ادب وفن

المدينة الفاضلة في رواية الزمن المستحيل (1-2) / د . وليد جاسم الزبيدي

قُسّمتْ روايةُ "المدينة الفاضلة" للروائية وفاء عبدالرزاق على رحلات، والرحلةُ هي السفر، الانتقال والتنقل، فهناك التنقل المكاني بين المدينة والريف، ومدينة ومدينة أخرى، وهناك رحلة الروح والعقل وتنقل الفكر وحركته من حال الى أخرى.. فالرحلة حركةٌ تسري في داخل تفكير كل شخصية من شخصيات الرواية. وكان عدد رحلات الرواية اثنتى عشرة رحلة، عنونتْ "أحدى عشرة" منها بتسلسلاتها الرقمية، وذكرت الثانية عشرة "الرحلة الأخيرة" لتعطي مدلولاً للقاريء أنها آخر رحلة كي لا ينتظر رحلات أخرى في النص يتبع هذا المقطع.
وهي ضمن تقنيات سردها ومنهجها في الكتابة تولدُ الرواية عندها حيثُ يصطدم القارئ بحضور كمٍ هائل من الشخصيات ينفردون به ويضخون له حوارات كبيرة وكثيرة، وكأنه في بداية الأمر يعيش أجواء غريبة بل يسمع لغات وأصوات غريبة لا يفهم ولا يفقه معناها في صفحاتها الأولى، وكأنها تمد خيوطاً كي تجر القارئ نحو التالي من الدهشة، فبعد أن يسترسل بالقراءة تفتحُ الرواية ذراعيها له كي تُعرّفهُ بضيوفهِ الذين عجّوا بالمكان معهُ وبالأحداث التي تتوالى..
ثم تتركُ الروايةُ للقارئ حريّة تسمية الأبطال، فهناك تعددية أسماء للشخصية الواحدة، بل والأماكن غير محددة أو مشخصة، فتترك فسحات للخيال أن يختار المكان الذي ترسمه مخيلته ويعتقدُ أنهُ الأصلح، وكذاك الزمان. فضلاً عن الميزة التي تسودُ كتاباتها وهي أن تولد حكايةٌ من رحم حكاية والرواية مشحونةٌ بلغةٍ شعريةٍ محببةٍ.
وفي هذه الرواية تحديداً انمازت الروائية بأسلوب مختلف عن بقية رواياتها الأخرى. حينما يبدأ القارئ بقراءة الرحلة الأولى ثم ينتقل الى الرحلة الثانية، لمبتدأ الرحلة الثانية مباشرةً، أو الثالثة أو الرابعة وهكذا... بل تضعُ ممهدا بصفحتين أو أكثر، ثم تضع نجمةً لنهاية التمهيد، ومن ثم تذكر الرحلة. وهو

أسلوب لشد القارئ ولطرد الملل، ولخلق المفاجأة والصدمة.

المدينة الفاضلة في الرواية:

