ادب وفن

"الكرسي" وعوالم وفاء عبدالرزاق / علي محمد سلمان العبيدي

هذه صورة ملحمية جديدة تجود بها علينا الشاعرة "وفاء عبد الرزاق"، وهي نتيجة عفوية لما يحتدم في دواخل نفسها الأبية من عنفوان لأجل الأرض والشعب والكرامة.

إن لهيب الشعور بالمأساة، ولهيب الغضب الذي يحرق فؤادها تفجر بركانا مزمجرا بصرخة الحق لتطلقها بكل شجاعة وثبات بوجه الطغاة والمجرمين:
في هذا المكانِ أبوابٌ
ترتجفُ حين يلعبُ الأطفالُ
بقطراتِ المطر
هم لا يريدون غيرَ دفءِ القلبِ
يصنعون منه أقلاماً
وحقائبَ مدرسيةً.
في هذا المكانِ أبوابٌ...
لم تحدد الشاعرة نوع هذه الأبواب لأنها متعددة الأنواع... مثل باب الرحمة... باب الخير... باب الرزق... وباب... وباب... لكنها وصفتها كلها بأنها كانت ترتجف خوفا وترتعد فرقا من هذا الذي يحدث كل يوم، وعلى وجه الخصوص حين يخرج الأطفال "رمز السلام والبراءة والنقاء وصفاء القلوب" للعب، ولكن بماذا يلعبون؟، إنهم يلعبون بقطرات المطر، وهذا التعبير كناية عن البراءة والاستكانة يرافقها البشر والخير بين يدي الباري جل شأنه.
هم لم يطلبوا منا شيئا غير أن لسان حالهم يقول: إنهم لا يريدون شيئا سوى حنان القلوب ودفء الأحضان والإحساس بالأمان لترسم بسمة على وجوههم... ليصنعوا من هذه الإشارات المعنوية الرقيقة أقلام العلم والمعرفة والمستقبل الزاهر، ومن ثم يضعوها في حقائب القلوب بين زوايا الذكريات والقصص التي سترويها الأجيال..
في هذا المكانِ نوافذُ
انكسرَ عمرُها كزجاجةِ حلُمٍ
كمياهِ متدفقةٍ بالحنينِ
لكنَّ الوعدَ ضوءٌ أعمى.
في المكان الذي قصدته الشاعرة كانت هناك نوافذ وشرفات ينبثق منها شعاع ينير الطريق للعابرين... لكنها تهشمت كالزجاج ومات ذكرها وانمحت آثارها.. بعد أن تبددت الأحلام وطاشت الأفكار وضاعت الآمال ونضبت عيون الماء المتدفقة فيضاً يبشر بالحياة والغصن الرطيب والعيش الرغيد... لكن يا أسفي كأن كل ذلك محض خيال وأضغاث أحلام لأن الأمر وحين غرة أطفأ الأضواء فزاغت الأبصار وحل ليل حالك الظلام:
خلفَ هذهِ الأبوابِ صيادٌ كادحٌ
رمى شبكةَ العمرِ
في مياهٍ مالحةٍ
في الليلِ تجسَّدَ الملحُ مراكبَ هائجةً
ولمْ يتجسدْ الساحلُ.
لكن هل تعرفون ما الذي كان خلف تك الأبواب ؟! كان هناك صياد أنهكته الأيام خائر القوى نحيل الجسد غائر العينين أكلت السنين جسده... لذلك وصفته الشاعرة بأنه كادح يعمل ويكد حتى شارف العمر على الانقضاء... فرمى كل شيء الذكريات والآمال والأمنيات مع شبكة العمر لأنه وفي نظره لم يعد معنى أو قيمة للحياة في ظل الطغاة الذين لا يعرفون إلا الشهوات البهيمية ... فرماها في البحر المالح بالرغم من هياجه الشديد غير مكترث بالعواقب لانه يعلم جيدا أنه لا ساحل ولا مرسى إليه النجاة.
