ادب وفن

فنطازيا الواقع.. وواقعية الكتابة (2-2)/ حميد حسن جعفر

من الملاحظ - أن شخصيات النص الروائي هذه غير مستقلة/ غير منفصلة عن بعضهاإنها تشكل نسيجاً عنكبوتياً، شائكاً متداخلاً كل فرد منها من الممكن أن يوصل القارئ إلى مجموعة من الشخصيات، أي أن العلاقات التي تربط فيما بينها ليست حالة خيطية لا توصل الكائن الواحد لسوى كائن واحد سواه.
هذا التشابك سوف يلازم النص هذا، عبر عنواناته المتعددة - السبع عشرة.
ورغم أن - جلال - الراوي العليم يشكل الشخصية الرئيسة إلّا أن القارئ قد لا يكون بإمكانه أن يستثني هذه الصفة عن الآخرين رغم ابتعادهم أو غيابهم عن هذا الحدث أو ذاك.
ورغم سطوة الراوي العليم، إلّا أن هذه الشخصيات استطاعت أن تتحرك خارج قدرته على الإلغاء أو البقاء فهي مالكة لمفاصل تحركاتها. لذلك فهو أي الراوي لا يصنع البطل بقدر ما يتابع حيوات أولئك الأبطال.
إن وجود أبطال من الدرجة الأولى لم يكن وجوداً إلغائياً إذ أن الراوي كثيراً ما يزج أشخاصاً قد يكونون غرباء على جو النص/ وجود غائب أي أنها شخصيات جديدة لم يستدرجها سابقاً إلى فضاء الرواية كما هي الحال في "شاكر يتألق وخوليو على السور". عندما دفع مجموعة من الموسيقيين والمصورين والمطربين ضمن حفلة افتتاح "قصر بني"
***
- نزار عبد الستار- يبدو حين يكتب، أنه ليس بحاجة إلى وصية من أجل لم/ جمع شمل أبطاله.
إذ أن القارئ سوف يجد نفسه واقفاً خارج التوقعات. وعليه أن يستقبل ضيوف الراوي. أولئك الطيبون الذين سوف يهبطون عليه كما الملائكة لا يدري، ولا يعلم من أين بخرجون عليه ومن أي زمن.
فالشخصية التي كان القارئ يتابعها عبر عدم حضورها الفعلي/ حضور الذاكرة سوف يجدها أمامه بلحمها ودمها. أي العديد من الشخصيات لها أكثر من وجود أو أكثر من دور.
البعض من هذه الشخصيات قد يكون لها وجود منذ الصفحات الأولى إلّا أن الراوي يدفع بها جانباً - عبر حالة من الخزن - للاستفادة من أفعالها في تفاصيل كتابية أخرى.
هذا ما سوف يتحقق لدى متابعات القارئ وعلى هذا القارئ أن يكون فطناً/ نبهاً صاحب ذاكرة طرية قادرة على الحفظ والاسترجاع من أجل تجميع الخيوط التي يجب أن تشكل النسيج الروائي للنص. وإلّا سوف يفقد النص الكثير من منظوماته، بسبب عدم قدرة القارئ على متابعة تحولات الشخصيات وتفعيلها للقيام بدور جديد ضمن معنونة جديدة.
**
-نزار عبد الستار- لا يهمل مخلوقاته بقدر ما يؤجل أفعالها ولأنها كائنات غير مطفأة/ غير خامدة. فسوف يجد القارئ أن الروائي وضع أبطاله - وكما هي الحال مع الملفات - وضع ابطاله تحت اليد من الممكن إلحاقهم بالنص وقت ما يشاء لينفخ فيهم من روحه.
في عرف الروائي - نزار - أن التبدل والتغيير من الممكن أن يحدث بسبب حضور أي من الشخصيات، ربما يكون حضوراً اسمياً عبر منجز موسيقي أو غنائي يقوم به سواه وفق هكذا مفهوم تتحرك عملية السرد. وبسبب هذه المنظومة سيجد القارئ أن "الأمريكان في بيتي" لا تعتمد بالأساس على مفهوم الكلاسيكية.
