ادب وفن

ابراهيم الحيدري في الحديث عن الشخصية العراقية :العراق أمة تبحث عن دولة ودولة تبحث عن هوية / عبد جعفر

في أمسية اثارت الجدل والنقاش، إستضافت مؤسسة الحوار الإنساني في لندن، مساء يوم 23 /4/2014عالم الإجتماع الدكتور إبراهيم الحيدري للحديث عن (الشخصية العراقية والبحث عن الذات) بمناسبة صدور الجزء الأول من دراسته عن الشخصية العراقية. وقال الكاتب عدنان حسين أحمد في تقديمه المحاضر أن إبراهيم الحيدري أحد علماء الاجتماع العراقيين في المهجر الذين قدموا صورة طيبة عن الكفاءات العراقية في الغرب، والذين حافظوا على صلاتهم العلمية والبحثية ببلدهم والمنطقة. وقد أتضح ذلك من خلال الأعمال العديدة التي عملها وتلك التي لا زالت قيد الانجاز . ومن بحوثه طقوس العزاء الحسيني في عاشوراء في الكاظمية وكربلاء عام 1968. ومدينة النبطية في جنوب لبنان عام 1974، وبقايا النظام الأمومي عند الطوارق 1986. وشارك في مؤتمرات وملتقيات علمية عديدة، عربية وأجنبية ، كما ألف وترجم تسعة كتب وعشرات البحوث النظرية والميدانية وباللغات العربية والألمانية والإنكليزية.
وله كتب تحت الطبع والإعداد هي : علي الوردي شخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية، دار الجمل- كولون والنظرية النقدية- مدرسة فرانكفورت نموذجا. والثابت والمتغير في الشخصية العراقية، وفي سوسيولوجيا العنف والإرهاب.
في محاضرته، أكد الحيدري أن موضوع الشخصية هو من أعقد المواضيع وأصعبها في علم الاجتماع ولذلك يحتاج الى مؤسسة وعدد من علماء الاجتماع وعلم النفس والانثروبولوجيا الاجتماعية لدراستها وسبر أغوارها ومعرفة أسرارها وإكمال ما بدأه إستاذنا الدكتور علي الوردي الذي لم يكمل مشروعه الرائد لأسباب سياسية قاهرة.
مضيفا أحاول في هذا الكتاب دراسة الشخصية وتحليلها تحليلا سوسيو- ثقافيا وسيكولوجيا وتفكيك مكوناتها وعناصرها الأولية وتشخيص خصائصها وسماتها الثابتة والمتغيرة وفق ما أستجد من تغيرات وتحولات بنيوية خلال العقود الأخيرة وكذلك معرفة أسباب الخراب والتشوه والإنكسار الذي أصاب الشخصية العراقية بعد تعرضها الى انتهاكات فظيعة وذلك بسبب عوامل عديدة أهمها: التخلف الاجتماعي والركود الاقتصادي وتركة النظام الشمولي السابق والغزو والاحتلال وما خلفه من فوضى وتدهور أمني وأداري وسياسي.
كل هذه العوامل عرضت الشخصية العراقية الى هزات عميقة وتغيرات بنيوية نوعية في خصائص وسمات الشخصية العراقية وغيرت كثيرا من ثوابتها الأصيلة.
وأضاف أن الشخصية العراقية في الأصل هي شخصية حيّة بناءة وانفعالية قلقة ومسالمة بطبيعتها، ولها قابلية على الصبر والتحمل وقدرة عالية على التكيف مع الظروف المتغيرة والتمسك بالحياة. والدليل على ذلك هو تجاوز العراقيين حربا أهلية طاحنة وصمودهم أمام نيات تدمير الوطن وتجزئته الى دويلات طوائف.
مشيرا الى أنه حاول دراسة التكوينات الاجتماعية المتنوعة والهويات المتعددة والثقافات الفرعية المختلفة والأجيال والنخب المتعاقبة والعوامل التي أثرت وتؤثر في إنقسام الهوية الى هويات فرعية متصارعة في محاولة لمعرفة الذات ونقدها واستشراف شخصية عراقية متكاملة وهوية وطنية واحدة.
