو نضوحات لا يمكن مزاولة الحياة، أو إنتاجها. وعبر هكذا ممارسة تتشكل الكتابة كذلك.
فالعملية المعرفية بطرفيها القراءة والكتابة من الممكن أن تتشكل لتنتج المستقبل. (جابر خليفة جابر) سارد يعمل على صناعة المعرفة لا عبر إعادة كتابة التاريخ، بل عبر صناعة التاريخ. حيث يكون المتشظي والمخبوء والمهمل، المادة الخام والرئيسة في القول والكتابة والنسيج السردي.
"5"

قد تكون هناك تجارب شخصية على مستوى السرد، استطاعت أن توظف التاريخ في صناعة الرواية. منها ما كان ضمن عملية تعالقية مع الماضي، ومنها ما يعمل على صناعة الترابط ما بين الماضي والحاضر، على شكل صياغات سردية لوقائع ولشخصيات تاريخية مائة بالمائة، كما هي الحال مع كتابات جورجي زيدان في مجموعة رواياته التاريخية.
جابر خليفة جابر في "مخيم المواركة" يعمل على الاستفادة من بعض أو أجزاء من وقائع التاريخ العربي الاسلامي. أي إن هناك حالة انتقاء وتوظيف للصراعات الناتجة بسبب ما يسمى بالفتوحات الاسلامية في شمال أفريقيا وصولا الى قيام الدولة الأموية في الأندلس. اسبانيا والبرتغال وصولا الى فرنسا وسواها.
***
من الممكن أن يكون صراع الأفكار وتلاقحها والتأثير والتأثر، وموقف سلطات الأديان؛ هو النسيج لكل الحكايات وقصص "مخيم المواركة" والروائي لا يعمل على صناعة دعوة لإعادة فكرة الفتوحات، بل يعمل على إعادة إنتاج دور المسلمين العرب وغير العرب، في صناعة الحياة الروحية للشعوب الأخرى من خلال تفكيك منظومة الغلو والتطرف أو محاكم التفتيش، واستبداد الكنيسة آنذاك.
***
القارئ والمتابع لكتابات جابر خليفة جابر السردية: "طريدون، جيم، الفاو، وأخيرا مخيم المواركة"، لابد له من أن يؤشر وبشكل جلي على إن الكتابة من الممكن أن تكون كالسير على سلك مشدود ما بين جبلين مع عدم وجود حبل إنقاذ، أو شبكة استقبال، وعلى الكاتب أن يكون متأكدا مما يكتب.
قد يشير البعض الى حالة إحياء وإيقاظ الفتنة، وان الكاتب يشتغل ضمن أجواء عفا عليها الزمن، وتلقفها النسيان. وإن ما نحن فيه، من الإشكالات والمشاكل التي هي أحق من سواها بالتناول والتحليل والكشف إلا إن الحقائق تقول إن العالم كل واحد، والكتابة في التاريخ، أو ما يشبه التاريخ فعل تحريضي قد ينتمي الى الاغتسال والتطهر من الأدران سواء كانت جسدية أو روحية.
***
آراء وملاحظات المخيمات "مخيم اشبيلية، مخيم غرناطة، مخيم الشرفات" قد ينتمي الى المختبر السردي/ المشغل السردي. الذي ظهر وبشكل واسع في العديد من التجمعات الأدبية والنوادي الثقافية، حيث تشكل النقاشات والآراء المختلفة وسيلة جماعية من أجل إنتاج نص سردي من الممكن أن يكون جماعيا.
هذا النص السردي كثيرا ما يكون صاحب نهايات متعددة، وحكايات مختلفة، ضمن فرضية عدم وجود نسق شاطب. ورغم وجود عنصر المعارضة، لنص ما، لاقتراح ما، إلا إن هكذا مفاصل لا تطرح نفسها كبدائل نهائية.
"أما نهايات بدر البشرات وليس نهايته
فقد ذكروا له عدة نهايات".
وبالتالي فإن الجميع يشكل نواة النص ومتن الرواية.
فالكاتب وضمن اقتراحات خيمة غرناطة: يقترح أربع نهايات وعلى القارئ أن يجد ضالته.
من الممكن أن يشكل القارئ ما يسمى بالغربال لحظة التلقي، إذ عليه أن يتقبل هذا ولا يتقبل ذلك.. أن يعيد تشكيل ما يقرأ لا وفق ما يقول الرواة، بل وفق ما يستقبل، وفق تصور هو مالكه.
***
من الملاحظ إن تهمة الكفر والهرطقة التي تطلقها سلطة الكنيسة بوجه معارضيها، يقابلها في تاريخنا العربي والاسلامي تهمة الزندقة والخروج على سلطة الخليفة، والتي كثيرا ما تطلقها سلطات الخلافة والإمارة، وتحديدا فترة الخلافة العباسية بوجه معارضيها ـ ومن المتصوفة تحديدا ـ وما الحرق بالتنور إلا واحدة من طرق القضاء على الصوت الآخر.