المدن نتاجُ البشر، تُبنى وتؤسس لحاجاته ومتطلبات حياته، حسب عاداته وتقاليده وثقافته، حيث هناك مدنٌ تؤسسُ لدرء الحروب والنكبات الطبيعية، وهي التي تعاني من عدم الاستقرار وتعاني من فوبيا الموت والدمار، بوجود حروب مستمرة، فتجد تصاميم دورها وشوارعها عبارة عن ثكنات ومتاريس، ودهاليز وسراديب.. وهناك منْ يطاردها شبح الفيضانات لقربها من الأنهار ومصادر المياه أو البراكين.. أو أية ظاهرة طبيعية أخرى، فتتأقلمُ المدينة شكلاً ومضموناً مع حاجة أهلها.. وهناك مدن مستقرة مطمئنة فتفترش الأرض سعةً، وتجد دورها وشوارعها وحدائقها، ومسارحها أكثر رحابةً وانبساطاً، لا تنكمش من فوبيا محددة أو غير محددة.
ولكل مفكرٍ ومبدعٍ صورةٌ لمدينته التي يريد، هنا وضعتِ الروائية تصميم مدينةٍ جديدةٍ،وضعت فيها كل ما يساعدُ أبطالها لتجاوز الأزمات والتحديات. فقد ذكرت أحدى الشخصيات المهمة في الرواية "سحر" مدينتها التعيسة، وقد أسمتها: "المدينة العمياء" ليست لأنها أغفلتها ولم تحتضن شبابها، أو أن أحدا من سكانها لم يرها فقط، بل لأنها مدينة النكبات، مدينة الموت، بوفاة والديها وفقدانها لهما في عمر مبكر، ثم عيشها مرحلة الخوف بوجود زوجة والدها، وزوجها الذي كان يعاكسها ويتحين الفرص للإنقضاض على فريسته، وكذلك أولاد زوجة أبيها.. والمدينة هي التي تنكرت لهؤلاء المعوقين ونبذتهم فتبرأت منهم، كما تبرأ مجتمع المدينة وعوائلهم منهم، فجعلوهم بذلك المنفى، الذي أصبحَ بعد حين فردوسهم .
مدينةُ الذين فقدوا بصيرتهم، ولايرون إلا أنانيتهم المتضخمة، وينفرون من الآخر، مدينةٌ يسودها العنف واللاإنسانية.
ومقابل هذه المدينة التي أنتجتْ تاريخاً مظلماً لحياة "سحر"؛ ابتدعتِ الروائية مكاناً ساحراًجميلاً بمكانهِ وبمجتمعه، في قريةٍ أسمتها: "أبو فرج" وهي المدينة الفاضلة للروائية- ، والقريةُ مكانٌ يقعُ في ظاهر المدن عادةً، ويكون الحويصلة والرئة للمدينة المختنقة بدخان الحضارة والنفاق.. وتسمية فرج جاء في المعجم الوسيط-: الفرج: انكشاف الغمّ، وانفرجَ الشيء: إتّسعَ، وانفرجَ الغمّ والكربُ: إنكشفَ.
وتقول الروائيةُ في سبب هذه التسمية:" سمعتهم يقولون أن رجلاً اسمهُ فرج جاء من مكانٍ ناءٍ عن القرية، وكانت وقتها غير مأهولة بالسكان، شيّدَ داراً طينيةً وعاشَ وحيداً يزرعُ النخيل ، حتى تكاثرَ وأصبحَ يملأ المكان، كما شقّ نهراً صغيراً للري أخذ اسمه أيضاً، "نهر فرج"...".
وهكذا اختارتِ الروائيةُ مكاناً يكون فرجاً لمجتمع هذه القرية الذين جاء أغلبهم من مدنٍ شتى ولكل واحدٍ وواحدةٍ من شخوص الرواية حكايتهُ وخسائرهُ وأحزانه. وهذا المكان هو جنة الفردوس، وذلك كما وردَ في "ص:41": "لم أسأل عن الراتب، مغادرتي البيت تعني الدخول الى عوالم الجنة وإن كانت في قرية ومع معوقين".

مجتمع المدينة الفاضلة:

