ادب وفن

الاستعادة والاشتباك .. رواية "الذباب والزمـــرد" أنموذجاً / جاسم عاصي

تمهيد
ماذا نعني بالاستعادة؟، سؤال يقودنا إلى أجوبة متعددة. فالاستعادة تعني استرجاع التاريخ، والتاريخ هذا بأحداثه يؤشر علاقة الرواية بالوقائع التاريخية. وهذا بدوره يقودنا إلى نوع هذه العلاقة. وأرى كما قيل أن الروائي يدوّن ما لم يدوّنه المؤرخ، فأني سأصل إلى أن الكيفية؛ هي نقطة الاختلاف بينهما. لكن هذه الكيفية أيضاً تؤكد على مبدأ الاختلاف بين الروائيين أنفسهم. فالمبدأ الأساس يقول: أن لا سردية منفصلة عن متنها التاريخي. من هذه الحقيقة المتعلقة بوظائف العمل الروائي وكيفيته ذات الصلة بالمتعلق الفني والموضوعي.

وإذا ما ألقينا نظرة لواقع التاريخ العراقي عبر حراك الذاكرة السريع؛ فأننا سنكون أمام اشتباك معقد وذي صفة سلبية خالصة. لذا فأمر استرجاعه أمام فسحة حرية التعبير التي أتاحتها إلينا الحقبة ما بعد 2003 يُعد أمراً صعباً. لكن رصد تجربة الرواية الصادرة ما بعد هذا التاريخ يؤشر إلى أن مجموعة من الروايات صدرت وعالجت مثل هذا التاريخ. غير أنها أيضاً اختلفت بهذا الشأن. فالتاريخ أمام المنتج كان منقسماً إلى تاريخ بعيد وتاريخ قريب، وآخر هو نقطة حرجة في الآني الذي يصبح سريعاً ماضياً. فنحن لا نعيش سوى زمنين: مستقبل وماض. أما الحاضر فهو زمن زئبقي، فما تعيشه الآن سوف يكون ماضياً بعد لحظات. إذاً النظر إلى التاريخ هو نظرة انتقائية. وكما ذكرنا وضعت الرواية نفسها أمام نمطين من الاستعادة: الأول متعلق بالماضي البعيد نسبياً. والثاني: بما هو جار. وكان للاثنين خصائصهما. ولأننا معنيون بالأول فأننا نُشير إلى أن استعادة أحداث ذلك التاريخ بوقائعه، لم يسلم من تأثير مجريات الواقع ما بعد 2003 بالرغم من عدم وضوح ذلك بشكل مباشر، إلا من خلال ما يضمره مجرى النص من خيبة وبؤس الماضي. وهي حسنة تُحسب للنص المكتوب.
ما نريد أن نخلص إليه من هذا المهاد؛ إن تاريخنا ذو نمط سلبي وللآن. وهذا ما يربك كاتب الرواية. ونذكر بالتوجهات التي اعتمدتها السردية إبان الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وهي تواجه نظاماً قامعاً، وحروباً متواصلة، كان عليها أن تلجأ إلى الأسطورة والتاريخ القديم بكل مفاصله وأزمنته، وهو أمر أضاف لها غطاءاً نوعياً من جهة، وبلاغة في التعبير من جهة أخرى. وفي هذا الصدد، أي اشتباك الأمر أمام كاتب الرواية؛ نرى أنه استطاع التخلص من التأثير المباشر، والتمسك بالروية والهدوء الذي مكّنه من إنتاج عمل يليق بتاريخ الرواية العراقية. ونقصد منه إضافة النوع. إذاً نحن أمام تجارب مهمة ورائدة حاولنا ونحاول مستقبلاً رصد مجرياتها على صعيد القراءة والنقد.

