ادب وفن

ازاهير من الشعر العامي / علي ابو عراق

صدرت مجموعة شعرية تحت عنوان (ازاهير من الشعر العامي) للشاعر علوان العطية الذي جايل ونافس الشاعر عبود الكرخي والشاعر الحاج زاير دويج وغيرهما من شعراء العامية الافذاذ.
ولد الشاعر عام 1900 اي بداية القرن العشرين في مدينة البصرة التي أثبتت باستمرار أنها الفضاء الأوسع لكل حقول المعرفة شعرا وأدبا وعلوما وفنونا حتى في متواليات الخراب التي اكتسحتها بسبب الغزاة الطامعين، وكانت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وتحديدا بعد تراخي قبضة الدولة العثمانية وانتهاء قرون طويلة من سلطة وسطوة الأستانة وهبوب رياح الحداثة ودخول الجيوش البريطانية كجيوش استعمارية والتي جاءت هي الأخرى مدفوعة بطمع وشراهة الإمبراطورية العجوز ورغبتها في السيطرة على مقدرات العراق والمنطقة من نفط وغاز وخيرات اخرى.
ولكنها كتحصيل حاصل كانت أولى محطات الازدهار لهذه المدينة في العصر الحديث، إذ دخلت التكنولوجيا والأفكار الجديدة ووسائل العيش الحديثة مع دخول هذه القوات وما رافقها من صناعة وتجارة وتعليم وسياسة، إذ جاءت بمعاملها وعددها وعرباتها وطائراتها التي كانت ثورة في ذلك العصر وهي بالغة الجدة حينذاك هذا بالتوازي مع ما جلبته من ثقافتها الجديدة من مسارح ورياضه وفنون جديدة وملاه ليلية وأنماط حياتية مختلفة، اثرت تأثيرا عميقا في المجتمع البصري أولا والذي كان دائما بوابة التغيير لكل المدن العراقية ارتباطا بجغرافيته وموانئه وثرواته.
وعبر كل هذا تشكلت ملامح طبقة وسطى في البصرة تهتم بالصناعة والمقاولات والتصدير والاستيراد والتعرف على منجزات الثقافة الجديدة، فازدهرت التجارة ازدهارا كبيرا وخطت الصناعة خطواتها الأولى مع صناعة السفن والمحركات البخارية والتمور وبعض الصناعات التحويلية والغذائية، وتماهيا مع هذا ظهرت دينامية مجتمعية جديدة عبرت عن نفسها في تأسيس كيانات وأحزاب سياسية وتنظيمات نقابية سرية وحركة رياضية وثقافية.
كانت تتصدر قيادة هذه النشاطات بعض العوائل البصرية المعروفة التي تسكن المدينة وتتحكم بإيقاعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كبيت باش أعيان وبيت الخضيري وبيت النقيب وبيت المنديل وبيت الشمخاني والنجادة من الزبير وبيت الرديني وبيت العطية والكثير من العوائل المسيحية واليهودية في البصرة. فراحت تساهم مساهمة فعالة في ترسيخ أسس المجتمع البصري الجديد ورسم لوحة ملونة وزاهية للحياة المدينية والخروج من حياة البداوة والريف.
ومن هذه العوائل كما اسلفنا عائلة العطية التي ينحدر شاعرنا علوان العطية منها والذي كان ابن عمه المرحوم الحاج حسين العطية عميد الأسرة منذ العشرينيات، وهو عضو المجلس البلدي في البصرة سنة 1919 وعضو مجلس الأعيان الملكي سنة 1925 ورئيس حزب النهضة في البصرة 1922 ـ 1925. وعدا هذا لا شك ان الشاعر تأثر تأثرا واضحا بمن سبقوه من شعراء ومثقفين فضلا عن تأثره بأبناء جيله الذي بنيت على ايديهم مرحلة تأسيس الشعر العامي العراقي.
