ادب وفن

بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل بدر شاكر السياب حقائق غائبة أخرى ..3/ جاسم المطير

ليس من الصعب أن يعرف أحد السبب الرئيسي لظاهرة هجوم الشاعر بدر شاكر السياب على الحزب الشيوعي العراقي في مقالاته المعنونة (كنت شيوعياً) التي نشرتها أخيرا، مجموعة في كتاب، دار الجمل في ألمانيا و ربما هي مسرورة لذلك كأنها قدّمت للقراء كنزاً من ذهب أو أن هذه المقالات اكتشاف جديد تقدم لبدر شاكر السياب مزيدا من رفقة قراء جدد لشعره أو لتاريخ حياته . اعتقد أن كتابة تلك المقالات – في ذلك الزمان - لم تكن حاملة أي لغة نثرية من الأفكار والجمال والوجدان بما يعبر عن المكانة الشعرية التي احتلها بدر شاكر السياب لكن الحقيقة ان تلك المقالات مرت على اسماع القراء من دون جدوى إذ أنها لم تثر جدلا ولا سجالا، كما كان يتوقع السياب والمشجعين له . ظلت حتى اليوم لا ترد لها ذكرى في كتابات المسألة الخلافية بين الشعر الحر والشعر التقليدي . كما أن نصوص تلك المقالات لم تكن بأي حال من الأحوال من نصوص المعارك الأدبية ولا سجالا من السجالات السياسية ، بل كانت مجرد خواطر شخصية ليس فيها أي استقلال أو أي هدف يتعلق بالكرامة والأهداف الإنسانية. إنها نوع من أنواع النصوص المستبدة العاجزة عن إفهام القراء عما حدث في علاقة بدر شاكر السياب بالحزب الشيوعي العراقي. الشيء الوحيد المعبر عنه في تلك المقالات هو إظهار الشاعر السياب انه لا ينصاع للحزب الشيوعي ولم يستسلم لأفكاره وشعاراته رغم أن أحداً من الكتاب العراقيين والعرب لم يوجه له أي (اتهام ) لا خلال فترة انتمائه للحزب ولا بعد خروجه منه ، لا في حياته ولا بعد رحيله . ظنّ أن تلك المقالات تحمل معلومات خطيرة وأسرار اخطر عن الشيوعية وحزبها في العراق بعد أن كتبها بطريقة صحفية ساخنة .

في الحقيقة أن تلك المقالات كانت جزءا من (هوس) بعض الصحف العراقية التي ظهرت في تلك الفترة على الساحة السياسية العراقية – العربية تحركت أو حركت بغلو ضد بعض أخطاء الحزب الشيوعي الذي كان الحزب نفسه أول الكاشفين عنها والناقدين لها في محاولة جادة منه لإعادة صياغة سياسته من خلال كونفرس عام 1959 واجتماعات قيادته المركزية لتجاوز واقع سياسي صعب مرّ على بلادنا في أعقاب قيام ثورة 14 تموز التي أوجدت أشكالا متنوعة من الخلافات السياسية والصراعات المتزامنة مع مجموعة من مؤامرات عربية ودولية ضد تلك الثورة . وقد شخص الدكتور عبد الواحد لؤلؤة الثقافة العامة لبدر شاكر السياب بالقول : (كان السياب شاعرا موهبته أكثر من ثقافتـه، وتجربته في الحياة تكاد تتخطى في حجمها موهبته وثقـافته معـا.) كما جاء في كتاب منازل القمر - دراسات نقدية
الصادر عن دار رياض الريس للكتب و النشر- الطبعة الأولى- 1990 .

كذلك جاء بقلم نجيب المانع : (انه لم يكن معنيا بالثقافة على نحو ذهني وتأملي منظم. إذ كانت شذرات منها تكفي لاستحثاث وجدانه وعندما اقرأ لبعض النقاد، وخصوصا من هم خارج العراق، أن ثقافة السياب كانت غزيرة، استغرب لهذا الحكم فالسياب لم يكن مفكرا، بقدر ما كان شاعرا جيدا..

لم يكن الفكر يحتل عنده مكان الصدارة، إذ لم يشكل عن العالم رؤيا منهجية أو موقفا تأمليا خالصا يتناول الملامح الواعية من الوجود المنهج و النظام لديه حسيان فقط، وميدانهما شكل القصيدة. وهذا أمر لا يجب أن يكون عيبا فهناك شعراء عظام، ثقافتهم بسيطة وأبرزهم بطبيعة الحال شكسبير، الذي هو أكبر شعراء الإنسانية.