الذباب والزمرد

الروائي "عبد الكريم العبيدي" كما أرى لديه مشروع روائي، يُشكّل من خلاله سلسلة روائية معنية بالتاريخ البعيد. وقد افتتحه في روايته "ضياع في حفر الباطن" علماً بأني رأيت أحداثها من خلال شاشة التلفزيون فقط، لكن تجوز لي تلك المشاهدة وضعها ضمن هذا الاتجاه. وروايته الثانية "الذباب والزمرد" تؤكد هذا. فهي رواية تلاحق فترة تسعينيات القرن الماضي، وما واكب هذه الفترة من إشكالات كثيرة ابتدأتها أحداث 1991وما تلاها. فالكاتب لم يكن معنياً بالحدث المركزي، بقدر ما عني بنتائجه القاهرة. لذا فالملاحقة التي اختار إليها صفة المدينة "البصرة" وما وقع عليها من حيّف جراء ابتداء أحداث التمرد منها.
وما اختياره لعنوان كهذا، ذي المحمولين النقيضين، إلا نوع من تأكيد حالين. الأولى عبر توصيف من وقع عليهم التوصيف "الذباب" وهو راجع إلى المراجعة الذاتية التي كررها السارد المشارك في الأحداث، مدفوعاً بالإحباط الدائم لأفعاله وأفعال أٌقرانه. فهي مراجعة سلبية تؤشر تراجعاً في الموقف، حاول السارد ملاحقته ضمن أحداث تراجيدية مستمرة، لا تنفك أحداث الرواية من تجسّيدها على طول المسار الروائي. إذ لم نر فسحة من ضوء يمكن التأمل من خلالها بمجريات ما يحدث، فقد كان التراكم الكمي قد أدى إلى تراكم نوعي، الذي هو أيضاً خُتم بفعل الانتحار وعطل السارد. وهي حكمة تضمنتها الرواية في كونها لم تكن محايدة في تنضيد أحداثها، بل مشاركة كما هو السارد الذي يتحوّل من سارد مشارك إلى سارد كلّي العلم أحياناً. فالذباب نقيض الزمرد. لكن البلاغة هنا محصورة في النظرة الذاتية والموضوعية التي تمت من خلال رؤية السارد الذي هو الكاتب في التوصيف. وكما قلنا إن التوصيف الأول في العنوان معنيّ فيه السارد ومجموع من شاركوه تراجيديته، والثاني معنيّ بالسلطة التي تتخذ من الزمرد قناعاً للنظر إلى أولئك المقتولين والمنهكين والمنصّبة عليهم جمرات الغضب. فهو ــ أي الزمرد ــ توصيف تهكمي، أي وصفه بالخطل لأنه لا يكشف إلى المتسلط سوى السلبي من الأحداث ، مبتعداً عن مراجعة الذات، على العكس تماماً ما عند الطرف الثاني بشهادة السارد. لذا نجده عنواناً بليغاً ارتبط بمحتوى الرواية. كما نجده مكرراً في متنها لغرض توصيف الحالات، سواء الذاتية التي تخص السارد وجمعه، أو عين السلطة وقسوتهم الجارية.