مؤكدا أن دراسته تناولت أيضا التغيرات والتحولات البنيوية التي حدثت في العراق خلال العقود الأخيرة وتاثيرها على إنقسام الشخصية العراقية الى واحدة متسلطة قامعة (سادية) تقدم قيم الموت والكراهية على قيم الحب والتعاون، وأخرى عاجزة خائفة وعاجزة ونكوصية سلبية (ماسوشية) لاأبالية وتقول: أنا شعلية!
وقال : أما الجزء الثالث من دراستي فيبحث في الشخصية العراقية بعد سقوط النظام السابق والغزو والاحتلال، وما صاحب ذلك من ردة حضارية من أهم مظاهرها تشوه الشخصية العراقية وخرابها الذي يظهر في انحلال القيم والمعايير الاجتماعية والدينية والأخلاقية وانتشار ثقافة العنف والإرهاب والاحتراب الداخلي وبروز المحاصصة الطائفية والتكالب على المصالح والمنافع المادية واستشراء الفساد والرشوة والمحسوبية والمنسوبية، الى جانب تردي القيم والمعايير الحضرية والاخلاقية وانحطاط الذائقة الجمالية. وما سوق مريدي المشهور سوى شاهد على الخراب.
وشدد الحيدري أنه إذا أراد الباحث معرفة حاضره واستشراف مستقبله لابد له من فهم ماضيه وتتبع مسيرته وتأشير المحطات التي توقف فيها الزمن أو التي تحرك فيها وما حدث فيها من قطيعات حضارية وتحولات بنيوية وتغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية مؤكدا على أهمية الفكر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وأنماط الإنتاج المتعايشة التي كان لها تأثير عميق على المجتمع وتشكيل شخصية الفرد العراقي.
وأضاف أن في دراستي قمت بتقسيم تاريخ العراق الحديث منذ تأسيس الدولة العراقية الى ثلاث مراحل (كل مرحلة 30 سنة تقريبا) تمثل كل مرحلة منها جيلا. والاجيال الثلاثة تكون تاريخ الدولة العراقية الحديثة.
الجيل الاول هو جيل التأسيس 1915-1945 الذي يمتد من بداية القرن الماضي حتى الحرب العالمية الثانية. وقد سبقه جيل ما قبل التأسيس (جيل العمامة والطربوش) الذي وضع اللبنات الأولى لمشروع النهضة في العراق.
والجيل الثاني هو جيل البناء 1945-1975 الذي حاول بناء أسس عراق جديد كان يمكن ان يقود العراق الى الاستقرار والحداثة والتقدم الاجتماعي. وقد ساعد ذلك الجيل على إنتاج ملامح طبقة وسطى نامية أخذت على عاتقها بناء مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. وكادت فترة الخمسينات أن تكون فترة ذهبية في تاريخ العراق الحديث، غير أن نظام الملكية الكبيرة والعلاقات شبه الاقطاعية سبب نزوحا ريفيا واسعا الى المدن الكبيرة مما أنتج بطالة وبطالة مقنعة كان لها آثار وخيمة على المجتمع العراقي ما يزال يجني ثمارها العراقيون حتى اليوم.
وخلال جيل البناء نمت في العراق الطبقة الوسطى وتطورت خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وساهمت في بناء العراق وكذلك دورها في ثورة 14 تموز ثم ضمورها بعد صعود المؤسسة العسكرية الى السلطة ودخول العراق في الحرب العبثية مع إيران.