المقصود بالثقافة ليست القراءة وحدها و إنما التأمل المستند على القراءة و التجربة، ولم يكن السياب ذا أفكار كثيرة بل كان يمتلك حساسية شعرية فذة كانت قراءات السياب في الشعر بالدرجة الأولى وكان أسلوبه في الحديث انطباعيا وليس أسلوب المناظر الطويل النفس المستند إلى كشوفات وبناءات ذهنية..) أنظر مجلة الكلمة- العراق- السنة الثالثة عدد 2 كانون أول 1970 , رغم ان كلا من الدكتور عبد الواحد لؤلؤة ونجيب المانع لم يشيرا إلى أهمية الثقافة بالنسبة إلى كل شاعر فأن الدكتور إحسان عباس قال في كتابه اتجاهات الشعر العربي المعاصر عن أهمية الثقافة للشاعر : (وربما كان المزيد من الثقافة للشاعر الحديث أمرا ضروريا ينتصر به على الغنائية والسطحية فأن محض الموهبة وحده قليل الغنَاء. لقد مضى الزمن الذي كان يقول فيه ابن وكيع " الشاعر كالمغني الحاذق ولا يضره عدم معرفته للألحان " لأن الشاعر لم يعد مغنيا حاذقا بل أصبح مفكرا حاذقا بارعا يريد أن يعيش زمنه بوعي وبصيرة ). انظر كتاب الدكتور احسان عباس ، اتجاهات الشعر العربي المعاصر ، الكويت 1978 ، عالم المعرفة 2 صفحة 12 ..

كان بدر شاكر السياب عضوا في الحزب لفترة قصيرة في أيام وجوده طالبا بدار المعلمين العالية لكنه بذات الوقت كان يبحث بالأدب الأوربي الغربي ليستمد منه قدرته على البقاء شاعرا عصريا من خلال إلمامه باللغة الانكليزية وبالأدب الأجنبي.

في بداية الخمسينات أتاح الحزب الشيوعي في البصرة لأعضائه كما في مدن أخرى الاطلاع على بعض الكراريس والكتب لمؤلفين شيوعيين روس وعرب وعراقيين (لينين .. ستالين .. خالد بكداش .. يوسف سلملن يوسف ..) وقد سأل أحدهم بدرا عما إذا كان قد قرأ كراسا من تلك الكراسات فأجاب قائلا انه لم ولن يقرأ أي كتاب شيوعي لأنه منصرف إلى دراسة الأدب العربي والآداب الأوربية الأخرى وانه يمنح وقته للعناية باللغة العربية ونحوها وبيانها الشعري لنيل الحداثة والتجديد . في ظل تلك التحديات كتب الشاعر بدر شاكر السياب مقالاته واضعا نفسه من دون أن يدري داخل مشكلات سياسية اتسعت في تسييس المواقف الشعرية بعيدا عن الثقة والمصداقية خلال إلصاق التهم بالشيوعية وحزبها من دون أي تحليل سياسي نخبوي كفء كما هو معروف عن المقالات السيابية المذكورة منذ لحظة كتابتها الانفعالية حتى اليوم . كتبها الشاعر السياب ربما لثلاثة أسباب رغم ثقتي المطلقة أنه لم يكن في أي يوم من أيام حياته متصلا اتصالا متينا بالحزب الشيوعي او بالعقيدة الشيوعية او بالأدب الشيوعي.

السبب الأول : كان السياب يعتقد أن كونه عضواً في الحزب الشيوعي فأن على جميع الشيوعيين العراقيين مسئولية منحه هوية الريادة في الشعر الحر وأسبقيته على نازك الملائكة ربما ظن أن عدم منحه هذه الهوية كان بتوجيه من الحزب.

الثاني: كان يعتقد أن الحزب قصّر في نشر وترويج قصائده الحرة وانه – أي الحزب – كان منحازاً إلى شعراء عراقيين آخرين مثل عبد الوهاب البياتي .

السبب الثالث سأتحدث عنه في حلقة قادمة لأنه يتعلق بطموح الشاعر بدر شاكر السياب وشغله الشاغل في تلك الفترة للسفر إلى لندن أو باريس لإكمال دراسة الماجستير والدكتوراه .

