ادب وفن

ماركيز السحر الادبي للقارة اللاتينية / علي ابو عراق

هل تذكر الروائي الكولومبي ماركيز وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة في العاصمة مكسيكو؟. كلماته التي تحث على السعادة أو الابتسام أو العناق والتي تقول:"ربما تكون في هذا اليوم المرة الأخيرة التي ترى فيها أولئك الذين تحبهم، فلا تنتظر أكثر، تصرّف اليوم لأن الغد قد لا يأتي، ولا بد أن تندم على اليوم الذي لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة، أو عناق، أو قبلة، أو أنك كنت مشغولاً كي ترسل لهم أمنية أخيرة"!.
انا لا اشك في ذلك فقد عودنا هذا الكاتب الكبير في كتاباته وسيرته الشخصية على الألق الإنساني البهي والجميل والمفاجئ والموغل في الأخلاقية والأمل والوقوف مع البسطاء ومقارعة الطغيان، لهذا المبدع الساحر المذهل والرائي الكبير شيء أبعد من رائحة الجوافة وأمواج الكاريبي والعطر النفاذ للغابات الاستوائية هو المخلص الجديد عبر الجمال والأمل والبزوغ الإنساني، هو ثريا أدب أمريكا اللاتينية وشمس السرد الساحر الجديد وأهم العتبات الروائية في القرنين الماضي والحاضر كما رأى روائيون وقصاصون ونقاد بصريون ومن محافظات أخرى.

ماركيز قارة لوحده

قال الروائي والقاص الكبير محمد خضير :" كان ماركيز قارة لوحده. ورث ماركيز غرائب منطقة البحر الكاريبي، ودافع عنها بأسلوبه الموروث عن الواقعية، فصارت الواقعية السحرية إرثه الوحيد. لذا لن ننسب هذا الاختراع لغير غابرييل غارسيا ماركيز. كل اختراعات السحر الأدبي للقارة اللاتينية منسوب لماركيز، بالرغم من وجود سحرة سابقين له ومعاصرين جابوا مجاهل البحار والغابات وجلبوا الكنوز إلى متحف القارة الكبير".
وأضاف:" في بلادنا العربية اكتشفنا ماركيز مثل لقية متحفية من عهد الطوفان. كتب ماركيز عن سفينة أشباح تمخر البحر بأضوائها، وكان سكان الجزر البعيدة يرقبون مرورها بصمت ورهبة. وكتب قصة عن غريق على اليابسة. وأخرى عن عميان فقأ كروان عيونهم. وفي كل مرة نقرأ قصة نعثر على اختراع جديد. كان من طراز أرخميدس ونيوتن، لكنه إلى جوار هذين العالمين الفيزيائيين، يُعدّ من صنف الكيميائيين الذين كانوا يحولون الكلمات إلى قوانين لا يستوعبها العقل الفيزيائي. ويخيّل لمن يقرأ حكاياته أنها ولدت قبل ولادة العلم الطبيعي. كان عالماً في تحويل المعادن إلى جواهر مثل باسيليوس". وأوضح خضير:" كان ماركيز مولعا بالوصايا، شأن العلماء والحكماء. أوصى في خطابه أمام لجنة جائزة نوبل بأن يوضع خطابه في زجاجة ثم ترمى في البحر، عسى الأجيال القادمة التي ستنجو من الكارثة النووية أن تعثر عليه وتقرأه. وفي ذلك الخطاب الناري طلب ماركيز أن يُسمح لكائنات عاشت مئات الأعوام في العزلة بأن تختار شكل موتها. ولعله قصد شكل حياتها".
وتابع الروائي والقاص الكبير:" ثم أعاد ماركيز الوصية عندما شعر بدنو الموت، وانتهاء مواسم الجوائز. أراد هو بنفسه أن يمنح الجنس البشري جائزة المعرفة الكبرى، وسر الخيال الأدبي الأكبر. ولعلنا ندهش أن يهبه الله "شيئاً من الحياة" كما يهبها إلى "دمية" لم تقل كل ما كانت تفكر به في حياتها السابقة".
وخلص:"للأسف فإن قلة من الجنس البشري، والأدباء خصوصاً منهم، والعرب بالأخص، ستعثر على الزجاجة التي تحتوي وصايا ماركيز. سيكون الوقت قد فات، وسفينة الأشباح قد مرت قرب شواطئنا من دون أن نلحظ أضواءها ، ولم يتسن لنا اختيار شكل موتنا أو حياتنا. حينذاك سنشعر بعمق أننا ضيعنا رسالة ماركيز وأهدرنا وصاياه".