أما الجيل الثالث فهو جيل الضياع(جيل الحرب والحصار 1975-2004) وينقسم الى:

1- جيل ما قبل صدام حسين، الذي حافظ على شخصية ذات سمات وخصائص ثابتة تقريبا.
2- جيل ما بعد صدام حسين، الذي نشأ وترعرع في ظل الحروب والحصار والقمع وتشوه الشخصية والذي لا يحمل سوى ذاكرة القتل والدمار.
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن: كيف يمكن لهذا الجيل الذي يعيش الخراب وانحلال القيم والمعايير ولا يعرف الاستقرار والمواطنة ولا يحترم الدولة ومؤسساتها ان يربي الجيل القادم بشكل سليم؟!
المجتمع العراقي في بداية القرن الماضي لم يشكل المجتمع العراقي بحدوده الحديثة وحدة سياسية منفصلة ومستقلة نسبيا الا في مطلع القرن العشرين. ولم يكن هناك "مجتمع عراقي" يمكن تشخيصه بكونه مجتمعاً متكاملاً ومستقراً وله دولة مركزية بالمعنى الحديث للكلمة. حيث كان الافراد ينقسمون في فترة الحكم العثماني الاستبدادي الى رعايا وليس مواطنين والى أفراد ينتسبون الى قبائل و طوائف ومناطق وحرف وينقسمون بدورهم الى بدو وريفيين وحضر. واذا كان هناك تناسق ظاهري بين مكونات الشعب العراقي، فهناك اختلافات عديدة مفعمة بالأهمية، فبالرغم من الادعاء بالاصل الواحد، فالعراق لم يكن الا وارث شعوب وأجناس وقبائل وطوائف ولغات متنوعة تهيأت لها بعض المستلزمات الضرورية لقيام حكم وطني بدأت معالمه بالتطور التدريجي بدءا بتأسيس أولى الاحزاب والجمعيات الوطنية بعد الحرب العالمية الاولى.
وبقي العراق أمة تبحث عن دولة ودولة تبحث عن هوية ، حيث لم يكن العراق قبل تأسيس الدولة العراقية شعبا موحدا في " أمة " ويكون وحدة سياسية واحدة لتعدد وتنوع وخلاف وإختلاف مكوناته، ولم يدفعهم وعيهم الاجتماعي والسياسي الى تشكيل "دولة" تستقطب مشاعرهم وانتماءاتهم وولاءاتهم وتوحدهم في هوية وطنية واحدة. وهو ما أدى الى نمو روح محلية قوية في المدن وروح عشائرية قوية في الريف، ليحافظ كل من الحاكم والمحكوم على وضعه الاجتماعي وحماية نفسه.
وكان تشكيل الدولة العراقية عام 1921 نتاجاً مشوهاً لنمط الهيمنة الكولونيالية الذي كان إستجابة للنظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السائد آنذاك. وقد تشكل النظام الجديد من (نخب) تكونت من جماعات تحالف تقليدية من:
شيوخ القبائل العربية والكردية وكبار الضباط السابقين في الجيش العثماني والاشراف وتجار المدن والوجهاء والافندية الذين شكلوا نخبة سياسية غير منسجمة في الواقع، حاولت تشكيل هوية وطنية للقيام ببناء العراق وتحديثه وإضعاف الانقسامات القبلية والاثنية والطائفية.

وحول إشكالية الدولة في العراق أوضح الحيدري أن العراق

عانى وما يزال من ضعف الدولة، كمؤسسات مدنية، حيث لم يسبق أن جرب العراقيون تأسيس دولة حديثة منذ سقوط بغداد على يد المغول وإحتلال الدولة العثمانية للعراق. ولم يكن العراقيون يعرفون كيف يؤسسون دولة حديثة، كما ظهرت في أوروبا في العصر الحديث، تقوم على مؤسسات المجتمع المدني واحترام حقوق الانسان والتمتع بحق التعبير الحر عن الذات وإحترام الاخر المختلف، وفي الوقت نفسه، تستمع الدولة الى مطاليبه وتحاول تحقيقها. ولم يكن ناضجا ولم يدفعهم الى توحيد أنفسهم وتشكيل وحدة سياسية تستقطب مشاعرهم وانتماءاتهم وولاءاتهم وتوحدهم في هوية وطنية واحدة. كما لم يكن الدين أو العروبة مقررين لتوحيدهم في هوية وطنية واحدة. ولذلك تأسست الدولة من الخارج!
وحالما تأسست الدولة تفجرت العصبيات الاثنية والقبلية والطائفية والجهوية ووصلت الى قمة السلطة وبدأت المنازعات العشائرية والانقلابات العسكرية. وهو ما يفسر والى حد بعيد اشكالية " الدولة" وعدم نضجها وتخلفها وضعفها، بحيث بقيت "العصبية القبلية" كنقيض للدولة الحديثة وأستمرت كبنية مؤسسية سلبية وملتبسة. كما أستمر دور العشيرة والعائلة والطائفة في الحياة السياسية والاقتصادية كضمانة لها في توفير الأمن والحماية للفرد والجماعة بدل الدولة، التي ما زالت لم تستكمل شروط قيامها.