من هنا ، من السببين الأول والثاني ولا بد من ذكر قضية تتعلق بتأسيس المكتب الدائم لحركة السلم في العراق التي وجد بدر شاكر السياب نفسه معزولا عن عضوية هذا المكتب الذي ضم ابرز الشخصيات السياسية والعلمية والثقافية في العراق منهم توفيق منير ولطفي بكر صدقي وعزيز شريف ونزيهة الدليمي وسافرة جميل حافظ مع 90 شخصية كان من بينهم الشعراء محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي وعلي جليل الوردي وعبد الله كوران ومحمد صالح بحر العلوم وناهدة سلام ولم يكن بينهم الشاعر بدر شاكر السياب لأنه كان يقف إلى جانب القوميين والناصريين المؤيدين لحركة عبد الوهاب الشواف في الموصل. جاءت هذه الأسماء من الشعراء لتثير غضبه وقد امتلأت تصوراته عن دورٍ سلبيٍ تجاهه من شعراء شيوعيين أو قريبين من الحزب الشيوعي العراقي بينما كان الخلاف حول (الشعر الحر) قد عمّ في جميع البلدان العربية ،خاصة في مصر. يقال أيضاً أن قرار تعيين عبد الوهاب البياتي عام 1959 مستشاراً ثقافيا في السفارة العراقية بموسكو زاد من غضب بدر شاكر السياب في تلك الفترة على الحزب الشيوعي وعلى حكومة عبد الكريم قاسم. حين سألت عبد الوهاب عن هذا الغضب أجابني انه لا يعرف شيئا عنه لكنه غير مستبعد.

كان الكثير من الباحثين والنقاد العرب غير الشيوعيين عند مقارنتهم بين ديوان عاشقة الليل وشظايا ورماد لنازك الملائكة أو أزهار ذابلة وأساطير لبدر شاكر السياب أو ملائكة وشياطين وأباريق مهشمة لعبد الوهاب البياتي لم يجدوا أية فروق في ناحية التجديد الشعري رغم وجود فوارق في الحس الشعري والتصور الذاتي بين الشعراء الثلاثة ولم يكن لهذا التقييم أي دور للحزب الشيوعي العراقي بالطبع كما لم يكن للانتماء الحزبي لبدر شاكر السياب أي دور قطعاً. وقد أكد لي كل من الصديقين الراحلين الدكتور صلاح خالص والشاعر عبد الوهاب البياتي هذه الحقيقة.

لا شك أن مقالات بدر شاكر السياب المتصلة بكلام انفعالي اتصالا شديدا بلا ذوق أدبي - نثري رغم قدرته الفائقة في النظم الشعري وبلا فهم لحقيقة موقف الحزب الشيوعي من أدبه وشعره مما يدل على أن بدرا لم يدرس تاريخ العقل الشيوعي .. كما برهن انه لم يدرس تفصيلات مواقف الروسي بليخانوف الأدبية والفنية المتميزة بالحرية والانطلاق . لذلك بإمكاني القول أن مقالات الشاعر السياب المنشورة في جريدة الحرية البغدادية لم يكن فيها لا مؤرخا أدبيا ولا كاتبا سياسيا ولا دارسا للشيوعية . بالتالي لم يكن مؤرخا لا في مجال الأدب ولا بالحياة السياسية العراقية ودور الحزب الشيوعي العراقي فيها. في الحقيقة أنني وجدت تلك المقالات أوقعت بدر شاكر السياب في متاهة سياسية معقدة لم يأخذ فيها بنصيحة الشاعر أبي نواس:

