ادب وفن

مسرحية «الرماد» تفضح السائد لتغييره (1-2)/ د . عباس الجميلي

شاهدت ليومين متتاليين مسرحية الرماد تأليف وإخراج المبدع حازم عبد المجيد التدريسي في قسم الفنون المسرحية وهو القسم المستمر بالعطاء رغم معوقات ذاتية وموضوعية تمر بها كلية الفنون الجميلة في البصرة هذه الأيام والتي نأمل أن تسوى في الأيام القادمة فرغم كل شيء مستمر قسم المسرح بتقديم نتاجات مسرحية رائعة تؤكد أهمية هذا القسم الرائد في إمكانياته الفنية المتميزة من أساتذة وطلاب مطبقين بين خمسة أقسام تضمها كلية الفنون الجميلة دون أن نبخس قدرات نشاط الأقسام الأربعة الأخرى والتي تنوعت عطاءاتها بين المَعارض والأفلام والحفلات الموسيقية الرائعة حقا
مسرحية الرماد واحدة من النتاجات المتميزة لقسم متميز حيث ناقشت مسألة قديمة وأسطورية تعود لعصور الإغريق من أسطورة اوديب او اوديبوس فهموم ومعاناة الإنسان ومشاكله تقترب من بعضها رغم اختلافات الثقافات في كل بقاع الأرض، فكيف ناقش المخرج هذه المسألة الأبدية والتي تعيش بين جوانحنا؟، الخطيئة من الخطأ والخطأ فعل بشري يحصل بقناعة وإصرار أو إهمال أو غفلة ومع كل ذلك يتحمل الفاعل تبعية خطيئته بالكامل بغض النظر عن النتائج لكن ما أسباب هذا الفعل ودوافعه وظروفه، حازم عبد المجيد تعامل مع الخطيئة بمنظار معاصر سحبها من فك الإله وانزلها الى الأرض كفعل بشري موجود بالسر والعلن ليتعامل معها تعاملا واقعيا صرفاً فهناك عائلة بثلاث شخصيات الزوج والزوجة وأخ الزوج المعوق وتحدث الخطيئة بين أخ الزوج المعوق والزوجة المحبطة وعبر حوارات معبرة بلغة مكثفة موحية فعلا أحيانا ومقطوعة عن التواصل أحيانا تحسبا وخوفا من تداعياتها أنقلتنا للخروج من رقعة فضاء المسرح الى آخر واسع ومعقد تختلط فيه الأوراق فالكل تدين وترفض والكل يساهم في بلورته على ارض الواقع ويمتلك روح المحاججة والتحدي والإصرار على فعل الخطيئة والدفاع عن الفعل المميت ليتحول الاستثناء إلى قاعدة والعكس صحيح وهذا خطر مميت قاتل نتائجه غير محسوبة كل هذا ساهم أو أدى إلى اختطاف عائلة تبدو في الشكل مستقرة إلا أن دواخلها مهيأة تماما لفعل الخطأ والغوص بأدرانه كحالة ضياع كونه نتيجة لواقع معروف ومن هنا كان على المخرج والمؤلف ان يجد ما هو مقنع ليوسع قاعدة النقاش سواء كان محقا او مرفوضا. الحوارات بين الزوجة وزوجها العقيم تتطور بسرعة لنمسك خيط الممهدات للخطيئة التي ستحل بهما لنسمع هذا الحوار الندي بينهما:
الزوج: وددت لو كان كذبا... صرخت بوجه الطبيب "كذب" رميت بل حطمت كل شيء حولي "كذب"... وددت لو سمعت صوتك يقول لي ... "كذب" وددت لو كان الموت رحيما وخطفني حتى لا أرى الكذب بين عينيك.
الزوجة: أنت شيطان ولن أسامحك
الزوج: وأنت ابنته ولن أعاقبك..... بل سأبحث عن الحقيقة.
الزوج إذن والزوجة في دواخلهما يعرفان بعضهما وما يظنه بالأخر لذلك تتطور الخلافات بوعي كامل وبإصرار وممهد له كنص وحدث والفعل ينتج من خلال وضع نفسي قائم فعلا وبالتالي نجد الزوج مصدوماً مما يعرفه عن فعل خطيئة الزوجة وبردودها الانتقامية هو مصدوم ويبدو أيضا مستسلم مع ضعف مقاومته.
