ادب وفن

تعدد الرؤى الشعرية : «القمر البعيد من حريتي» انموذجا (1-2) / شاكر مجيد سيفو

ينمو الشعري ويتشكل وينبني في نصوص القمر البعيد من حريتي، للشاعر لقمان محمود في تعقبّ الأثر الاولي للمادة الكونية الحياتية التي تترسخ في لعبة انعكاسية يتوازن فيها الجذب والانجذاب وهي ترادف الذات في الذات الأخرى وذوبانها الحميمي بضوء الفكر والتخييل.
حتى تجسيد العلاقة الثنائية هذه وتجسيدها الكهرومغناطيسي الشعري في مرآة متناهية الذرات في الطاقة الاضائية للكلمة، إذ يستدعي الشاعر علامات التوحّد والريبة معاً في المجال الشعري الكوني الذي يدور في فلكه الشاعر الرائي الذي يكتشف في كل قوس من اقواس الكتابة ملاذا لاستنبات الروح والجسد فيها، يجد حجم المساحة والمادة والكتلة بين طاقة الروح وافتراضات الجسد المقيم فيها وبالعكس، إذ يتحول الشعر إلى حلم قرائن يتبادلها محرار التأثير الانفعالي ولحظات صيرورة الصورة الشعرية وبثها الفكري والوجداني بقدر استعداد الذات أو النفس المنفعلة بمراجعة فواعلها في النهل من مدارات المركز اللوغوس وتخصيبات الرؤيا وتحسس نبض المفردة الشعرية في منعطفات مركز الجذب الرؤيوي حول مدارات يرتكز عليها الشعري بروح ادبية عالية.
يقودنا الشاعر إلى مجرات تتبادل انساق الرؤى الكبيرة
في جاذبيتها الأسلوبية، جاذبية العلامة الغرائبية والواقعية معاً، وينقطع إلى بذرات المدار الشعري الجاذب والمحموم بقوى التجاذب والتنافر والتفاعل والمقابسة والتناسخ والتسارع إلى الانوجاد في مركز المدار وعالم النص وفواعله اللغوية وتأطير العلاقة مع الاخر في حلقة أو دائرة جذب واحدة والتي يرمز لها بـ الاسم الموسوم «دلشا» التي هي حياته كلها في هذا الكتاب الشعري النوعي في مواقعة الحكاية الشعرية وتموضع الذات الشاعرة في بؤرتها النصيّة:
«لقد بكيتُ كثيراً/ لكنّ دموعي الان يابسة/ وقلبي عصفور يعلو أكثر منك/ واكثر من حقيقة الشجرة/ لا أجامل فيك المستحيل/ بل اجامل حياتي المقيدّة/ ساعديني/ ساعديني دلشا كي أتحرر منك ومني/ ومن أشواقي المحاربة..».
يغامر الشاعر في كشوفاته الشعرية واكتشافاته في الامتدادات الاسلوبية التي تدفع المؤثر الفكري والفلسفي في تصوراته إلى عقد علاقة ايقونية بين الرؤية البصرية والرؤيا الحلمية في تعيين جاذبية المفردة الحامل لشعرية الصورة والحلم معاً، ويبني وفق هذا التصور بلاغة الإشباع النفسي والإعلان بصيغة نبرية رمزية تفترض عالما متخيلا من عوالم البرزخ الذاتي الصوري والأركيولوجي والانطولوجي بين موجات وجودية وسوريالية يهدر بها المتخيل النصي الضاج بانعكاسات العقل الشعري الشخصي:
«واقفٌ بأعوامي الأخيرة/ أسوّر الأغنيات كبستاني/ لأمرأة من الفاكهة/ لكن الهواء مرَّ أخيرا مرَّ كسؤال ازرق/ فصرتُ أمشي…أمشي/ وما زلتُ أمشي على الماء/ ولم أتعلم الغرق.. الذي لم يتعلم الغرق».