أيُّها الكرسيُّ
سنغفرُ ذنبَ الشموسِ
لو اعتزلتْ شروقَها
وفتحتْ خيانةَ الطريقِ
يُغفرُ ذنبُ الشمسِ
لأنَّها الراعيةُ لضوءِ الكلامِ
لكنْ لنْ يُغفرَ ذنبكَ
يا راعيَ الصمتِ والحجرِ.
الخطاب الموجه للكرسي هو خطاب مجازي والمقصود منه لكل من يعشق هذا الكرسي ويعتليه ... تقول له كل ذنوب من يقدمون الخير مغفورة وهفواتهم مُقالة لان أفعال الخير التي قدموها تشفع لهم عند حصول الخطأ فالشمس سنغفر لها إذا ما اعتزلت يوما الشروق ... وهنا تعلم الشاعرة علم اليقين وبإيمانها المطلق برب العرش العظيم أن هذا لن يحدث ولكنها عبرت عن ذلك بالشيء المستحيل... وان الشمس واهبة النور والدفء والماء واهب للخير والعطاء ... لكن أنت ماذا قدمت لكي يغفر ذنبك حتى انك لم تقدم خيرا بكلمة طيبة... بقيت صامتا متحجر الافكار صلداً لا يقبل التجديد والحوار ولا يحسن جوابا.
الأبوابُ لا تريدُ المفاتيحَ الخطأَ
إنْ كانَ بصرُكَ شحيحاً
دعْ نجومَنا تعبرْ الفصولَ
تدخلُ قلوبَ العاشقينَ
وقلبَ أمٍ..
الأبواب لا يفتحها إلا المفتاح الصحيح الذي يتناسب مع أقفالها وإلا سوف تٌكسر وتتحطم ويدخل منها كل من هب ودب وهذا التعبير كناية عن الحكمة والسياسة المتعقلة... وان زاغ عقلك وشحت عليك الحكمة والحنكة فدع الآمر لغيرك فانك ليس النجم الوحيد الذي تعلقت به الإبصار فهناك نجوم تتجاوز المسافات والأزمنة لتكون علامات يُهتدى بها ومن ثم تتسلل إلى الأرض والى البيوت والقلوب لترسم البسمة والخير على قلوب الامهات ووجوه الصبيان.
لا تجعلْ الابتساماتِ موجعة ًمثلَكَ
دعْ أرغفَتَنا تُطعمْ الجميعَ
تعوَّدنا على اقتسامِها
حينَ يشحُّ الرزقُ
ولأنَّكَ لا تعرفُ العوزَ
لمْ تمضغْ لقمةَ الفراغِ
في فمِ امرأةٍ عجوزٍ
لمْ تذُقْ وجبةَ الجراحِ
ولمْ تسمعِ الصليلَ
أبتعد عن أرضنا وقرانا دع المواقد دافئة والأمهات يتحلقن حولها وهن يخبزن عجين القرية ويتذوق الجميع هذه الأرغفة التي تحمل طعم المودة والأخوة ومهما قلت هذه الأرغفة أو كثرت فإنهم يقتسمونها وكل يأكل نصيبه لان أهل هذه البلاد هم نسيج واحد لجسد واحد يحملون الهم والأحزان سوية ويفرحون سوية ...أما أنت فلا تعرف معنى هذه القيم ولا هذه الألفة ولا تفهم كنه المشاعر والأحاسيس التي يحملها هؤلاء الناس ... لأنك عشت منعما في أحضان من كان يمدك بالمال والجاه ولم تذق ليلة طعم الذل والهوان ولم يذق أطفالك طعم العوز والحرمان ولم يبيتوا ليلة يحومون وراء أمهم لا يستطيعون النوم من الم الجوع..