الزوج: ما عادت اللحظات تتطابق مع من شاهدها وما عادت القلوب تذاب بكذا كلماتها.. قد رميتي قلبي كنفاية داس عليها مداسك... بكل لمسة سمحتي فيها لذاك الغريب ان يدنس وطني... ما عدت اعرف لمن انتمي... الأرض التي اسكنها لم تعد وطنا فهي مباحة لكل غريب. انتهى الحوار. هنا حازم عبد المجيد وسع دائرة فلسفته نقل الخطيئة من الخاص الى العام ليسقط خصوصيتها الى وضع عام شاذ نعيشها ففعل الخطية وهذا ما قصده المؤلف أوسع من خطيئة زوجه هو فعل يسرق وطنه وأرضه فهما الأكبر والأوسع والأعز فما هي أسباب هذا الفقدان ومن هو السارق والمسروق ولماذا؟ كم من المناضلين والمعارضين للنظام السابق فقدوا بيوتهم وأطفالهم وزوجاتهم دفاعا عن أرضهم وعن شعبهم وهم في الحقيقة ضحايا مستمرة للعذاب ومصدومين من النتائج، فخطيئة الاحتلال وشراء الذمم حاضرة في ذهن المخرج المؤلف وكم من التضحيات قدمناها ولازلنا قربانا لجريمة الاحتلال فما هي أسباب فعل الاحتلال فمنهم من وجد فيه المنقذ ومنهم من حاربه وبقوة ففعل الخطيئة بالنسبة للوطن والبيت الخاص للعائلة والزوجة تدافع عن خطيئتها بقوة وكأنها تقابل المدافعين عن الاحتلال والزوج الضائع المقصر ضائع مصدوم بلا فعل ربما من هول الفعل او استسلام اما الزوجة فنجدها تدافع فهل أقنعت المشاهد وهل استطاع المؤلف المخرج تبرير فعل الخطيئة كموضوع آخر بعيد عن إيهام المسرح الى هم جماعي؟.
ما أراد المؤلف المخرج من هذه الحوارات الجريئة في مسرحنا بعد التغيير هل أن يطالبنا كبشر عاش الازدواجية بكل شيء وهو يريد كشف الأوراق لكل الخطايا بلا تردد اعتقد ذلك فثقافة الهمس أتعبتنا لنقول فالكل خاسر فماذا ننتظر حكاية الخطيئة ما هي الا مدخل لمحاججة تاريخية لسيل من ملفات السكوت المدمر أي تعالوا نتكاشف فقد مللنا والخسران كبير، فنيا للزوج عالمه وللزوجة عالمها وللمعوق تبريراته هو أخ الزوج المحتضن في بيت يؤويه ولكن رده كان خيانة قد تفسر على قول "اتق شر من أحسنت إليه " أبدا المعوق لديه تساؤلات لنسمعها فهو لا يمثل نفسه بالتأكيد هو شريحة عذبها الواقع وأقعدها تتسول العطف هو ايضا صرخة أطلقها بخطيئته أراد ان يصل الى أجوبة ينتظرها نحن هنا لا نبرر الخطيئة مطلقا ولكن تحولت الخطيئة إلى معول هدم كل شيء أليس الفساد خطيئة أليس التهميش خطيئة هل الوطن يتقسم لناس درجة أولى وثانية وثالثة، الوطن للجميع وليصرخ المظلوم والمهمش فلا شيء نخسره. لنسمع حوار هذه الموجة القاسية بين من ينتهك حرمات البيت الوطن وماذا يقول الزوج : لم وطني
الأخ: لم يعد وطنك ولماذا تفترض انه ليس وطني بل وطنك... من أنت حتى تجزئ الوطن إلى أجزاء
الزوج: ومن أنت حتى تفترش الأرض بطعمك .... حتى بات الوطن مساحة بل كومة نفايات تختار منها ما ينفعك...
الأخ: ارحل خارجه...
الزوج: لم أنت داخله.. وانا المنفي... هو ملكي ... بيتي... سريري... زوجتي... أطفالي ... وطني ...
الأخ: كلها مسميات ما عاد شيء ملكا لأحد...