تتقاذف الذات رؤى الآخر في منطقتين من الحياة، في الظّل الذي يزوغ في بالمكان لانتباهة حياته الداخلية، حياة الشاعر وحياة الذات الرائية معاً رائية المكان والحياة بطولها وعرضها، والمنطقة الثانية الغرفة التي تسكن فيها القبلة التي تنام على جدار، الجدار الذي تتكئ عليه- دلشا- دائماً، يفترض الشاعر هنا الانوجاد في المؤثر البصري التشكيلي إضافة إلى المؤثر المعرفي الاتصالي الذي ينقطع إلى برزخ الشاعر الرائي، الشاعر الحالم «اليسوعي» الذي مشى فوق الماء، بالاشارة الى يسوع المسيح الذي مشى فوق الماء.. وتتبادل الإشارة اللفظية بين تموضعات الفكرة في مجرةّ الشعرية الضاجة بالرموز والاشارات الحاذقة التي تشتغل على مراكز الجذب الاشاري، والتمركز في قعر المجرة الشعرية: «هكذا أنت أيها الواقف، تدرِّب وقوفك على اصطياد ظّل لقامتِكَ فسهوتَ عن شجرة اصطادت المكان من ظلك، لتنتبه إلى دلشا وهي تعلم كلامك النعاس، كي تنام القبلة على الأرض…» تمثلت شعرية هذا النص برؤيا التركيب الأيقوني البصري منطلقا الشاعر من رؤية سوسيوشعرية بوصفها بنية دالة مركبة تنتج مكوّناً شعريا تتلاقح في مجرته الرؤى المتداخلة للخطاب الشعري في مبنى التداخل والتخارج والبوح واستدعاء الاخر «هذا الذي لم يتعلم الغرق/ مازال يقول:/ تزورني دلشا كلّ نوم/ لتسهر في احلامي / هي خرساء / وانا اعمى…».
يستعرض الشاعر ما يشبه بهجة الخسارة في تأثيث جوانية النص بمعامل المفارقة الشعرية في حركة تكاد تكون مركز التناسخ النصي داخل محيط النص وفي بؤره النصيّة وامتداداته الرؤيوية والدلالية ودوران العقل الشعري في الرؤى الشعرية التي يحاكيها بقوة التخييل وتأخذ الصور هنا تعاقدها وتآلفها ودورانها الغرائبي والعجائبي الذي يتسمّ بتمثيل عنصر المفارقة: «تكاسل الحبُّ كمجدٍ سكران/ في يأسه الأخير «مجد سكران»، إلى أن يفرْغ الشاعر مخزونه اللاشعور في معادل موضوعي ليقيم بنية تتعدد في منحنياتها التركيبية ويستدل منها على العنونة الرئيسية للديوان …»وسط ثرثرة خجولة/ في سهرٍ خجول يؤاخي الفاجع/ ويمتحن الذهول/ لكنني أُمهِّدُ كلَّ كذلك/ وما يزاحمه من عزلة/ متفكرا بالعدم/ كي ارى القمر، البعيد/ حريتي/ التي اساءت إلى طيشها/ في لمعان الابد» يستهدف الشاعر الفكرة الكلية لعلاقة الزمن والوجود في أكثر من نصّ وتستدل ذاكرته إلى كشوفات الماضي وقراءة المستقبل إذ يمارس لعبة الرؤيا البرهانية والعرفانية في سطوع الإشارة اللفظية وتناثر ذراتها الاشعاعية وسط عالم من البنى المتضادة، وتحيل الصورة الترائية الاتية إلى تثبيت نداء بذبذبة خافتة تارة وصارخة تارة أخرى لخلق كيان صوري لرسالة النص أو فكرة الشاعر المفترضة المبطنة، إلى أن ينتهي العقل الشعري من معترك صياغة الفكرة الشعرية أو شعرنة الرسالة بروح ملسوعة: «عودي ايتها الجريحة/ عودي، لتشلحي الحرب قليلا/ هيّأت لكل جرح شفتين من فمي/ عودي، قبل أن يتسرب حنيني أكثر/ جمَعتُ لكِ النجوم/ نجمةً…. نجمةً/ حتى وقعت عليَّ السماء/ غسلت الحرب/ بسلام اسود/ حتى اصبحت الرعشة بينها وبين السلّم…. حريق قلق».