في قرية "أبو فرج" نسيجٌ مجتمعي مختلفً مؤتلف، مختلف في:طبقاته وثقافته ومهاراته ومهنه، مؤتلفٌ في: روح التعاون والتسامح والعمل المشترك والأماني والهدف الموحّد. مجتمعٌ يحتضنُ:
1- أصحاب الاحتياجات الخاصة وهم الحلقة الرئيسة في هذا المجتمع بل هم أبطال الرواية.
2- ثم هناك مديرة دار رعاية المعاقين، التي هربت من المدينة، لتضع ما تملك من صحةٍ وعمرٍ ومالٍ في خدمة هذا المجتمع الجديد.
3- وكذلك سحر وسلوى وكل العاملين والعاملات في الدار الذين لا يأخذون مبالغ بمستوى ما يقدمون من خدمة، بل أنهم كمن يتبرع بفناء عمره لخدمةِ هذه الشريحة أو الفئة.وكذلك من ضمن هذا المجتمع مجموعة من الأطباء "محمود-سليم- الطبيب النفسي..".
4- مجموعة كبيرة من أهالي القرية الطيبين الذين يساعدون "دار الرعاية" بالعمل في الحديقة أو أعمال النجارة دون مقابل، وهناك منْ هو ميسور يقدم الدعم المادي، ونساء القرية اللائي يعملن أعمالاً يدوية وبمهارات مختلفة مجانا في دعم "دار الرعاية". ثم هناك المختار وضابط مركز الشرطة في القرية ،وهما رمز -الدولة-.
5- مجموعة معلمات الدار ومدرسات الموسيقى والرسم، وزيارة عدد من الفنانين للدار..
كما لم تكتفِ الروائية بوضع خارطةٍ للتعاون والتآلف بين أفراد الدار والقرية الذين يتمتعون بالصحة والسلامة، بل وضعت خريطةً للمعاقين وكيف يوفرون لحياتهم الجديدة سبل العيش الكريم ، بعد التفكير بزواج المعاقين المنغوليين "سالم وحمامة"، فوضعت نظريتها بضرورة ايجاد فرص عمل لهما داخل الدار، عمل"حمامة" في المطبخ، وعمل "سالم" في الحديقة لمساعدة الفلاح.
-التكافل المجتمعي - العمل الخيري التضامني-في المدينة الفاضلة في الرواية:
شكّلت فكرة "السوق الخيري" و"المهرجان الفني"، صورةً راقيةً لفكرة العمل التعاوني، والتكافل المجتمعي، وصور التعاون بين أبناء مجتمع "قرية أبو فرج" لغرض دعم دار الرعاية وتلبية متطلبات ذوي الاحتياجات الخاصة بأسلوب حضاري. وذلك من خلال العمل التطوعي وتبرعات أهل القرية، ويكون هذا السوق من أعمالهم اليدوية، واستثمار عمل النساء للإشتغال بعمل السلال والحصران والأطباق ،وصناعة بعض الحلويات وتعليبها، وأعمال التطريز وملاءات الأسرّة، وبيعها في السوق.. أمّا الرجال، فتبرعَ كلّ منهم حسب مهنته، الخياط والفلاح والمعلم والنجار.. والى جانب هذا السوق، يكون المهرجان الفني، ويكون ريعه للدار.

الصوت في الرواية:

يُعدّ الصوتُ بصورة عامةٍ من أهم العناصر التي تتكون منها اللغة، لأنّ اللغةَ - أية لغة - لا تقومُ إلاّ بهِ، وهي بدونه كالجسدِ بلا روح، فاللغةُ تقومُ على إصدار الأصوات واستقبالها أثناء عملية الكلام. والصوت اللغوي هو الصوتُ الذي يُصدرُهُ جهاز النطق عند الإنسان.
تمتازُ هذه الرواية "الزمن المستحيل" بتعدد الأصوات، وهذه من التقنيات السردية المعتمدة في كتابة الرواية، فتختلف الأصوات في اللهجات والأسلوب والايدولوجيا،وتعتمدُ هذه التعدديةُ أيضا على تعدد المواقف الفكرية واختلاف الرؤى، والتنوع في استخدام الصيغ والأساليب الذي تديرهُ الروائية في تحريك دفة الصراع الدرامي الداخلي-المنو لووج- والخارجي.
ومع التعدد الصوتي في الشخصيات المتعددة في الرواية، نجد هناك تعدداً صوتياً على مستوى الشخصية الواحدة، فنلاحظ وجود التعددية الصوتية في صوت البطل "أحمد"، وفي أفكار ورؤى "سحر و سلوى وفضيلة و محمود" و...الخ.
ومع هذا التعدد الصوتي، هناك أصوات ظهرت من نوع آخر، أصوات لإعاقة، ومعاقين، لا ينطقون كلمات كاملة، بل حروف أو أجزاء الكلمة، وهناك صرخات وهمهمات وهمس، كلها أصوات جعلت من الرواية متعددة المشارب والأساليب، متعددة البنى، لتبين مدى راكزية الشخصية، ومدى الاضطراب النفسي والعقلي، ومايؤثره في عدم السيطرة على مخارج الحروف والكلام، بحيث يظل هذا النوع من الأصوات شفرات. ومن هذا النوع الكثير الذي نقرأهُ في الرواية أصوات الطفلة المنغولية "حمامة":
1- "مصّتْ شفتها السفلى الى الداخل، أمالت حلقها وأغمضت عينيها، ثم فتحتهما مشيرةً الى عيني مرةً ثانيةً وعوتْ ...عووووو...عووو مامة".
- وتعنيفي هذا الصوت: إنها ترجوكِ النوم بقربها...
2-" تشجعها "سلوى" من مسافة متر.. رافعةً أبهامها كإشارةٍ تشجيعيةٍ ..كلما شاهدتْ "حمامة" ابتسامة"سلوى" عَوَتْ: يّعيّ..يَعّو..وامّمّمْ..نعن..نع".
- وهذا يعني: في تقليد مدرّسة الرياضة.
3- في تعبير "حمامة" عن الفرح والسرور: .. حتى كادت تلعق السلسلة بلسانها الطويل الممتد الى حنكها معبرة عن فرح مباغت دخلَ قلبها..همهمتْ إهم..هي..هم..
وهذه نماذج من معوّق آخر أنما هو يختلف عن عوق "حمامة" فعوقهُ بدني فقط هو بطل الرواية "عنقود الأحمدي": "أضغطُ ابهامي واصبعي الوسطى، ثم أكز على أسناني بحرف السين..أس..أس..أس وأجمع شفتيّ الى بعضهما وأقول: أمم..أمم أمممم.
- وتعني: نطق بعض حروف الموسيقى"..
وهناك نوع من أصوات الفعل والصورة الذي يصرخ أو يهمس في لغة الحوار، وأذكر منها:
1-: كان "سالم" مشدوداً اليها،وكلما اقتربت منه، أو شمّ عطرها ماءَ مثل قطٍ أخرس.
- صوت القط: مواء القط.
2-: صهلَ الكون في مخيلتي...
- صوت الحصان: الصهيل.
5 - لغة الجسد في الرواية:
للجسد فنٌ ولغةٌ، من خلاله يجسّدُ الفنّان فكرةً وحواراً ،يجسدّهُ بعرضٍ بدني، كما في فن "البونتمايم"، وفن الرّقص، فالجسد لم يكن جسداً تشريحياً فقط، أو عبارة عن مجموعة أجهزة تعمل بصورة ديناميكية، بل هو تاريخ فرد، وثقافة وعلاقات ونشاطات..فالجسد هو أساس الحركات التعبيرية المقننة في فعاليات عملية رمزية، فهناك إشارات وحركات وإيماءات، تؤدى وفق تزامنات عضلية باستخدام اليد أو الوجه او الرأس أو الجذع أو الأكتاف،.. وتختلفُ تقنيات الجسد وفق مفاهيم مختلفة منها: 1- الجنس: ذكر أو أنثى..2- نوع العمل والمهارة. 3- شكل استخدام الحركة والإيقاع وموضوعهما. كما يشير بعض الباحثين أن نوع تقنيات الجسد تختلفُ باختلاف العمر والطبقة الاجتماعية.
في موضوعة الصوت لاحظنا تعددية الصوت في الرواية، وهنا تعددية اللغة، فمع اللغة المقروءة هناك لغة أخرى بصرية، تراها لا تسمعها، حر كية، تستخدم الجسد وسيلة للنطق والتفاهم. فكما هو الصوت يتطور تصاعديا من زمن الطفولة الى الكهولة، كذلك هي لغة الجسد تتطور وتتصاعد من الطفولة الى الكهولة وفق تقنات تلائم كل مرحلة بزمانها ومكانها.

صورة البطل في الرواية:

منْ هو البطل؟ فقد تعدّدتْ أسماؤهُ ومسمياتُهُ، بل وتركتِ الروايةُ للقارئ أن يضيف ما يحلو لهُ من خلال قراءتهِ وفهمه لشخصية البطل. وهكذا فنحنُ حينما تحدّثنا في تعددية الصوت وتعددية اللغة، سنجد هنا تعددية الأسماء للذات الواحدة في صورة البطل. فقد استخدمت الرواية أسماء ومسميات عدّة للبطل، وهذا يعني أنها تفتح المجال للقارئ كي يختار ما يجده مناسباً، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى تريد أن توصل إلينا رسالةً أن هذا البطل هو "س" من البشر، أي هو يمثل مجتمعا بكاملهِ، شريحةً وفئةً كبيرةً من أصحاب الإحتياجات الخاصة في العالم أجمع. فإذن هي لم تجعل للنص جسداً محدداً أو هيأةً محدّدةً أو تشخيصاً ، بل هو نصّ مفتوح يحتملُ كل التفسيرات والتحليلات، ليظل النّص يتحدث عن هذه الفئة دون تحديد قومية أو دين أو معتقد، بل وأنها لم تحدّد المكان والزمان كذلك، فإذن هي حالة أممية تعيش وتنمو في أحشاء كل هذا العالم.