فقل لمن يدعي في العلم فلسفة حفظت شيئا وغابت عنك أشياء

لا أريد أن اترك هذا الموضوع يمر من دون التذكير بأن الحزب الشيوعي العراقي لم يقف ضد الشعر الحر ولا ضد تجديد الشعر العربي على يد بدر شاكر السياب وآخرين منهم عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة لكن إحدى الحقائق الغائبة انه انخدع بمواقف شعراء لبنانيين من العاملين في مجلتي "الآداب" و"شعر" وقد نشأتْ عن هذا الانخداع سنة أدبية في حياة بدر شاكر السياب أولها معاداة الحزب الشيوعي. اشعر الآن بالحاجة إلى أن اضرب مثلا حقيقيا عن تباين مواقف الشعراء العرب من التجديد الشعري. فقد كان عباس محمود العقاد أكثر المصريين نقدا للشعر الحر وكان موقفه صريحا وعنيفا في مؤتمر الشعر المنعقد عام 1959 في دمشق احتجاجا على شعراء عرب مجددين كان من بينهم الشاعر المصري احمد عبد المعطي حجازي حيث تنازع مع العقاد قبيل المؤتمر وأثناء انعقاده . لم يكن هناك أي رأي أو موقف غاضب من السياب على العقاد ومجموعته كما فعل مع الحزب الشيوعي أو مع عبد الوهاب البياتي الذي سبق وان وصفه بأنه شعوبي من سلالة هولاكو كما جاء ذلك برسالته إلى الدكتور سهيل إدريس بتاريخ 19 – 6 – 1954 .

يتردد دائما في ذهني قول مؤثر كلما جرى حديث عن شعر بدر شاكر السياب أو عن مركب شخصية هذا الشاعر الذي لا يشك أحد ، لا الآن ولا في ذلك الوقت، أنه شاعر فذ ، متميز ، قدير. القول المؤثر الذي اعنيه هو إجمالا كان صادرا من وجه أدبي مغمور أخفى نفسه بين نخيل مدينة أبي الخصيب. لم يواجه أزمة سياسية ولا أزمة اجتماعية ولا أزمة حزبية كما واجهها بدر شاكر السياب. كان مدرّساً قديراً في عمله وفي مضامين عمله ، كمدير ثانوية أبي الخصيب في ما بعد، وهو يحمل نوعاً من ثقافة متميزة لكنها لم تكن ذات مشروع يحمل صوتا هادفا . كان لا ينشر قصائده الكثيرة رغم إلحاح بدر عليه بضرورة النشر، خاصة أنه كان يعتبر شعر محمد علي إسماعيل مرموقا . كان هذا (السماعيل) كما يسميه بدر نفسه في رسائله إلى أصدقائه ببيروت ، متقلص النشاط الأدبي ومحدود. يفضل بقاء نظام حياته في الخلف ولا يذود عن مواقع أمامية أو ظاهرة يستحقها كناقد شعري وأدبي رغم أن رأي بدر في هذا الرجل كان بمنتهى الايجابية و انه مدح شعره أكثر من مرة في رسائله الموجهة من البصرة إلى صديقه الشاعر العراقي خالد الشواف في بغداد و إلى أصدقائه اللبنانيين (سهيل أدريس وأدونيس) وغيرهما .

هذا الرجل محمد علي إسماعيل، شديد السمرة، هادئ البال والحركة إلى حد يجب أن تتأهب عند اللقاء به لإخراجه من صمته. يتحدث ، أثناء تدريسنا نحن الطلاب، بلغة الدلالة المباشرة وبحدود المنهاج المخصص والمحدد. يستخدم النخلة في كل مثال وأظن انه كان يرى الأنهار الصغيرة المنتشرة بين مدينتي أبي الخصيب والعشار كحدود بين مشاكل مختلفة. كان محمد علي إسماعيل واحداً من شعراء كثــّر أنجبتهم مدينة أبي الخصيب وقراها العديدة القريبة من مركز المدينة والبعيدة عنها .كان إسماعيل زميلا للسياب في دار المعلمين العالية وكان أبوه علي إسماعيل شاعرا أيضا ينظم القريض والشعر الشعبي أيضاً.

الوحيد من شعراء أبي الخصيب الذي نال شهرة عراقية وعربية وبعد وفاته أصبح عالمي الشهرة هو بدر شاكر السياب. بينما ظل عدد من الشعراء الخصيبين مغمورين في نطاق البصرة منهم عبد اللطيف الدليسي وعبد الحافظ الخصيبي ومؤيد العبد الواحد وغيرهم. أما سعدي يوسف فقد نال هو الآخر منذ تسعينات القرن الماضي شهرة عربية – عالمية حين أصبح شعره نافورة تروي عطش الأدباء في العالم لمعرفة ما يجري في الغابة الفاشستية العراقية في ظل الحزب االواحد الحاكم والفرد الواحد الحاكم.

