ادب وفن

الشاعر كريم عبد في اضاءات إبداعية في لندن

طريق الشعب - لندن

نظمت مؤسسة الحوار الانساني في لندن أمسية للشاعر والكاتب كريم عبد وذلك يوم 14 أيار 2014، في قراءة لعدد من نصوصه الشعرية والنثرية، وقدمه الناقد عدنان حسين أحمد.
وأشار عدنان الى أن شاعر الأمسية معروف بحضوره في الوسط الثقافي العراقي سواء في الداخل أو المنافي التي عاش فيها باعماله الشعرية والقصصية والفكرية.
وأضاف أن من إبداعاته ثلاث مجموعات شعرية هي «نهدي الكلام واطروحة الندى، و» هدهد الشتاء والصيف»، وله أيضا أربع مجموعات شعرية وهي «الهواء يوشك على الوجوم و عزف عود بغدادي و ليالي السيد سلمان و وخرزة زرقاء».
ويذكر أن دار السياب بلندن ترجمت مجموعته «ليالي السيد سلمان» الى اللغة الانكليزية وقد قام بترجمتها الامريكي ايريك ونكل عام 2010.
ومن إصداراته الفكرية «الدولة غير المثقفة» و»الدولة المأزومة والعنف الثقافي».
وقد قرأ كريم عبد العديد من النصوص الشعرية والنثرية كتبها في محطات مختلفة من منفاه في بيروت وسوريا ولندن. وبعد انتهاء الندوة جرى حوار معه، حول تجربته في الكتابة وكيف حافظ على استقلاله الفكري رغم اضطهاد النظام السابق له مما أضطره الى هجرة العراق. وتناول أثر المنفى عليه، وكيف أغتنت تجربته مع التماس بالثقافات الأخرى وتجارب إنسانية مختلفة ومنها التجربة اللبنانية والمقاومة البطولية للإحتلال الاسرائيلي. وكيف وجد حريته في مدينة جميلة ومسالمة مثل لندن.
ومن النصوص التي قرأها:
نساء جميلات يخرجن من شقوق الأشجار بثياب بيضاء
ثكنةٌ تحيطها أشجار الصفصاف واليوكالبتوز، قطارات تدوي ودخان يعلو، يتراكض المسافرون ثم سرعان ما تهدأ المحطة فيتبدد المشهد والظلال والزمن .. يتبدد فتنكفيء الأشواك على طرفي السكة ..
تلك بداية حضارة المستعمرين وبدأت المدينة تحبو، المدينة تحكُّ ظهرها والأولاد يبتاعون دواء للبعوض وبعض الحلوى ..
الأناشيد في المدارس باردة كحيطان السجون. شوارع المدينة ضيقة والتظاهرات وحدها تصلح ثوباً للمدينة وهي تخرج لشوارع التاريخ ..
المدينة ظلال الثكنة.. البيوت هوامش المحطة، صيدلية واحدة وعلى مقربة منها عيادة لطبيب مفصول. الفلاحون يأتون كثيراً يحتشدون في باب العيادة رايات لشحوب الأيام، وبينما الدكتور يرفع نظاراته، الأقطاعي يعطش بشدة فيتراكض الأولاد حاملين قدوراً فارغةً.. يتراكضون باتجاه الثكنة بإنتظار بقايا القصعة بقايا طعام الجنود..
ومن شق في يوم من عام 1948 تحركت ناقلات الجنود بـ «إتجاه» فلسطين بينما توقف عدد من رجال الشرطة في باب المدرسة لإقتلاع أحد المعلمين، وضعوه في اللاند إلى جانب الطبيب المفصول محمود فريد. أحد الفلاحين مات على باب العيادة، المدينة تحك ظهرها وتفرك عينيها لترى جيداً: أصوات المتظاهرين المبحوحة تندلع .. ترتفع وتـهبط وترتفع وتندفع في مواجهة الريح والمطر والأيام..
ظهيرة الصيف في المدينة، كأن الظهيرة لا تنتهي، كأن الحر يحتل العراق !! الفلاحون يعودون إلى القرى بقليل من الدراهم تتبعهم رائحة الكباب، الجوع والخواء والحر والذباب والسجون .. والوحشة حول الثكنات، الدكاكين مغلقة والأولاد عادوا من المدارس متعبين. أحدهم توقف تحسس جيبه واتجه إلى طرف المدينة ثم عاد بدواء البعوض، عاد بلا حلوى ولا ذكريات، لم يجد أحداً في البيت: «أمك ذهبت إلى المخفر لقد اعتقلوا أباك» فعاد الولد راكضاً إلى المدرسة - لا يعرف لماذا - وجدها فارغة، رجع إلى البيت ونام خائفاً..