***
سلطة الإبداع ـ وأعني بها ـ سلطة المعايرة والاختلاف، كانت أكبر من طرق السرد المتعارف عليه، هذه السلطة أجبرت الكاتب على تحديث أدواته، ومن ضمنها تدمير الرتابة. ليحتوي كل عنوان من العنوانات التسعة والعشرين على مجموعة عنوانات فرعية. والروائي عبر هكذا تفاصيل يخطط لصناعة إبداعية تشكل جزءا كبيرا من اهتماماته وأعني به الفن التشكيلي، ليؤسس تجمعا من ثلاثة رجال وامرأة. إنه يشتغل على إنشاء لوحة فنية.
"السلام عليكم، سأقص عليك اليوم
ما نشرته خيمة مدريد تمهيدا على
ما يبدو لمشروعهم الرئيس، كان على
شكل تخطيط أولي له ولكن بلغة السرد لا الرسم".
هذه الميول والطموحات لابد للنص من أن يحيل القارئ الى "طريدون"، الكتاب القصصي الذي أثار انتباه القارئ والمتتبع والمهتمين بالشأن القصصي والروائي لـ جابر خليفة جابر.
***
لقد تعدد الرواة، بل تعددت أسماء الراوي الواحد، ومع هكذا إشكالات تعددت المرويات. فـ "بدر بن حامد بن بدر" ـ زوج قمرين ـ قد يجيء ببطاقة تعريفية باسم "بيدرو" أو باسم "ماركوس" أو باسم "مارتينو". أو "زكي" الذي يجيء ببطاقة تحمل اسم "كريم كاسيوس"، أو "زاكاو". إضافة الى غياب العديد من المصادر ـ مصادر القول ـ عبر انتهاء أو اختفاء المخيم الذي تصدر عنه الحكاية المروية.
إضافة الى ذلك فهناك أكثر من "عمار اشبيليو"
وهناك أكثر من حامد "حامد بن قمرين، حامد بن كناري".
وهناك حامد الأندلسي الذي لا يُعرف انتماؤه لأي منهما.
ومعظم الرواة هؤلاء هم كتاب وقصاصون ومؤلفون بارعون. والذي أعرفه وعرفته ـ كقارئ ـ إن جميع هؤلاء رواة شفاهيون أو رواة تدوين، هم بعض شظايا الروائي جابر خليفة جابر فهم الكائنات الكتابية التي نفخ فيها من روحه.
***
إشكالية الكتابة هذه أنتجت إشكالية قراءاتية. فهناك ثلاثة مستويات للرواية حيث يتم الاعتماد على التاريخ في الكتابة.
فهناك أخبار مكتوبة،
وهناك أخبار شفاهية،
وهناك أخبار موضوعة.
وهذه المستويات الثلاثة تعتمد بالأساس على صناعة التأويل. هذه الصناعة أدخلت الروائي لمختبر البحث عن الحقائق/ تلك المفترضة والتي من الممكن أن تتعرض للكثير من الابتزاز/ الحلب.
فهناك الكنيسة، وهناك القشتاليون
هناك اليهود المتنصرون
والنصارى المتأسلمون
وهناك المسلم المتنصر والبروتستانتي والكاثوليكي.
هناك المواركة، وهناك المورسكيون.
هذا النسيج المتشكل من التناقضات كما أوردته كتابة صبورة متأنية، فهو بحاجة الى قراءة صبورة متأنية.
وكما كان الكاتب يعمل على صناعة البحث وفرك الوقائع على القارئ كذلك.
***
الحس التشكيلي الذي تسيد المشهد السردي في "طريدون" سيجد له أكثر من وسيلة للوصول الى مخيلة الروائي في "مخيم المواركة". واذا ما كان تحاور الأجناس الأدبية وتداخلها مع بعضها يمثل حالة إبداعية، فإن جابر خليفة جابر استطاع أن يكتب نصا تشكيليا لا ينتمي للوحة بقدر انتمائه للسرد. لتتحول نصوص/ النصوص المرئية الى نصوص مقروءة.
***
إن "حدائق الأندلس" آخر عنوانات "مخيم المواركة" تشير وبشكل واضح وجلي إن "عمار اشبيليو" لم يكن سوى الروائي ذاته. ففي اللحظة التي يكون فيها "جابر خليفة جابر" يتنزه مع أطفاله في متنزه الأندلس، يصله خبر من الروائي الرئيس "عمار اشبيليو" يخبره بأنه وأطفاله يتنزه في متنزه الأندلس.