إشكالية المواطنة

أما المواطنة فهو مفهوم ذو دلالات اجتماعية وسياسية مستمد من كلمة وطن بكل ما تحمله الكلمة من معاني الارتباط بالارض والتاريخ واللغة ومشاركة الفرد في السلطة.
وبهذا المعنى تعني المواطنة منظومة من القيم ومشاعر الولاء والانتماء التي تكرس معنى المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتحترم التعددية والتنوع وتلغي الفوارق الاثنية والدينية والطبقية والجنسية بين البشر. وبهذا فالمواطنة هي إطار فلسفي عام وشامل لكل الامم والشعوب، ولا يرتبط بالمعنى القانوني للجنسية فحسب، وإنما يتجاوزه الى معنى أوسع واشمل هو الولاء الأقوى والانتماء الاشمل الى الارض- الوطن. أي الانتماء للوطن والولاء لهوية وطنية جامعة لكل المكونات الاجتماعية.
وتناول المحاضر أيضا إشكالية الهوية العراقية قائلا:
الهوية من الهو، أي الآخر، وهي تحدد العلاقة مع الآخر, وتظهر عندما تكون العلاقة مع الآخر ملتبسة، أي في حالة الخلاف والتباين والصراع. والأصل في الهوية يرتبط بفكرة المواطنة والولاء للوطن والانتماء السياسي للدولة. ومن الناحية القانونية ترتبط الهوية بالجنسية التي تحدد الانتماء وليس الولاء. وتتحول الهوية الى إشكالية في حالة الحروب والكوارث والانقلابات العسكرية والصراع على المصالح. وهي ترتبط بالحرية والديمقراطية وإستقلالية الفرد. فبدون حرية تتفكك الهوية وبدون ديمقراطية تضيع حقوق الهويات الفرعية.
وتحدث الأزمة بين الهويات عند حدوث منازعات بين المكونات الاجتماعية المختلفة على توزيع الحقوق والواجبات حيث تنقسم الهوية الوطنية الواحدة الى عدة هويات فرعية متصارعة تحتمي بثقافاتها الفرعية بدل الوطن والدولة.
وهكذا ظهرت في العراق أجيال جديدة لا تعرف معنى الانتماء والولاء للوطن والدولة واضطرت بشكل او آخر الى الالتفاف حول نفسها ومصالحها الآنية والتضامن فيما بينها, أثنيا ومذهبيا وعشائرياً وطائفياً, بالرغم من انخراط عدد كبير من الافراد في الاحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية والمؤسسات العسكرية والامنية وأخذ كل منهم يمارس قيمه واعرافه وعصبياته بالرغم من ولائهم الشكلي للوطن والدولة، وهو ما كّون ردة حضارية عميقة الأثر والتأثير على المجتمع العراقي ارجعت العراق الى ما قبل تأسيس الدولة العراقية .
إذا كانت الشخصية العراقية تتصف بهذه الخاصية، فهذا لا يعني انها شخصية منحرفة أو مريضة أوغير متكاملة بطبيعتها، لأن جوهر الشخصية العراقية أنها طيبة وكريمة ومتسامحة وأن ثنائية التسلط والخضوع هي نتيجة للظروف والشروط الموضوعية والذاتية التي مر ويمر بها العراق. ومن الممكن التخلص منهما إذا ما تغيرت الظروف والشروط التي أنتجتهما.
وقد أثارت هذه الندوة المهمة الكثير من النقاشات حول مفهوم الهوية والمواطنه وحقب الأنقطاع ، وإنقلاب 1963 في 8 شباط ، الذي أعده البعض بداية حقبة إنقطاع حضارية و ردة مؤثرة في تاريخ العراق المعاصر على كافة الأصعدة.