ومن المحتم الإشارة هنا الى بعض العتبات الهامة والعلامات الفارقة من هؤلاء المؤسسين، فليس من قبيل الصدفة أن نعرج على من وصفوه بمتنبي الشعر العامي الحاج زاير دويج (1860 - 1919)، وبمن لقبوه أمير الشعراء عبود الكرخي (1861- 1946) كما نمر مرورا متفحصا بحسين قسام النجفي (1898 - 1960) وكاظم المنظور (1891 - 1974) وعبود غفله وعبد الأمير الفتلاوي وغيرهم من الذين كان لهم التأثير الواضح في شعر علوان العطية سواء في مواضيعه واشتغالاته وأغراضه او شكله و أسلوبه وعرضه.
ومن نافلة القول أن نؤكد أن هؤلاء العمالقة في الشعر العامي العراقي كانوا نقطة البدء المعروفة، فعلى يد الحاج زاير الدويج الذي اعتبره المستشرق الفرنسي جاك بيرك شكسبير العراق وقال الدكتور حسين علي محفوظ بان أبي الطيب المتنبي "لو كان قد استمع لروائع وإبداعات الحاج زاير لانتفض من قبره يؤدي التحية والإعجاب والتقدير لهذا الإلهام الشعري الكبير". كذلك الملا عبود الكرخي الذي قال عنه الأستاذ جميل الجبوري "جدير بأن يعد نابغة العراق في الشعر العامي على الإطلاق". ويسميه شاعر الأمة، ويقول "كان هؤلاء العتبة الأولى في الشعر العامي العراقي والذين عبروا اصدق تعبير عن آلام الناس وطموحاتهم وأحلامهم والذين رسخوا الواحد تلو الأخر أساس وعمارة هذا النوع من الشعر بشكل جعل له كيانا واضحا ومؤثرا وجمهورا ومريدين سوآءا في الوسط الشعبي ام الوسط الثقافي، فكانت هناك العديد من الصحف التي تعنى بهذا الشعر القريب جدا من روح الشعب، باعتباره المجسد الأقرب إلى أحلامه وطموحاته واهتماماته.
ولم يحد شاعرنا العطية عن هذه التقاليد الإنسانية والجمالية النبيلة في الشعر العامي فقد نافس الشاعر المعجزة الحاج زاير دويج في سخريته ورصده العميق لحركة مجتمعه والتقاطاته الذكية المعبرة عن الوقائع التاريخية واليومية. ومثلما أجاد الغور في العميق والغامض من الأمور أجاد أيضا تناول اليومي والمتاح والسهل بنظرة فنان بالغ الدراية والحنكة والحساسية الشعرية. كما جارى الشاعر عبود الكرخي في حسه النقدي الممزوج بروح طليقة مرحة، فكانت سخريته المرة من بعض الظواهر الاجتماعية كالقمار والتهتك الأخلاقي والتمايز الطبقي وغيرها من أهم سمات هذا الشاعر، الذي لم يحظ بالأهمية التي تتناسب مع قدراته الشعرية والثقافية. ولعل قصائد مثل المجرشة والمكبس او "الجرداغ" واليانصيب أصدق تعبير عن ذلك. كما تبارى مع حسين قسام النجفي في عدة قصائد لعل أبرزها قصيدة المستحيلات.
ولم يكتف شاعرنا بالتنافس ومجاراة الشعراء العاميين من مجايليه بل نافس وجارى شعراء الفصحى كالزهاوي والرصافي وغيرهما.. وقصيدة "المحاورة بين السفور والحجاب" وقصائده القومية والوطنية عن فلسطين والاحتلالين التركي والبريطاني عبرت بدقة عن تنامي وعيه القومي والوطني أوضح تعبير.