الزوج: لم زوجتي
هذه المواجهة تنقلنا لأطروحات المواطن والتقسيم واختلاط الأوراق ومن هو صاحب الرأي السديد والمدعي في عالمنا ومجتمعنا هذا حوار مرفوض رغم انه يحمل رؤى وتصورات المفروض أن تسمع فالزوجة وطن وبيت والأخ المعوق يسميها مسميات ما عادت تعني شيئاً ولكن كيف أو بالأحرى من يتحمل الجريمة ليس لواحد بل لملايين تحمل الخطيئة وتستسيغها وملايين أكثر ترفضها ولكنها تتبرأ من مناقشتها والإقرار بحقيقتها ومابين الاثنين هو وما حل بنا اليوم هو الإصرار بعينه وتجاهل الآراء والتهميش المتعمد ولكن لنسأل السؤال المهم والنتيجة الى أين سنصل ؟ الوطن يُسلب والناس تُضطهَد وشراء الذمم على قدم وساق و ناس آخرون متنعمون ليس لهم هم غير العيش الرغيد والأكثرية مظلومة نتيجتهم العوق والضياع وفعل الخطيئة والمفخخات والله أنها معادلة ستغرق الزوج والزوجة والأطفال الم تكن الخطيئة مفخخة هل يحق للضيف ان ينتهك حرمة البيت الذي آواه رغم انه المعوق فهو اقل منا ضررا فليس لديه اكثر منا ليخسره لكنا سنخسر البيت بأكمله فهو كالعدوى الخطرة انه مرض يجب مكافحته.التطهير الروحي الذي أراده المؤلف والمخرج المبدع حازم يشمل الكثيرين من المهيئين لفعل الخطيئة لأنهم تركوا بلا ثقافة وطنية أصيلة فهم استهلاكيون في كل شيء هم بلا قيم، ألم يتربوا تحت ظل الحزب القائد الذي انشغل بمحاربة الناس بأرزاقهم وطموحهم فحولهم لبيادق شطرنج وطغاة وبلا حساب فاستباحوا واستسهلوا اختراق المقدس جراء سياسات الخطيئة لما قبل 2003 حيث جُوع الناس وقضي على عفة عقولهم قبل أياديهم لتتغير مفاهيم الشرف والعفة وتستساغ المحرمات فحلت الكارثة بنا جميعا فهم أصبحوا يقبلون بالشيطان هم فقط يريدون التغيير لمن قطع الألسن وسحق الأفواه الجائعة فجاء المحتل ليجد الطريق ممهداً، ان استثارة المشاهد من الفعل المسرحي المحدد هو ليس بعيدا عن تجربته فقد مربها فعلا مجموعة المشاهدين أنفسهم ولديهم تجارب وانفعالات متقاربة مع ما يشاهدونه بمعنى آخر ان الدراما لا تخلق بعض المحن والكروب الانفعالية الجديدة ،بل أنها تعيد الى الحياة توازنها او تجدد بعض المآسي والمحن القديمة ولكن في ظل ظروف مختلفة ومؤمنه اكثر أي أنها تفهم بوعي كونها مجرد مسرحية مأساوية، مسرحية الرماد من الوزن الثقيل تبقى رسالة مقنعة جدا فكما يقال " لا يصح إلا الصحيح حيث بقدر ما نريد حل مشاكلنا تدفعنا الدراما لنكتشف الحقائق المرة " جاء في كتاب سيكولوجية فنون الأداء لكليين ويلسون فيما يخص عمل الممثل أي أداءه هناك منحيان كل له تقنياته وسميا المنحى الخيالي او imaginative systemوالآخر Technical system أي كيفية عمل الممثل من الداخل للخارج او العكس والمنحى الاول يمثله ستانسلافسكي وستراسبيرج وهو الانشغال بالأفكار والدواخل من المشاعر الداخلية الصادقة معتمدا أصحابه على ماسميناه بالذاكرة الانفعالية emotional memory وكذلك يعتمد أصحابه تحليل الشخصية والحوار مع الذات اما الآخر فهو اتجاه عقلي خارجي ينعكس على فهم الجمهور والتواصل معه وهو الاقرب الى المدرسة الفرنسية حيث مناسبة للكلاسيكيات والأوبرا، عمليا في أداء الممثلين اعتمد المخرج كلا المدرستين ففي المنحى الخيالي نجده قد بذل جهدا استثنائيا في أداء ممثليه لقلة خبرتهم وتجاربهم "طلاب" فقد استطاع المخرج بقدرة عالية ان يغير السلوك الشخصي للممثلة عسل والذي نعرفه عنها لنراها شيئا آخر تماما امتلكت أداء مرموقاً ومقنعاً جدا فقد قدمت عسل او الزوجة أداء مدربة عليه بشكل دقيق استطاعت ان تقنع الجميع من الأساتذة كونها ممثلة مقنعة وهذا هو المطلوب فالقناعة والتوحد مع الشخصية للممثل وإحلالها بدل تجربتنا الشخصية المعتادة اي أنها قد أتقنت توظيف المنحى الخيالي وكذلك التقني الذي يعمل على أداء الجسم فكانت قد امتلكت سيطرة كبيرة على ادائها كزوجة تقع في ورطة الشرف والأخلاق وبالتالي الخطيئة المدمرة لكنها تبرر فعلتها والفعل هنا فعل مزدوج للممثل خطيئة تفعلها ودفاع تقدمه لتقنع المشاهد بما اقترفت ، هذان الاتجاهان عبر أداء الممثل ليس بالسهل أبدا وهما بحاجة الى قدرة ممثل صاحب تجربة وموهوب أصلا وقد تحقق ذلك بقدرة مخرج عمل في المنحيين المشار لهما سلفا وبتمكن.