وإذا ما كان اعتماد الروائي على الحراك الواقعي المفترض، إلّا أن حركة السرد تقف خارج هكذا واقع.
فالحياة التي يتداولها/ يمارسها شخصيات الواقع الذي يتابع الروائي حركته حياة غير خاضعة لقانون الآخر "الإنسان/ الزمن/ الحدث"، بل إنها تصنع محاورها وفق ما يقرر كل من الإنسان والزمان والحدث من علاقات غير خاضعة لقانون المنطق الذي كثيراً ما يتحكم بالإنسان الفرد.
***
من النماذج البشرية الواضحة البعيدة عن التمويه والكذب وبشكل فيه الكثير من الشفافية هو نموذج المرأة/ الأنثى المتمثلة بـ "مناسك" هذي الأنثى التي لا يمكن أن تقف تحت سلطة الرقابة أو المراقبة.
إن جماح روحها لا يمكن أن يوجه عبر سلطة تقف خارج جسدها أو خارج توجهاتها الفكرية بل إن علاقتها بـ "جلال" الراوي/ العليم لا يد لـ "نزار عبد الستار" في صناعتها. ولا يد لـ "جلال" في تشكيلها، بل إن القارئ سيجد في - مناسك - عالماً من الاشتغالات الأنثوية وكذلك الإنسانية والتي تفتقدها معظم النساء. بل إن جلال نفسه لم يجدها في أقرب النسوة إليه "حنان" زوجته.
قد يكون لبعض هذه الاشتغالات لدى هذه المرأة أو تلك، ولكن بهذا الشكل والحجم وبهذا العنفوان وبهذا التحرر من سلطة "العورة" و"العيب" لا يمكن أن توجد إلّا في روح "مناسك".
***
كائنات - نزار عبد الستار - كائنات غير طبيعية. قد تقف تحت سلطة الاستثناء، ولولا قدرة الراوي على المتابعة والملاحقة وتوظيف تحركات أهل بيته وأصدقائه وشركائه في الملمات بل وحتى خصومه من الامريكان أو المحليين.
بل إن الروائي استطاع أن يصنع/ أن ينتج شخصية روائية توازي شخصيات النص في امتلاكها للمختلف وعدم قناعتها بالخمول.
ولأن الروائي - نزار عبد الستار - هو صحفي بالأصل فقد منح حرفته/ مهنته إلى بطله الراوي/ جلال. فكانت - نتيجة لذلك - أن تكون معظم لغات الشخصيات هي لغات مفتوحة لغات تبحث عن قارئ لغة حدث وحراك وتغيرات، لغة بقدر ما هي قريبة من المتلقي هي بعيدة عن الغموض أو ما يمكن أن يتسبب إلى التلغيز.
فإذا ما كانت الوقائع وتبدلاتها تنتمي إلى الفنطازيا أو اللاواقع، فإن نسيج لغة الأبطال لا تبتعد عن الواقع الملموس لذلك فإن الاستقبال/ التلقي من قبل القارئ سيكون واضحاً، وهذا ما يتطلبه الموضوع الذي يتناوله الفعل الكتابي والروائي.
***
إن الحياة التي استجدت بسبب دخول الجندي الأمريكي إلى بيت الراوي "جلال" ودخول العنف المتجسد بصناعة الممنوعات/ الخطوط الحمراء، وتحريم الموسيقى والسينما والقراءة، دفعت سكان البيت/ الوطن إلى صناعة الإنسان المقاوم/ الرافض وفق مبدأ المعرفة والمجادلة وضرورة الحفاظ على المنجز الإبداعي/ الآثاري، وإعادة الحياة للمنجز الإنساني المتمثل بالكتاب والفلم السينمي والإبقاء على الصفة الإنسانية للإبداع الموجود في الكتاب/ المكتبات والفلم/ ودور السينما والتراث/ المخطوطات.
