ادب وفن

تعدد الرؤى الشعرية «القمر البعيد من حريتي» انموذجا (2-2) / شاكر مجيد سيفو

يخرج الشاعر إلى رؤية الحياة في وثوقيتها ومرجعية الأشياء فيها وحتى الاصوات، إلى تداعيات الإشارة اللغوية وكشف الدال عبر المدلول في توقد المخيال الشخصي وسحريته المفتوحة، بقدر تلبس اللغة لحظة التكوين والعودة إلى الذاكرة وتشكل الرؤى فيها ومتاهة الخيال مقابل انتعاش الذاكرة الشخصية للذات الشاعرة، وتتجلى في هذه المتاهة اسئلة المعنى وأنساق الحلم وأطياف المكان والزمان والألم ونزعة النداء والاستدعاء الدلالي، أي تحرير الوجع من سكونيته إلى تمرده ومرجعيته الجوهرية في ارتباطه الوجودي بكيان الشاعر واقامته على الأرض وتحديه للموت في مشهد فجائعي: محتشدا بالموت / أصعد سلالم الغيبوبة / لأخبر أمي / كي لا تنتظر سنابلها : أمي لا تنتظري / فحنطتك ضدك / لكني محتشد بالموت …
إلى أن يختم نصه السردي هذا بهذه الأيقونة الشعرية الرائعة: ناديت بأعلى صوتي: أمي المطر ينزل بالمظلات والمظلة التي لم تفتح / ستكون النقطة التي أنتظرها … «سلالم لصعود الموتى» .. يتمثل الشاعر امتدادات النص السردي في تناوب الحلم والأسطورة والتاريخ واستبطان طوبوغرافية الحدث النصي في الشخوص التي يتراكب بها الفاعل اللغوي المتأمل عبر رؤى الذات الشاعرة التي تسرد بقواها الأيروسية كل التأملات والمواقف الفكرية والحكائية، إذ يستطيل السرد في بناه، حين يوغل الشاعر في مشاهده الكابوسية وتدوين حركة التشكيل الميتافيزيقي، وكأنها /ولائم محرّمة/ حسب تعبير الشاعر أوكتافيو باث بقوله القصائد عبارة عن ولائم محرّمة .. ينقلها الشاعر في هذا النص إلى متاهة شعرية فيها الملفوظات الدلالية عبر التقابلات التركيبية والزمنية والسردية وفضاء الرؤيا والذاكرة والتاريخ والمكان الذي يتبين في صورته كأيقونة تحقق فضاء النص في شعريته الطافية والغاطسة معا، إذ ينفتح الفضاء الشعري على كل الأنساق والبنى الدلالية والصوتية والوظيفة الشعرية عبر التوتر الشديد بين قواه المتنافرة والمتعارضة والتي بوساطتها يلتقط الشاعر نقاط البنى العميقة للنص وتفجر المعاني فيه وتشكلاته: فبدل أن أرى نفسي كنت أرى أبي، فتذكرت أطفال طفولتي طفلا طفلا، حتى أني سمعت نفسي أردد أغنية الطفولة والخاصة برؤية الآباء، فرددت طفولتي حرفا،حرفا، على أبٍ يقلدُني في المرآة، فصرت أغني: أبي أسرِق الماء، لأكون نهراً، ثم اِلتفتٌّ حولي، لم أجد أمي، فصرتٌ أخبط يدي في المرآة، ثم رأسي، حتى ظننتُ أن جسمي أيادٍ لا تحصى، فصرتُ أخبط أخبط حتى سال مني ماء ُ كثيرُ ص27.
يحرص الشاعر على تعبئة النص بمنحنيات سينمية تتعدد فيها بنى التضاد برشاقة السرد الذي ينفتح على وحدات متعددة..