كلُّ هذا من عطاياكَ
أيُّها الجالسُ منذ ُوقتٍ
على أكتاف الشعبِ
ورزقِ المبعدينَ
وقتما كنتَ تفترشُ الحريرَ
افترشتِ الصبية ُالطرقاتَ
وتوحشتْ مثلُها
وحينَ ارتديتَ ألبسةً فاخرةً
كانَ أطفالي يرتدونَ القيظَ
ويشربونَ كأسَ العاصفةِ
بينما طفلتُكَ يدللُها المأجورونَ
الذين بصمتْ سياطُكَ على ظهورِهِم
عمقَ المهزلةِ.
أيها الطاغية كل هذا الخير والنعيم الذي ترفل فيه أنت ومن معك وتتسلق غرورا في علوك على أكتاف أبناء شعبك الذين أرهقتهم الغربة وأتعبهم شظف العيش ومحال الأرض اليباب وافترشتها الأطفال والصبية والتحفت السماء حيث لا مأوى ولا معيل ولا توقد نار تحت قدر ... ألا تلتفت أيها المتوحش القادم من بوابات الزمن الخلفية بحلتك الفاخرة وتتبختر كانك الفارس الهمام الذي قطف آيات النصر من فوق عنان السماء ... أنظر إلى أطفالنا والى أسمالهم البالية والفاقة التي تعلو وجوههم والضيم الذي يعانون منه ... بينما طفلتك الحبيبة مدللة في أحضان المأجورين الذين تزق عليهم زقا من أموال هذا الشعب المنهك المكلوم الذي لا تندمل جروحه ولا تنمحي أثار سياطك من ظهور أبنائه ... إنها مهزلة حقيقية مضحكة ... وشر البلية ما يُضحك..

أيُّها الكرسيُّ
أنا لا أبحثُ عن مائدةٍ في وطني
أبحثُ عن قمرٍ استظلُّ بهِ
وأعلِّمُ إبني سرَّ الضوءِ
وكيفَ يرفعُ رأسَهُ عالياً
لاحتضانِ السماءِ.
في هذا المقطع تخاطب السلطان المتمسك بالكرسي الى حد الموت... إنها لن تبحث عن الجاه والسلطان والترف والموائد ... إنما تبحث عن مكان آمن حتى لو لم يكن هناك سقف تستظل به فإنها ستستظل بالقمر كناية عن الأمان والخير والبشر والسؤدد ... لأنها تعلم علم اليقين أن الأبناء سينتفضون في قادم الايام ويحررون البلاد ويرفعون الرؤوس عاليا فوق نجوم السماء بكل فخر واعتزاز..
أيُّها الكرسيُّ
ارفعْ وجهَكَ عن كلِّ الأقنعةِ
خذْ إبرَكَ المغروسة َفي قلبي
لأعيدَ حياكةَ مرافئِنا
أبعدْ أصابعَكَ الملوثةَ
عن كلِّ الزوايا المطفأةِ
عن رغبةِ الأحصنةِ بالجموحِ
وعنِّي
ليهتزَّ رحمُ قصيدتي
وتهتزُّ زهرةُ الخدرِ طرباً
بمجيء نبيٍّ بينَ أحرفي.
أرفع سطوتك عني وعن أخوتي وأبناء وطني فحيلتك أصبحت مكشوفة ومكرك خاسراً بائراً وانتزع كل طعناتك التي وجهتها الى جسدي لكي ألملم جراحى وابتعد أنت والأيدي القذرة الملوثة بدماء الأبرياء من أهلي وجيراني وأبناء هذا الوطن... سيهتز هذا الرحم الطاهر لتولد منه الكلمة الطيبة المعطرة بسيرة النبي الكريم المستلهمة كل معاني القيم النبيلة من حكمته وسننه سنن الهدى والنور... لأنني دائما أستلهم العبر وأتعلم الحكمة من تراث أمتي المجيد..
لنا دمعٌ آخرُ
غيرَ الذي أرقتَهُ في العيونِ
لنا شجرٌ لا يصنعُ العروشَ
والأقفاصَ
لنا بكلِّ الرعبِ والصراخِ
الذي اقتنصَ أعمارَنا
عمرٌ آخرُ لا تعرفُهُ انتَ
سأحرقُ الخشبَ اليابسَ
الذي صنعَكَ
وأبقي الأخضرَ ملجأً للعصافيرِ.