وإذا ما كان هناك فعل واضح للآخر/ الخصم، العدو "العسكر الأمريكي المنظمات الإرهابية/ التردد".
فمن الواجب أن يكون هناك فعل موازٍ ينطلق من كينونة الإنسان العراقي يتمثل بالتأكيد على دور الكتاب والمكتبات وعلى دور المستندات والوثائق في الفضح والكشف والتعرية، وصناعة القوة القادرة على مواجهة القوة السوداء/ السلبية المنتمية إلى العدم والتي من نتائجها "مقتل الحاج جبار، وإحراق المكتبة" و"إطلاق النار على مبنى السينما" ومقتل "الدكتور حازم لأنه أسس فرقة مسرحية".
إن الخراب الذي يسيطر على صورة البيت في آخر حقول/ فصول الرواية والذي يقف تحت عنوان "ظهور الملائكة".
هذا الخراب ما هو الا الواقع المعكوس في مرآة الحياة والتابع لخراب الوطن فكثيراً ما يكون الجزء ممثلاً "وبدرايةٍ فائقةٍ" للكل، وما حدث للبيت هو نفس ما حدث للبلاد هذا الحدث الذي وصفته مناسك بأنه "ضربة انتقامية".
وإذا ما كان "جلال" الراوي والصحفي في صحيفة الغد البغدادية يمثل شريحة رافضة للاحتلال فإن "محمد" طالب كلية الصيدلة والهائم بحب السينما قد يشكل شريحة جديدة من الممكن أن تشكل حلقة رافضة لقوانين التحريم، حلقة تشكل امتداداً للحلقة التي ينتمي إليها "جلال".
وإذا ما كانت "حنان" زوجة "جلال" المرأة المنتمية للخمول والانطفاء فإن - مناسك - التي يقول عنها "جلال": "كانت تقرأ رغباتي وتحقق ما يمكن أن يكون مشابهاً للحظة العوز النّافرةُ مني، في لقاءات العمل الصباحية، هذه هي عظمتها".
تشكل الطرف المضاد. إنها الأنثى التي تقول لـ"جلال" عندما كانا يجلسان في السينما "سأدافع عن أحلامك بحياتي".
"أحب أن نموت معاً في لحظة واحدة"
"ما اروعك وأنت تشتهي الحياة أكثر
من اشتهائك لي".
***
-نزار عبد الستار- روائي يجيد صناعة اللاواقع الذي لا يمكن أن ينتمي الاّ إلى المخيلة الشديدة التواطؤ مع ما يحاذي الجنون. الحالة التي لا يمكن صناعتها إلّا من خلال عدم القناعة بما يحدث. ورفض الخراب الذي يحاول الآخر/ الخصم صناعته ليدمر الروح قبل الجسد.
-نزار عبد الستار- حائك حكايات ماهر لا يشتغل على التشابه بقدر اشتغالاته على المختلف.
4
في "الأمريكان في بيتي" لم يكن الروائي "نزار عبد الستار" باحثاً عن الشكل "رغم أهمية معمار بنية النص الخارجية" كما هي الحال مع روايته السابقة "هبوط الملاك في بابل".
في نصه الروائي هذا لم يقف الروائي على التل بل كان في اللجة من فعله السردي.
قد يبدو للقارئ ان الرواية كانت تكتب نفسها بنفسها. ورغم وجود هكذا أحساس إلّا أن عملية تشكيل الشخصيات واختيارها ما تتميز به هذه الشخصية أو تلك. وقدرة الفعل الذي تنتمي له هذه الشخصيات على إقامة حالة الاختلاف.
إن فعلاً معاكساً لاشتغالات المثقف ممثلاً بدخول الجندي المحتل وسقوط النظام، وانتشار الفوضى، وظهور مفروزات التحريم والتجريم والممنوع والعيب.
فإن معظم شخصيات المؤلف لا تنتمي للحس القطيعي. بل إن الكثير من اهتماماتها تطلع من جغرافية الإنسان الباحث عن المعرفة والثقافة والمغايرة والوجود.