الميزات والخصائص

لعل الرواية كأي عمل يمتلك خصوصية، سواء في المبنى أم المعنى. لكن ما يُميّز الرواية هنا يشمل كلا المنحيين. ففي الأول "المبنى" نرى أن السارد قدم إلينا مجموعة حكايات يجمعها خيط واحد. حكايات يبرز فيها الانفعال وليس الحياد، بسبب مشاركته في الأحداث. كذلك كان على نفس الدرجة حين أصبح كلي العلم في بعض الفصول، خاصة في وصف حالة "أوسم" الذي عانى من جرّاء التعذيب، ولم يخرج من سطوة الحاكم سوى بنوع من درجات الجنون ثم الانتحار. كذلك في شعبية السرد ــ إن جاز لي توصيفه ــ فالسرد في الرواية يتجاوز اللغة المروية أو الحكاية من خلال اختيار لغة لم تكن بسيطة بالمعنى التركيبي اللغوي، وإنما بالتركيب الحسّي. أي بما يشعر به المتلقي من قربها من حيثياته ونمط إحساسه بالحادثة المروية، والكيفية التي تنعكس على ذاته، وما هو نوع الاستفزاز ومن ثم الأثر الذي تتركه عليه. هذه المهمة أو الوظيفة للسرد ليست سهلة إزاء أحداث مزدحمة ومتغيرات سريعة. لكن الكاتب بدا ذا انضباط في كبح الجماح بالرغم من الانفعال الدائم الذي تطلبته سرعة جريان الأحداث . كذلك من الحس الإنساني الكبير الذي يمتلكه السارد الذي اكتوى هو الآخر بالنار المسلطة على الآخرين.
إن المراجعة التي اتصف بها السارد والموصوفة بـ "الذباب" هي تجسيد حالة عدم القدرة على التغيير من جهة، ومراجعة المواقف التي ربما كانت أسبابها مرفوضة بدلالة توصيفها من قبل الكاتب ــ السارد ــ.
إن مشتبكاً كهذا والذي وقع فيه السارد وأقرانه، التصفيات الجسدية، حدّة أساليب التعذيب، هي التي وضعت الجميع ضمن حاضنة قاهرة تركت أثرها السلبي بعيداً عن شدّة الحماس الأيديولوجي، لأن الكاتب يلاحق نماذجه وهم في أشد حالات قهرهم. حاول قدر الإمكان التخلص من تأثير الفترة ما بين الحدث وزمن كتابته . فقد اشتبك معه في أشد تصاعده وهي خاصية تُشير إلى الموازنة في حقل كتابة الرواية.
إن فحص مصائر الشخصيات في الرواية، يدفعنا إلى فهم أطروحاتها، في كوّنها شكّلت كوناً موحداً يروي ما سُلب من الإنسان جرّاء إحساس السلطة بالخوف من ضياع وضعف زمامها الذي يؤكد سلطتها باتخاذ أساليب دامية وقاهرة تصل حد التصفيات الجسدية. وتاريخنا المليء بالأحداث من هذا النوع لا يعفي من تناولها بكيفية خاصة، تؤكد خاصية المروية التي تلبستها الرواية كقطعة بلاغية. تتحكم فيها مجموعة خصائص. ذكرنا بعضها ولعل اللغة الموظفة في السرد والوصف، وتنضيد الأحداث على شكل مرويات، ساهم في جعل الأساليب المستخدمة تقرّبها من الشعبية بما اختزنته من مألوفية. وهي وكما ذكرنا ليست حالة سهلة، بل هي من الصعوبة تتركز في الكيفية التي توازن فيها بين بساطة الأسلوب وعمق المعنى. ولعل من مُعينات مثل هذا الأسلوب اعتماد السرد والوصف على مقولات تندرج في باب الوعي الشعبي الذي يتمثل في الأمثال والتوصيفات ذات الفهم الشعبي. وهي من نتاج العقل الجمعي وبلاغة تشخيصاته. ولنا في ما دوّنه وجمعه "الشالجي" من أمثال بغدادية مثلاً تأكيد على ذلك. وما تختزنه الذاكرة الجمعية من شفاهيات استطاع السارد تمثلها من مثل:
ــ "الشاص شاص والحمل حمل"
وهي مقولة تؤكد على الاستسلام للقدر. فالشاص هو التالف المنكمش من حمل أعثاق النخل. والمثل يقارن بين حالين، ويدعو إلى الإبقاء على الثاني الذي فيه الخير للجميع ويقصد به من خلال ما يتبقى من حمل الأعثاق، وهي بلاغة في القول أيضاً تُهدئ الآخرين وتطمئنهم.
ــ "ما بيع طوكَي والبشير يلوح"
وهو قول دال على الصمود، والمركّز على صمود المرأة في المحن، ودورها التاريخي في أحداث التاريخ الكبرى. فالطوكـَ ما يُكلل رأس المرأة، والبشير هو المنادي بالخلاص، فهو قريب بدلالة مفردة "يلوح" أي يظهر للعيان.
ــ "اخذ النحس وياك والخير جاي وراك"
وهو توجه في رفض النظام الموصوف بالنحس، والتأكيد على التفاؤل في مجريات المستقبل بدلالة مفردة "جاي" هذه العيّنات من الأمثال تؤكد على نظرة الشخصيات المتوارية في الرواية، التي تشكّل ضميراً مستتراً تقديره كل الحراكات سلبها وإيجابيتها.
ولعل التأكيد على تراجيدية الأحداث، وما لحق بالنماذج من حيّف تمثل في القسوة المبالغ فيها من قبل دوائر الدولة، والتصفيات الجسدية والآثار التي تركتها الأحداث، يتطلب ذكر بعضها، لأنها تُفيد في الكشف عن المعنى بتراكم الكم الذي عليه الأحداث من هذا النوع. إن شخصيات الرواية متشابكة مع بعضها، وذاكرة السارد من ينظمها إلينا. لكنه أيضاً، وبحكم سلطة المؤلف استدعته إلى خلق مرويات عديدة منظور إليها بعين فاحصة، والعمل على التوفر على خيط واحد يربطها. وهي أحداث تحاول تأكيد حالات سلبية، يكون ذكرها إدانة لنظام جائر. في خصوصياتها؛ هي أحداث تروي مصائر يجد السارد أنها نوع من خيبة الأمل، وذلك من خلال وصف شخصيته بالذبابة والجميع بالذباب، استنادا ً إلى مقولة "سارتر" في مسرحية "الذباب" ولنر بعضاً من هذه المجسات التي تقودنا إلى تجميع المعنى الذي بنته الشخصيات الكثيرة والمفارقة في المواقف، ففيها الإيجابية والأخرى السلبية :
"كان أوسم على النقيض من شقيقه الشماس شديد الحساسية، يحلم بالضياع في أوربا والتسكع في ثلوجها".
وهو شخصية حالمة بعالم فيه الهدوء والوفرة , وهو حق طبيعي. لكنه ينزع في تشوفاته إلى الأبعد. ولم يسلم من بطش السلطة, وغياب حلمه في الهجرة والاكتفاء بالانتحار، بعد أن أطلق سراحه بنموذج معلول فاقد للعقل. إنه نموذج فريد وذو خصائص طبيعية، ولفرط حساسيته كما ذكر السارد لاقى مثل هذا المصير. "وبعدها أترك لسخطي أن يجر خطاي في شوارع المدينة وأزقتها وأسواقها بحثاً عن شركة أو مصنع أو بسطة. بحاجة إلى مثلي حصراً"وهذا يؤكد طبيعة السارد وخلافه مع النظام ونزوعه إلى توصيف نفسه بالذبابة. وهذه المرة يُلصق توصيفاً أكثر دونية من سابقه.