تتبادل علاقات الغياب والحضور هنا في كشف المقموع والمسكوت عنه، ويكشف التحليل اللساني طبقات الغياب في افتراضها للغته الجارحة والنزوع نحو فكّ شفرة الناقص أو الراسب التحتي حسب دريدا وتتعاظم صيغة النداء في استدعاء المعني بهذه المكاشفة التي تؤول إلى هذا الشعر الذي هو الاتصال الجدير بالحياة، في هذه المغامرة بهذا التصريح الوجودي الحاد والتعالي عليه، وهو فعل الحرية المسفوحة فوق الكون وفيه بالذهاب إلى مجاهيل وسبر الابعاد المجهولة للذات الاخرى، هو هذا القبض العنيد بقوة الأيروس على المصير والاعتراف الشخصي بوجود الاخر في حياة الشعر والشاعر معاً: «عودي/ كي تقولي رغم هذه الحرب انا جميلة/ لأقول: لأنني أُحبكِ/ ع و د ي/ كي أُقبلَّ الوطن في قدميكِ….» يميل الشاعر إلى فتح مجرته الشعرية إلى الدخول في منعطفات عديدة يؤول بالأسلوب إلى كشف المستويات الدلالية عبر مشهديات متسلسلة تتخذ لها أبعاداً فيزيقية وميتافيزيقية، وترى قراءتنا لهذه المشهديات بنى نصوصية تقرأ بشكل مشاهد، في أبراز عوالم حياتية متعددة، منها عالم المكان الخفي «زنزانات في مساماتي/ تهتف للجسد: الله أبرتنا ايتها الدماء / وما من خيط سوى التراب دلشاستان» تبدو ظهورات العلامات النصيّة في هذه الصورة وكأنها حالة صمت، أو ما يسميه الناقد السوفيتي بوريس أوسبنسكي المشهد الصامت فالشاعر يمعن في تبني رؤى الاختلاف في النسيج النصي من تمثله الحثيث لحدود التفلسف في الوجود وتعدد الموجودات «زنزانات في مساماتي» والجسد الوجود الواحد الذي يجتمع على أعضائه في الزمان والمكان وتعاضدهما وتواصل الجسد بحرية أعضائه وحركتها واحيانا في انفلاتها وإمساكها الشديد بالحرية، والقبض على الذكريات في صورة الآخر وإعلان النازع الشعوري العارم في طموح اللغة وتشظّي محمولاتها الاشارية في شذرات إيحائية ناطقة بقوة العاطفة والفكر والتخييل: (اربعةٌ…..خمسةُ……ستةٌ/ وأنا جيشٌ من الانتظار/ لأشمَّ الذكريات / حرامٌ يا دلشاستانتي / حرامٌ….حرام … تمتد الشذرات بجماليات بناها الاشارية إلى مفاصل شعرية يتابع عقد حلقاتها الشاعر في تثوير الحادثة النصية، وتشي النصوص في لغتها الإيحائية إلى بلوّرات نصيّة تتداخل فيما بينها في الرؤى والتركيب اللفظي والفكرة فكرة الشاعر اللحوحة على استنبات الحرية ومتابعته للنظرة المتعالية على الزمان الموضوعي، لأنّ الأشياء في تحوّل وتغيرّ، لأننا لا نستطيع عبور النهر مرتين حسب هيراقليطس- لكنّ الشاعر هنا يغامر بفكرته الكلية ويعبر الاف المرات إلى الضفة الأخرى، فهو موجود في كل زمان شعرا وفكرا يقظا، يتابع حريته في امتحانها الحياتي الحادّ: «أتابع حياتي / أنا النهر الجريح / في الأرض الميتة / لي رسالة الماء / اينما ذهبتُ / لي اثري … تمردتُ على سلالتي / لأحقق حسرة المياه / قلت لسلالتي: حسرةُ المياه هي اليابسة … امتحان الحرية».
تنضوي نصوص الشاعر إلى نواة الداخل الشخصي وقيمة الحياة وتموقع الذات داخل بنية اللغة إلى ما اسماه جورج باتاي بـ «التجربة الباطنية» التي يعني فيها عدم الانفصال عن الآخر بل التواصل معه وهي تتوجه الى الحياة بكل صورها وفضاءاتها، وتسعى الذات الشاعرة هنا إلى استعادة ذكرياتها وتاثيث حضورها الدائم والتجلي الكبير وسط مشهد الانفصال عن الاخر، أن الشاعر يختار قاموسه اللفظي في مشهدية الحالة الكلية التي تتلبسها ذاته وأناه في بودقة الشعر الذي يتحول فيه إلى وجود أو معنى من معاني الوجود: كل ما أريده / ياسلالتي المياه: أن اموت وحيدا / ولا أكون معكم سجينا أبديا في البحر ..