إن ظهور العشرات من الشخصيات على سطح الأحداث وفي أعماق الأفعال لا يمكن أن تنسب إلّا للروائي نفسه وللشخصية الرئيسة للنص الروائي "جلال" والتي قد تعكس وفي الكثير من الأحايين أشكالات الروائي نفسه. بل قد يقول البعض من القراء إن "جلال الراوي" لم يكن سوى نزار الروائي.
إلّا أن الكثير من الأفعال اللاواقعية المنتمية لحالة من الفنطازيا تؤكد وبمساحة واسعة من الثقة أن الشخصيات مثل "جلال" و"مناسك" و"حنان" و"سندس" و"كمال" هي شخصيات تنتمي إلى مخيال الروائي وقدرته على صناعة البدائل وإعادة تشكيل النسيج الحياتي مستنداً على البعض من ملامح الواقع.
إن خروج الأحداث - بفعل السارد - من فضاء الواقع الذي يحيط بالشخصيات، ومنحها القدرة على صناعة الاختلاف لينقذها بالتالي من سلطة الركود الذي يتميز به الواقع المعيش. والذي كان بدوره ناتجاً لحالة فقدان المركز ووقوع مكونات الحياة / البشر/ الأحداث تحت سلطة الفوضى وارتكاب الأخطاء.
إن اختيار الروائي للفعل الثقافي كنسيج/ متن كان هو الاختيار الصعب. إذ ليس من السهل تفعيل اهتمامات قد تكون بعيدة عن إنسان الشارع أو الإنسان القارئ البسيط.
فاستفادة الروائي من الحس الموسيقي ؛ والسينمي، وقدرتهما على صناعة الخرق والازاحة، تلك القدرة التي صنعت المستمع وكذلك الناظر/ المتفرج. والتي فاقت قدرة الكتاب والآثار والوثائق هذا الحس المنتمي إلى الاذن/ السماع وإلى العين/ الرؤية. وفر للنسيج الروائي شخصيات عديدة تنتمي للحس الشعبي وبالتالي أبعد الكتابة عنها تلك الحالة التي من الممكن أن نسميها المقاطعة فالحصول على التأييد البشري/ الجماهيري مفصل مهم من مفاصل استقطاب الكائن البشري، ودفعه نحو الحراك الفعال. من أجل إعادة تكوين الحياة من جهة، والوقوف بوجه الآخر/ العدو من جهة أخرى.
***
من الملاحظ على شخصيات ما يكتب - نزار عبد الستار - من نسيج روائي، ضمن كتابه الأمريكان في بيتي هو عدم اعتماده على عدد محدد من الشخصيات.
بل إن هناك شخصيات من الممكن أن تنتمي إلى الرئيسة/ كأبطال هذه الشخصيات الرئيسة لا يمكنها الحركة/ السباحة بعيداً عن الشخصيات الأخرى.
حتى أن جلال و مناسك الشخصيتان الرئيسيتان في الكتاب كثيراً ما يستندان على سواهما من كائنات النص لا لخمول يلحق بهما. بل لأن إحساس الروائي بالكائنات الأخرى وبأهميتها ودورها في تفعيل الحدث وصناعة الحراك السردي هو الذي دفع به إلى استقطاب عدد كبير منها.
إن حيوية كائنات الرواية وحراكها الذي ينتمي إلى الحياة نفسها أبعد الكتابة عن الهامشية والخمول وما ينتمي إلى "الحياة الجامدة" ومنحها دماءً دافئة تتميز بالحرص عليها والتشبث بها، ومقاومة حالة الالغاء التي تتعرض لها من قبل خصومها.
**
هذه الشخصيات التي كثيراً ما يتكرر وجودها في السرد الروائي قد يتجاوز عدد وجودها ضمن عملية الاستحضار "مائة وتسعة وأربعين" لولا هؤلاء لما قامت لـ "جلال" و"مناسك"، بل وحتى للروائي نفسه أي نوع من القيامات.