المدينة تتثائب.. تَحكُّ ظهرها وتسترخي للعتمة تتسرب في المساء.. الفوانيس وحدها تنصت لصرير الحشرات في البيوت الخاوية، تنصت لهواجس النساء ولهفتهن التي لا تنتهي، بينما الفحولة تتآكل في ثياب الرجال. الفحولة والهواجس المرتبكة اربكت الفوانيس ونهضت على صياح الديك تستقبل الصباح.. المدينة ما تزال تتلعثم تلوي عنقها وتعيده بلا جدوى.. الأحاديث تقترب وتبتعد عن موضوع يتخفى دائماً، الدنيا مرتبكة والأيام تتبدد كالهواجس والظنون..
المدينة نـهار الحمالين والشمس في المحطة تلدغ، المحطة رئة تلهث. المسافرون يأتون بحقائب معبأة بثياب وأمانٍ طفيفة. المدينة عباءة أمي .. على أطرافها تنتشر مزارات أئمة صغار، يجهلون أسماء الموتى وضغائن الزوار. نساء الجنوب الجميلات في حضرة الإمام يقتطعن جدائلهن حقداً على زمن يتدهور في رجل أو عائلة. نساء الجنوب الجميلات ماء حزين يضحك للشمس.. يخرجن من شقوق الأشجار بثياب بيضاء، وبثياب بيضاء يبتن إلى جوار الإمام هادئات، النوم فارزة ثم يأتي صياح الديك وضجيج الناس والقطارات...
الملك ينام مبكراً أو متأخراً لكنه يعتقد دائماً بأن المدينة تستيقظ نشيطة، لكن النساء تعرف أن تاج الملك من ذهب والذهب بارد بلا رائحة بينما في الطين الحر تنبض روح العصافير وتاريخ الأعشاب يعيدها إلى المعنى حتى عندما يقتلعونـها من الأرض. الطين الحر تأكله الساحرات ويبنون به بيوتاً وأساطير. حيطان البيوت معشبة حارة كقلوب الناس والذهب بارد ..
في العاصمة يتثاءب رئيس الوزراء وفي القرية يعطس الاقطاعي، يمد يده بين فخذيه ويحك، المدينة تحك ظهرها وتنصت للأولاد يتراكضون باتجاه الثكنة، لقد نهروهم هذه المرة، عادوا بالقدور فارغة، السجون فارغة أيضاً، فقد أعدموا بعضهم والبعض الآخر نفوا إلى قرى بعيدات، قرى خاويات على أطراف الحدود..
المدارس في البرد. الجرس يرن في قلوب الأطفال المرتعشة: لم يؤرخ أحد لذلك !! المعلمون يتناقصون، مدير المدرسة وحده يعرف لماذا؟! نوري السعيد يسافر إلى لندن والحمير تعود بالفلاحين إلى القرى، رائحة الشمس ما تزال في ثيابـهم الحزينة، سيصلون قبل نوري السعيد وينامون مجبرين وسط صرير الحشرات..
بعد عقود من السجون والقتل والرماد، حضارة المستعمرين تتسع، تتحول، القرى الخاويات على الحدود لم يعدن منافياً، لقد أصبحن ربايا للجنود والجنود يعودون قتلى أو معوقين. المدينة لم يعد بوسعها أن تتثاءب، لم يعد بوسعها أن تحك ظهرها. القطارات بعرباتـها الرمادية الثقيلة تسحق على قلب الوطن مسرعة باتجاه الحرب. لم نعد بحاجة إلى حـمير. الخراب يعلو لم نعد بحاجة إلى ذكريات. الدكتور المفصول مات من الغم والمدارس ما زالت باردة. بغداد اكتشفت أن لها قلباً فاسداً أسمه «قصر النهاية» أو «القصر الجمهوري». الأولاد لم يعودوا يتحدثون، الجنود يعودون قتلى أو غائبين، حفار القبور يعرف ذلك. الأقطاعي لفته مدارات (الحضارة) واخرجته صاحب عقارات أو ضابط مخابرات، وما زال يعطس ولكن بـهدوء.. بـهدوء كي لا يوقظ المقاولين أو القتلى، فالحرب بداية جديدة، بداية باتجاه المقابر..