لنا دمع آخر غير هذا الدمع الذي رأته عيناك ...هذا دمع الحزن دمع الدم دمع الألم لكن ألم الآخر غير هذا الدمع دمع عصي عليك فإذا هطل دمع الفرسان وزغردت الحياض وفقد جاءت العواصف بالطامات وانهار عرشك واحترق الخشب الذي صنع منه فشجرنا يستحي ان يصنع من أغصانه عرشاً لك لأنه شجر يأبى الذل ... إذا انتفضنا وصرخنا سنرعب تخوم الأرض وأعالي الجبال ... ويولد لنا غد جديد ويكون العمر أطول وأنت لا تعرف كيف لأنك لا تفهم سر الحياة وسأحرقك كأعجاز النخل القديم أما الشجر الأخضر فسيكون أعشاشا تأوي إليها العصافير البريئة.
إذا رأيتَ حينَها نجماً يلعبُ في النهرِ
فهوَ وجهُ ذلكَ الصبيّ
الذي لعبَ حافياً على قارِ الطرقاتِ
وإذا سمعتَ الشموسَ تغني
فاعلمْ أنَّهُ الشعبُ أُشرقَ
ليزفَّ بياضاً أبدياً
ينصعُ الأحلامَ،
شهقتُنا الضاحكةُ
وحدها ستتسلقُ الجبالَ.
ان وجوه الصبية التي تتلألأ كالنجم الذي ترتسم صورته على وجه الماء في النهر الصافي الذي لا تشوبه كدرة ... هو نفس الصبي الحافي الفقير الذي يلعب بكل براءة على قار الطريق وهو لا يشعر بحرارته لبساطته وطيبة نفسه ... وأنا على علم من ان ضوء الشمس الذي أعمى ناظريك تعرفه جيدا انه هو صوت الشعب المنتفض ضد القهر والظلم جاء ليمسح الدموع ويضمد الجراح ويدوس على الأحزان ويتسامى عن روح الانتقام لانه شعب أبي يحمل قيم ومبادئ الاجداد العظام التي هي أعلى من ذرى الجبال ... ولا يتشبه بهؤلاء الاوغاد من الشعوبيين والانتهازيين من القتلة والانتقاميين..
الجوعُ صالحٌ للكتابةِ
وصدورُنا المزكومةُ بجراثيمِكَ
صالحةٌ للصراخِ
على صدرِ الشعوبِ ينغرسُ الكلامُ
أيُّها السهوُ الأبلهُ
سأكتبُ على مزقِ ثيابِ العراةِ قصائدي
وأبثُّ النجوى من على صخرةٍ عاليةٍ
ابتساماتُ الفجرِ تقرأُ الجالسينَ على الترابِ
ولا تقرأُ الكراسي.
سنكتب تاريخك الأسود بجمر الجوع الذي فرضته علينا ...وسننفر جراثيمك من صدورنا بعطاس الحمد والذكر ... أيها الوغد أنت لا تفهم معنى كلمة شعب لان الشعب أبي يغار على الحرائر وأنت جبان غادر لا ذمة لك ولا عهد... سأغسل وجهي بماء المكرمات وانتفض من سهوتي وهذا الوسن واكتب القصائد على مزق الثياب البالية من ثياب عراة الأيتام والمساكين لان
الفجر قادم لا محال
أمي غزلتْ لي بابا
في هذا المكانِ
في تلكَ النافذةِ رسمتْ
جناحَ فراشةٍ
لذا ستصير الشوارعُ مطراً يُغرقُ العروشَ.
وفي نفس المكان يرتسم الأمل وتتجدد الأمنيات ويصبح الرجاء حقيقة وتنهار عروش الطغاة أمام الفيض العرم من مطر الأحرار ليتم الطهر والنقاء.