الساحر الأجمل

وقال الروائي والقاص لؤي حمزة:" إن المهارة الأجمل للساحر الكاريبي غابرييل غارسيا ماركيز تكمن في ما منحه للبشرية من فرصة لأن تحيا أحلامها، تحوّلها إلى واقع يخترق الواقع، يصفّيه ويرتقي به، وأن تثق بالخيال، الرجل الذي حلّق بالواقعية استطاع الإمساك بالطائر المستحيل، يا لها من لعبة باهرة، طائر الوهم الذي يبدو أبعد من إمكانات الإنسان على ملاحقته والإيقاع به، حتى إذا تحققت المعجزة، وهي ليست مستحيلة على الدوام، اكتشف الإنسان اللعبة وعاش في تفاصيلها، فالطائر المحلّق البعيد ليس سوى طائر دواخلنا: وليد عواطفنا وذكرياتنا ومخاوفنا وأمانينا".
وأضاف:" من هنا سيبدو أي حديث عن ماركيز، بالضرورة، حديثاً عن أنفسنا، ذلك ما تعلمّنا إياه الكتابة الجميلة، وما يثيره في نفوسنا سحرها العظيم. أخجلني مثل هذا الأمر: كلما تحدثت عن ماركيز وجدتني أنزلق للحديث عن نفسي، لكنه خجل لم يعمّر طويلاً، فقد شفاني منه ما عرفته من حديث الناس جميعاً عند حديثهم عن ماركيز، إنهم يفتحون باب السحر للانطلاق دونما خجل بالحديث عن أنفسهم".
وأوضح:" تمنحنا الحكاية إشارة لانفجار الكلام، للقفز والتحليق واللعب الحر مع الذاكرة، كما لعب ماركيز، في سحر المشاركة البليغة بين الكاتب وعشاقه. قراءتي الأولى لغابرييل غارسيا ماركيز هي المرّة الأجمل بين قراءاتي والأكثر حزناً على الإطلاق، كنت حينها فتى أخذته قدماه إلى الحرب قبل أن يتذوق قبلة حب عنيفة واحدة، كان الحب بصورته الأروع ينتظرني في مئة عام من العزلة معجوناً بكل "خراءات" العالم، "الخراء" خاصتي وقد كنت أركس فيه ليل نهار، الرواية التي اشتراها الجندي من شارع المتنبي وقد كلفته ربع راتبه منحته بالمقابل حياته. مع كل صفحة جديدة مدويّة كنت أعلن مع نفسي سعادة أن أحيا مع ماركيز زمناً واحداً، وأتنفس هواء مشتركاً، وأعيش علاقات حب عاصفة، أعض فيها على أعضاء أنثوية فاتنة وأنام في قاع نهر. اليوم وقد مات ماركيز يكتب الجندي عن نفسه، عن حزنه، عن معنى أن يتنفس الهواء وحيداً".

ماركيز في ذاكرتنا

وقال الناقد جميل الشبيبي :" تعرفت على ماركيز في بداية سبعينيات القرن العشرين، من خلال روايته الأسطورة "مائة عام من العزلة" التي عصفت بتصورات جيل من المثقفين والروائيين والشعراء في العراق والدول العربية الذين اطلعوا عليها كما انها اقتلعت الكثير من قناعاتنا عن الرواية والرواية الواقعية بشكل خاص ،وبالنسبة لي كناقد ،فان هذه الرواية، أثارت تساؤلات متنوعة عن جنس الرواية وامكانياتها الهائلة في التجديد والتجريب ".
وأوضح "لقد خلق ماركيز من قرية صغيرة اطلق عليها ماكونداو على يد خوسيه بوينديا ، عالما تضج فيه حيوات وشخصيات تتناسل وتحمل اسماء متشابهة ،يؤطرها زمن دائري ، وفي هذه القرية/ العالم تنمو وتتنفس شخصيات بقيت خالدة في ذاكرة المتلقين أمثال بوينديا واورليانو والجدة اورسولا التي عاشت حياة طويلة وحفظت تراث القرية وموروثها الحكائي وكانت ذاكرة يقظة حين زحف الزمن على شخوص الرواية وأمكنتها وازالها عن الوجود الفعلي . هناك الغجري ميلكيادس صاحب الألعاب السحرية والنبوءات".
وأضاف:"انه عالم ساحر في أحداثه وشخصياته، تمتزج فيها الأحداث الخارقة بتفاصيل الحياة اليومية، الأمر الذي كرس لظهور مصطلح الواقعية السحرية التي تجد في أعمال ماركيز نماذج تطبيقية واضحة ".
وذكر الشبيبي:"في قراءتنا لرواياته الأخرى وخصوصا روايته "خريف البطريرك" تعرفنا على عالم جنرال مستبد في خريفه الأخير، وهي في أحداثها وشخوصها قدمت إدانة واضحة لنمط حكامنا في تلك الفترة وفضحت أساليبهم الدموية، فكانت تعبيرا عن هموم الناس ورواية بديلة لروائيينا الذين لم يستطيعوا كتابة عمل مشابه، لقد كانت أحداث الرواية شبيهة بحياة حكامنا المتجبرين خصوصا في تمجيد الأم واعتبارها قديسة.
لقد كان ماركيز قامة روائية عالمية عملاقة، أبدعت عالما روائيا عجائبيا فتح مسالك وافاق عالم روائي عجائبي لتطور الرواية العالمية والعربية".