كما ظهر في نفس فترة أربعينات وخمسينات القرن الماضي، شاعر شعبي عرفته البصرة هو الشاعر عبد الدايم السياب وكان شيوعيا مدافعا بشعره عن الفقراء والبؤساء من العمال والفلاحين بلغة بسيطة مفهومة عند الجماهير البسيطة ومؤثرة عليهم مباشرة. ورغم صلة القرابة مع بدر شاكر السياب إلا أن العلاقة لم تكن متينة بينهما وأظن أن السبب يعود إلى أن الشعر الشعبي لم يكن يلقى هوىً في أسماع بدر شاكر السياب حسبما اخبرني ذات يوم الشاعر الخصيبي عبد الحسين الشهباز.

قال الشاعر محمد علي إسماعيل يوما أمام طلابه أن على الإنسان أن يقوم بعمل من أعمال الحرية، بعملٍ من أعمال الإرادة وعليه أن يتجاوز كل لحظات التنفيذ الأولى في التاريخ . بهذا القول كان يشيد بالصنيع التجديدي الحر الذي قام به بدر شاكر السياب.

المد بنظر محمد علي إسماعيل، حرية عفوية يمارسها جيكور وكل نهر في أبي الخصيب. الجزر، بنظره، إرادة إجبارية مفروضة على جميع انهار البصرة وأولها شط العرب حيث كان بدر شاكر السياب يطلّ، من خلال حركتي المد والجزر، على مشاكل الإنسان وأوصافه وآدابه وأولها الشعر الذي هو انعم ما في الأدب بصورة خاصة.

كان إسماعيل يسعى بكل صدق وإخلاص للدفاع عن الطفرة البيو – شعرية لدى بدر شاكر السياب. لذلك فأنا اعتقد انه من غير المحتمل أن تخلو أوراق الراحل محمد علي إسماعيل عن ذكرياته مع نشاط السياب وعن علاقته الشخصية المليئة بالرسائل المتبادلة بينهما، وهو الصديق الوحيد لبدر شاكر السياب الذي ظل على علاقة وطيدة مع السياب منذ الطفولة حتى يوم الرحيل . أعتقد أن إسماعيل كان أكثر أصدقاء السياب إحساساً بآلامه المتغلغلة داخل جسمه سواء في الأربعينات حيث (السل) أو في الخمسينات والستينات حيث المرض الذي قضى عليه.

صحيح أن بدر شاكر السياب كان يريد أن يعلو بسرعة فوق القديم من صنعة الشعر. يريد أن يؤدي (إرادته الحرة) في (الشعر الحر) بروح جديدة، وثابة، مثابرة، مبدعة. يمارس رغباته في فن الشعر على وفق منظور احكمه الزمن وليس على وفق إنسان العاطفة . ليس في هذا أي تعارض مع سياسة الحزب الشيوعي الثقافية كما كان قد قال بعضهم أن الحزب الشيوعي كان يضايقه وان المضايقة الأولى بدأت أثناء وجود بدر شاكر السياب في البيت الحزبي العراقي في الكويت أواخر عام 1952 وربما بداية عام 1953 وسوف أحاول في هذه السطور التطرق إلى بعض الحقائق المتعلقة بهذا الأمر لأنني كنت ،آنذاك، على علاقة بصلة اللجنة المحلية للحزب الشيوعي في البصرة والمراسلة مع البيت الحزبي في الكويت الموجود فيه عبد الوهاب طاهر وعباس سكران. وقد كانت الصلات الشهرية أو الأسبوعية أحيانا تتم بواسطتي. وكان ناصر عبود يعرف تفاصيل هذه الصلة حتى قيام ثورة 14 تموز عام 1958.