وهنا أود الإشارة الى ملمح مهم واستثنائي من شخصية وشعر العطية، وهو اطلاعه الواسع ودرايته الفذة وإلمامه العميق بالشعر العربي الفصيح، على الرغم من كونه درس في الكتاتيب وليس في المدارس النظامية والتي كانت قليلة جدا في ذلك الوقت. والقارئ لشعره سيصدم ايجابيا طبعا بقاموس العطية الثر الواسع الذي ينتقل بك بكل دراية وقدرة بين المفردات ذات الجذور والاستعمالات الشعبية القديمة والعميقة جدا، وبين مفردات قشيبة وباذخة ومعبرة من الفصحى الحديثة والقديمة. كما سنصدم ايجابيا وللمرة الثانية بمعرفته بالتاريخ وتجارب وحضارات الشعوب ومدن العالم والذي لا ينفك من استخدامه لهذه المعرفة الواسعة من التاريخ والجغرافية والحكمة في قصائده، كان مبدعا جدا في كتابة الابوذية ونظم في مختلف أغراضها.
في أشعاره الغزلية يطوف بنا بين خمائله وبساتينه المختلفة فيغرقنا بجمال آخاذ وسحر لا يقاوم في اختياراته وتنقلاته ولغته الثرة الموحية وثقافته وسعة اطلاعه. فبين الخمريات والدنان والهوى وتفجر الاشواق:
خلص دن الصبر مابيه تم راح
منك يالجفيت و غنج تمراح
عاين شوف الي يهواك تمراح
هايم ساكن افجوج الخليه.
- - -
وبين التعبير عن لهفته واشتعال عواطفه لمن يحب ويهوى:
أنت وبس أريدك وانته رومي
السهمك هدف موجب وانته رامي
أظن مو يعربي أصلك انته رومي
ظهر بأفعالك وياي الرديه.
تمر وعيوني بين الغيد ترباك
نظراتك تحل العقل ترباك
دونك كل جمال اوقفت ترباك
الحسان صفوف تاخذلك تحية.
وبين وصف فائق القدرة والسحر يرشح من العنق البلوري والارداف المكتنزة البضة والمفاتن الاخرى التي يشي بها بستان من الخوخ والسدر لمن يحب، ممزوجا بسعير نار الغرام والحب والوجد والشكوى والخوف ايضا:
غزال اكبل علي من وره تلعه ضامر والعنق بلور تلعه
ابسعير النار ذبني وروحي تلعه
صحت وبلا شعور التفت ليه.
ناعس لحظ والردفين ماين
شفته وطارعقلي وذهب ماين
مسكته من النهود وكلت ماين
غضب واحمرت خدوده الزهيه.
روضه عامر بخوخه وسدره
غركت ابموي نهدينه وسدره
يهيم العكل منه وله وسدره
يرد مذعور من خوفه عليه.
وفي الزهيري والموال يتجاوز في سياحته الشعرية التاثيثات الجمالية بعد احكامه سيطرته عليها، ليقفز نحو معرفته ببلدان كانت ابعد من السحر في اذهان مجايليه، فضلا عن التوغل بعيدا في الوجدان والعلاقات الاجتماعية:
اخدودك حدايق ورد طولك سمهري لوزان
لحسنك ابد ماحوت باريس لو لوزان
ياهو البذانك علي بالشين الك لوزان
ماشي مرح واتغنج ليلو داجي الشعر
كلما تمر ياترف كلبي بلهفة شعر
لا نثر يوفيك وما يكفيك نظم الشعر
لباسك يزين الجسم لو هو للبسك زان.
- - -
ويطوف بنا بين خمائله وازاهيره الشعرية:
خدك من ذهب معجون والجين
سهامك في سويد الگلب ولجين
بوجودك ما نعد المشن والجن
وحدك ما أبي غيرك اليه.
الك بعضاي يمدلل ولمدام
خزن جرح دلالي ولمدام
لون الثوب وأخدودي ولمدام
علم أحمرخطر بيه المنيه.
كساد ولاتحرّك يوم ساقي
يبس ماينطلج للركض ساقي
چنت اسقه بمهابة وصرت ساقي
وأغني للذي يغنون ليه.
كتله الاسم كال الاسم أنوار
مسدس من لحاظه علي انوار
يشع خده ابظلام الليل انوار
هتك ستر الدجى وصارت ضويه.
ـــــــــــــــــــــــ
* صدر الكتاب في اكثر من 300 صفحة من القطع المتوسط عن دار تموز.