ماركيز من أهم القمم الشامخة

وقال القاص قصي الخفاجي
:" أن لرحيل ماركيز تأثيراً كبيراً على الرواية العالمية ولعل الرواية العربية والرواية في العالم الثالث او الدول النامية هي الأكثر تأثرا بهذا الفقدان الكبير للتشابه في الظروف والفضاءات والموروث والأساطير الذي انطلق من أجمل مثاباته هذا الروائي الساحر ".كان ماركيز عتبة ثورية في السرد العالمي ويكفيه انه صاحب مدرسة مميزة واحد الأركان الأكثر أهمية في الواقعية السحرية التي تأثر بها الكثير من الروائيين العرب والعراقيين فرواية الحرافيش لنجيب محفوظ ورواية الراووق للروائي العراقي عبد الخالق الركابي تحملان في طياتهما تأثيرات ماركيز الواضحة جدا عليهما حيث استخدما الدورية الزمنية وبعض تقنيات ماركيز في الكتابة السردية".
وأضاف ان ماركيز:"من أهم القمم الشامخة في الرواية عبر القرنين الأخيرين فضلا عن نزوعاته الإنسانية والأخلاقية لمناصرة المظلومين وتحقيق العدالة والمساواة والدفاع من اجل الحرية وإدانة القمع والاستبداد بطريق بلغت ذروتها في روايته المذهلة خريف البطريرك وروايات أخرى".

أنتحب باكيا كطفل

وقال الكاتب والناقد السينمائي علي حمود الحسن: مات ماركيز بشكل معلن، تماما كما فعل في قصته، التي لا تبارى "موت معلن"، فهو موت اشهاري متوقع، بفضل معجزة الميديا السحرية، نتابعه يوما بيوم، وهذا طبيعي بفعل قانون الحياة،لكني أتساءل:أي الحداد يليق بواحد من أكثر صناع الأمل في حياتنا الواقفة على كف عفريت نووي، من خلال خلقه لعوالم رحبة عجيبة قد تبدو سحرية سماها النقاد الواقعية السحرية- وقال عنها كاربنتر واسترياس صنواه في ذات المنهج " ان ما نكتبه يبدو ضئيلا إزاء ما تعيشه بلدان الكاريبي" اذكر حينما أنهيت قراءة "مئة عام من العزلة"، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، قلت ان ماكيز قد ارتقى بالفن الروائي الى مداه الذي لا ينتهي. وأنا شخصيا سأبين بإعادة ما كتبته عن افلمة روايته المتفردة "الحب في زمن الكوليرا" فمن المعروف ان ماركيز كتب اكثر من أربعين سيناريو للسينما، لكنه بالمقابل كان يرفض بقوة تحويل أي من رواياته الى افلام، لأنه كان يعرف جيدا ان ثمة خيانة للنص الروائي فيما لو تحول إلى فيلم، يقول روشا المخرج الشهير مخاطبا ماركيز "بما انه مـن المستحيل نـقل آثارك إلى السينما سأكتفي بسرقة المشاهد وضمها إلى أفلامي كلما سنحت لي الفرصة " فيما يقول صاحب ليس للكولنيل من يراسله "عندما تموت إحدى شخصيات رواياتي، انتحب باكيا كطفل.