يدفع الشاعر بأوجه النصوص إلى الإيحاء والمشاكسة والانتقال بهذين المستويين إلى جوانية النصوص، حيث تتعدد المستويات التشاكلية التي يستمر في تعددها أنساقا شعرية يشتغل في تنويرها في الحياة ومن الحياة، أن كل شي لدى الشاعر يبدأ من الحياة حسب تعبير الناقد حاتم الصكر، وهذا ما ينطبق كليا على الشاعر لقمان محمود في نصوصه هذه وهذه السمة الغالبة هي ما تمنح للنص انفتاحه على الأجناس الفنية والأدبية الأخرى وتنافذها في فضائه الدلالي والبصري والنصي في تجليات البنى الشعرية العميقة فيه، أن شفرات الجهاز اللغوي مبتدعة بقوة التخييل، فالشاعر يمتلك هذه الخاصية بشساعة الرؤيا وتتمظهر هذه المتسعة في مجرة النص عبر تجليات بناه الشعرية الكثيفة في تحولاتها ومتواليتها الجوهرية الذهنية، بحيث يحيل النص كله إلى متن، أو متون تتجاور في علاقاتها الحسية والأدائية والتركيبية والدلالية:
تبقى الفراشة أُمية ً / حتى تتعلم قراءة النار / دون أن تحترق.. - جسارة السر في هذه المدونة ثمة بيان شعري ينحو منحى الإعلان في بناه اللفظية، من هنا أرى تطابق قول فيلسوف اللسان رولان بارت لايوجد لسان مكتوب دون اعلان فللغة هنا اعلان شديد التكثيف لغة أشتقت الكتابة لتكون لساناً: تذكرّ العصفور آثامه / وهو يعددّ / ثمار الشجرة/. تتعدد بنى التشكل النصي لتتعدد المعاني وتتفجر في مساحة الملفوظة وشعريتها التي يضخها الشاعر في شكل موجات كهرومغناطيسية شعرية في تبادل البنى الاستعارية، يتوجه الشاعر بخطابه الشعري بقوة اللغة وميكانزيم الانزياح فيها لينتج بنى بلاغية تحوّل الملفوظات إلى تركيبات بنيوية تتضاد في تشكلاتها الرؤيوية والدلالية والبصرية، فالشاعر هنا راءٍ من طراز معرفي وعرفاني حاذق يتشظى نصه في فاعلية الوظيفة الشعرية حتى على مستوى التجريد الذي ينبني أو يتمظهر في فاعلية حركة الجهاز اللغوي وميكانزيم الازاحة أو منظومة الأشارات المزاحة فيه: ما أتذكره أيها الليل :/ تنساه دائما- على طاولتي / ماأكتبه من نهار / تمحوه دائما- بنجومك./ فماذا بوسعي أيها الليل: الطاولة تنطقُ/ ومكتبتي تبكي كتاباً.. كتاباً.. ص35 سيرة الليل. هكذا يظل الشعر متفوقاً بعافية التخييل، ولأنهُ استعارة، وتخييل على التخييل «حسب تعبير الشاعر محمود درويش»، يتوغل الشاعر لقمان محمود في استجلاء شعرية النص وحفرياته بقوة المخيلة وأسئلة الحياة، وأسئلة الشعر المفتوحة، كأننا نقرأ سيرة شعرية كاملة لحياة الشاعر التي قد صنعها وأبتدعها بالتخييل الشديد الذي يصنع الأحداث، الحياة السيرة الحياة سيرة مروية بلسان مخبول مملوءة بالصخب والعنف وهي لا تعني شيئاً هذه الأبيات مستعارة من /ماكبث شكسبير/ ففي معترك هذا الوجود اللغز، لكنها في الوجود الشعري للشاعر لقمان محمود تساوي الدنيا كلها وهي مقابل دلشا كيان درامي كوني شعري ميتا جمالي حين يتماهى الشاعر مع لسانه المحتدم فهو وريث المكان الذات الشخصي الذي يتشظى ذوات وحكايات وشخصيات في نصوصه المشبعة بلغته المشهدية، هي المكان الحميمي وحياته الضاجة في كل نصوص الكتاب وبخاصة / قالت دلشا ومنها: /الحجلُ، ألم كردي متنقل / في القفص الصدري / لعظام كردستان ص39 / ومن نصه /أسرار الشتاء، بعض أسراري /أراقب الثلج/ لأحسّ بألمه وهو يذوب ص45 وتتجاور وتأتلف بنيات النصوص المتلاحقة في الديوان في بؤرها النصية بهذه المستويات الدلالية المفتوحة التي تُنبئ عنوناتها بحمولات دلالية مثخنة بالأنزياحات اللفظية والجمالية، ومن نصه الأثير الرائع /وطني دلشاستان/ نقتطف هذه الصورة المشبعة بالروح الأيروسية العميقة: /دلشا / كم أنا بحاجة إلى أن أضع رأسي على صدرك لأستنشق الحب من اعماقهِ. / كم أنا بحاجة إلى أن أضع رأسي على صدرك / لتنام فيّ لأرجع عاشقا كما كنت / كم أنا بحاجة إلى أن أضع رأسي على صدرك / لترفرف أعلام فرحي في وطني دلشاستان ..