كلاهما، عبد الوهاب طاهر وعباس سكران، لا يملكان أي نشاط أدبي وكلاهما بعيدان عن قضايا الشعر والتجديد الشعري في تلك الفترة. عبد الوهاب معطاء بكل جهده ووقته بقضايا تنظيمية للشيوعيين العراقيين الهاربين إلى خارج العراق أو العائدين إليه. كما كان في تلك الفترة يشعر بفرح غامر إذا ما استطاع أن يقيم علاقة مع شيوعي عراقي في السعودية (مثلا العلاقة مع صالح الشايجي) الذي كان قياديا في إضراب عمال شركة (آرامكو) عام 1951 وعام 1952 أو مع شيوعي شاب (عبد الغني درويش في البحرين). أما عباس سكران فكان شابا بسيطا منتميا بصفة عضو خلية في البصرة اضطر للهروب إلى الكويت للعمل بأجور يومية في بعض مشاريع البناء بالكويت ورغم انه أصبح صحفيا في سبعينات القرن الماضي لكنه في الخمسينات كان بلا أي اهتمام بالشعر أو الأدب . ربما كان يملك بعض الوقت يكرسه لقراءة بعض الروايات. كان العامل الكادح عباس سكران مثل رفيقه عبد الوهاب طاهر يفخران بوجود الشاعر بدر شاكر السياب معهما في نفس غرفة البيت وكانا يثملان، اعتزازاً وسروراً، بتنفيذ توصيات الحزب الشيوعي في منظمة البصرة في الحفاظ على أمان الشاعر وصحته حين حل معهما بدر شاكر السياب للسكن المؤقت في بيتهما. كانا ،معا، يجهدان من اجل رعايته واحترامه باعتباره شاعراً عراقياً متميزاً. كانا يعملان من اجل أبعاد الأسى والألم المحيطين ببدر شاكر السياب. لذلك فأنني أؤكد ، عن معرفة دقيقة، بطلان أية حجة أو ادعاء بأن معاملة البيت الحزبي الشيوعي في الكويت وهو بيت صغير بأثاث متواضع وسجاد عتيق مليء برمال الصحراء . القول ، أو الادعاء، بأن أولى القطرات الشيوعية المعادية لبدر شاكر السياب قد نزلت عليه مذ كان في الكويت لفترة قصيرة أو أنها كانت سبباً من أسباب انسحابه من الحزب الشيوعي ليس صحيحا و سأتناول بعض التفاصيل في الصفحات القادمة.

لا بد أن أشير هنا إلى أنني لم اسمع منه أي إشارة لمثل هذا الموضوع حيث التقيت معه بعد عودته من الكويت مرتين على ما أتذكر. في الحقيقة أن بدرا كان في الفترة 1953 – 1954 سعيداً نوعا ما لسببين: الأول انه وجد ، لأول مرة، من يبحث عنه ليوظفه في مديرية الأموال المستوردة التي كان مديرها العام ناظم الزهاوي وقد توظف فيها قبله شيوعيون وتقدميون وربما يستطيع المناضل الشاعر الفريد سمعان أن يزوّد القراء عن هذه الفترة الوظيفية في حياة بدر. وقد أخبرني عبد الوهاب البياتي أن بدر شاكر السياب لم يكن شيوعيا في هذه الفترة لأنه – أي عبد الوهاب - يعتقد أن بدراً ترك الحزب الشيوعي بعد تخرجه من دار المعلمين العالية مباشرة.

أما السبب الثاني لسعادة بدر فلأنه أكمل عدة مشروعات شعرية في مقدمتها كتابة ( أنشودة المطر) رغم حساسية نظرته في تلك الفترة إلى الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي اخبرني في إحدى جلساتنا بعمان - الأردن عام 1996 أن بدر شاكر السياب كان يعتقد أن الحزب الشيوعي العراقي عام 1954 كان يقربني منه ويبعده عنه بينما هو نفسه كان قد ابعد نفسه ليس فقط عن الحزب الشيوعي بل حتى انه امتنع في بداية حزيران عام 1954 من التوقيع على عريضة الأدباء العراقيين لتأييد الجبهة الوطنية التي استعدت لخوض الانتخابات البرلمانية التي جرت في حزيران عام 1954 حيث فاز 11 من مرشحيها مما جعل نوري السعيد يقدم بعصبية على حل البرلمان بعد ساعة واحدة من افتتاحه . وقد أعلن بدر أن السبب الرئيسي لرفضه التوقيع على هذه العريضة هو أنها لم تتطرق إلى (القضية الفلسطينية) وقد كانت هذه مادة من مواده مضافة إلى سلسلة أخرى من الظنون والأفكار التي دفعته بتحريض من الشاعر كاظم جواد والدكتور سهيل إدريس لإقامة دعوى قضائية عرفت في حينها بأنها ( دعوى السياب ضد البياتي) لمغادرة سفينة الشيوعية إلى الأبد خاصة بعد كتابة مذكراته عام 1959 (كنت شيوعياً).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي آيار 2014