النتاج الإبداعي لا يقف عند جغرافية محددة

فيما قال الناقد زهير الجبوري
:"لم يكن خبر رحيل الروائي العالمي ماركيز في الأوساط الثقافية إلا صدمة متوقعة. فمن خلال متابعتنا لأخباره انه عاش مع المرض فترة ليست بالقصيرة.. وقد قدم من خلال ما أنتجه خلال عقود أجيالا ثقافية تأثرت به، حيث الواقعية السحرية وفن الرواية الحديث آنذاك.. خلق شكلا من أشكال الخلق الثقافي الذي خاطب العقل الإنساني بكافة المستويات".
وأضاف:"وما كان لنا نحن أصحاب العقل الشرقي إلا أن نندهش لهذا الإبداع الكبير منه وان نقف مع ابتكاراته الكبيرة في بناء ثقافة شاملة من خلال الفن الروائي.. ماركيز وان كان يعيش في قارة بعيدة عن ثقافتنا غير انه برهن ان النتاج الإبداعي/ الأدبي.. لا يقف عند حدود جغرافية معينة فـ "مئة عام من العزلة" وغيرها من الروايات التي قرأناها، لاتزال تشكل نقطة مضيئة في ثقافتنا".
وأوضح:" فحضوره كمنتج تعدى حدود النص الإبداعي، الأمر الذي أعطى خطابا عاما لمفهوم الذائقة الثقافية.. ولأن المكتبات العربية والعالمية لا تخلو من نتاجه الروائي، فهو مؤثر الى حد كبير في الأدب العربي والعالمي .. حتى تأثرت به الفنون الأخرى، حيث خبر اشتغال الفنانة "شاكيرا" لأعماله هو فتح آخر وقراءة أخرى لعالمه الروائي.. ومع انتصاره الكبير في كتابة الرواية فهو أيضا يتمتع بكتابة ما يسمى بالكتابة الحديثة في علوم الانثربولوجيا وثقافة الجسد وما الى ذلك".
وتابع:" يبقى ماركيز علامة مضيئة في ميدان الثقافة العراقية والعربية والعالمية، لأنه استطاع ان يخلق جيلاً لا زالوا يتأثرون به.. ومع دخول الرواية في جوانب انفتاحية عميقة من الناحية الفنية واشتغالها على ما يسمى بالانساق التجريبية ومستويات الروي المعاصر ثم بعد ذلك تهديم الانساق الثابتة لها في ما يسمى بسرديات ما بعد الحداثة".
واستطرد الجبوري:" فان المشتغل لكل هذه الجوانب يدرك مدى أهمية الروائيين الكبار الذين جاؤا بسرديات انبثقت من صلب الواقع والشعور بحيثيات تفصيلية راكزة كما فعل الروائي العالمي ماركيز، وحين نناظر عمله الروائي بما قدم من أعمال روائية لعراقيين وعرب فلنا ان ان نذكر ما قدمته الرواية العراقية على يد الكبير محمد خضير واحمد خلف ومهدي عيسى الصقر، ثم المبدع لؤي حمزة عباس ، وجيل آخر من الشباب الآن، لهم بصماتهم الخاصة.. بكل تأكيد اطلعوا على تجارب عالمية عميقة كتجربة ماركيز ليعطوا بعدها لونهم الخاص".

حيث تلتقي الاسطورة و الواقع

الروائي الكولومبي العالمي الحاصل على جائزة نوبل للآدب غابرييل غارسيا ماركيز توفي في العاصمة المكسيكية عن عمر ناهز سبعة وثمانين عاما. وغارسيا ماركيز الذي اشتهر بين أصدقائه ومعجبيه باسم "جابو" يعد أشهر الروائيين في أمريكا اللاتينية حيث بيعت عشرات الملايين من النسخ من مؤلفاته وكافح لسنوات كي يصنع اسمه كروائي رغم أنه نشر قصصا ومقالات وعدة روايات قصيرة في الخمسينيات والستينيات أشهرها "عاصفة الأوراق" و"ليس لدى الكولونيل من يكاتبه". وحقق اسمه كروائي على نحو مثير في روايته "مئة عام من العزلة" والتي نال بها شهرة كبيرة بعد نشرها مباشرة في عام 1967 والتي حققت مبيعات وصلت إلى 30 مليون نسخة في أنحاء العالم، كما أعطت دفعة لأدب أمريكا اللاتينية، وفي الرواية يمزج ماركيز الأحداث المعجزة والخارقة بتفاصيل الحياة اليومية والحقائق السياسية في أمريكا اللاتينية.
وقال ماركيز إنه استلهم الرواية من ذكريات الطفولة عن القصص التي كانت ترويها جدته التي يغلب عليها التراث الشعبي والخرافات لكنها قدمت أكثر الوجوه استقامة.ويعد ماركيز أحد المدافعين الرئيسيين عن الواقعية السحرية وهو أسلوب أدبي قال إنه أسلوب يجمع بين الأسطورة والسحر وغيرها من الظواهر الخارقة للعادة.
وقالت الأكاديمية الملكية السويدية عند منحه جائزة نوبل في عام 1982 "يقودنا في رواياته وقصصه القصيرة إلى ذلك المكان الغريب الذي تلتقي فيه الأسطورة والواقع".وعلى الرغم من أن رواية "مئة عام من العزلة" هي أشهر أعماله إلا أنه كتب أعمالا أخرى نالت شهرة مثل "خريف البطريرك" و"الحب في زمن الكوليرا" و"وقائع موت معلن".