كربلاء - طريق الشعب
ضيّفت كلية العلوم الإسلامية قسم اللغة العربية في جامعة كربلاء، مؤخرا الأديب "جاسم عاصي" للحديث عن تجربته في كتابة الرواية. وقد عبر من خلالها عن حرصه في عكس تجربته بكل بساطة، مبتدئاً من مجموعة مؤثرات أثرت حياته الأدبية. و قد قسّم محاضرته إلى ما يلي:
ــ المؤثرات الأولى.
ــ طبيعة القراءات.
ــ تحولات الكتابة الروائية.
في المحوّر الأول عكس أهم المؤثرات البيئية، خاصة انتسابه المبكر منذ الطفولة إلى الكتاتيب "الملالي" مبيّناً خصائص أولئك الخمسة من حيث الحس الإنساني، وغزارة ما كان يرفدون به صفحة عقلهم الفطري "الصفحة البيضاء" حيث يكتبون الجيّد والحسن من المعارف والتجارب الإنسانية منعكسة في طبيعة التعامل مع الصبيان، خاصة النساء "الملايات" منهم فقد تعلم منهنّ الحكي والروي وابتكار الحكاية وتنضيدها. كذلك تأثيرات العمل اليدوي منذ بواكير حياته. فقد تعلم منه طبيعة العلاقات بين العمال أنفسهم من جهة، وبين رب العمل والعمال من جهة أخرى، لاسيّما أن العمل كان متدرجاً من العمل اليدوي، أي إدارة الآلة باليد إلى الآلة الحديثة. وانتبه مبكراً إلى التحوّلات التي كانت تحدث أثناء العمل ، خاصة تأثير ثورة تموز عام 1958 وما رافقها بانتسابه إلى الحزب الشيوعي العراقي، الذي كان له خير مدرسة تعلم في صفوفها شتى الدروس الغنية بالتجربة. وتطرق أيضاً إلى عيشه بسبب الوظيفة في بيأت غنية كالصحراء وبيئة الأهوار، استمد من خلالها العبَر والحكمة والصبر على الشدائد ومقارعة الظلم، ووعي طبيعة حياة البسطاء من قاطني هذه البيأت خاصة عمال السكك وصيادي السمك والفلاحين وبسطاء الناس، لاسيّما طبيعة معتقداتهم التي نبهته مبكراً للإرث السومري. وقد تعمق هذا أكثر من خلال مراقبة ما يظهره انحسار المياه ، خاصة إيشان "كوت حفيظ" الذي كتب عنه رواية تحت عنوان "مستعمرة المياه".
أما المحوّر الثاني، فقد وضّح من خلاله؛ كيفية قراءته لكبار الأدباء ورموز كتّاب الرواية في العالم والعالم العربي كنجيب محفوظ وكتّاب الستينيات في مصر وسوريا كذلك قراءة أعمال كل من "دستويفسكي، غوغول، همنغواي، شتاينبك" وغيرهم قراءة عرضية، استمد من خلالها طبيعة التجربة في الكتابة وتحوّلاتها عندهم. كذلك تأثير أدب المهجر على تجربته الحسية. وما كتبه "أحمد أبو سعيد" من سلسلة ابتدأها منذ العصر الجاهلي وحتى عصرنا. لقد أفادته هذه السلسلة المعرفية ــ كما ذكر ــ في تطوير دربة البحث والنقد الأدبي. وبيّن تأثير أدب "نجيب محفوظ" في كل مراحله، خاصة متابعة كتابة روايته "أولاد حارتنا" وتطورها إلى "الحرافيش" واعتبر محفوظ رائداً في رصد تجربة المجتمع العربي ، خاصة في مصر.
أما في مجال محوره الأخير، تحولات الكتابة، فقد رصد برؤية نقدية تجربته في كتابة رواياته "مستعمرة المياه، المكعبات الحجرية ، ما قيل وما...، انزياح الحجاب ما بعد الغياب" والكيفية التي تحوّلت لديه الكتابة في هذه الروايات، معتمداً على قدراته الذاتية لاجتراح مسار الرواية وكيفية عكس المفاهيم الفكرية بأساليب جديدة، مستخدما ً شتى أنواع المعارف كالأساطير وبني التاريخ ، ورموزه. وقد أسطر بعض من الشخصيات التي صادفته في حياته المتنقلة من الصحراء إلى مسطحات المياه. واستفاد من تاريخها الغني في مجالات الحياة العملية. كما استفاد من ثقافته الأسطورية استخدام الأسطورية كقناع فني، عكس جمالية النص وعمقه الدلالي. ففي رواية "مستعمرة المياه" استطاع أن يؤسطر إيشان "كوت حفيظ" في عمق أهوار الجنوب، وعمل على أن يؤسس شخصيات أسطورية مثل "مردان، العلوية، وسامح" ومن خلالهم تمكّن من تأسيس حكايته الأسطورية ، مستفيداً من ملحمة "جلجامش". أما في رواية "المكعبات الحجرية" فقد عمل على أن لا يشكّل نماذجه من الشخصيات ضمن ميدان عملي، أي لقاءاتهم وحواراتهم، بل تركها مستقرة وتتحرك في ذاكرته ، وحيويتها تنبع من قوة تذكرها. ثم أن هذه الرواية لم تعتمد فصولاً، بقدر ما تواصلت بشكل نسق واحد. وشخصياتها لها حضور متميّز في واقع الراوي. وفي رواية "ما قيل وما..." فقد استفاد من أسطورة نبات اللفّاح الكنعاني ونبات "اليبروح" الذي ذكره "جيمس فريزر" والذي يتضمن تأثيراً مباشراً لكسر عُقر رحم المرأة. ملمّحاً كون كسر العقر يولّد ذرية تحمي القلعة من شر العابثين . مستفيداً من تاريخ "العلوية حميدة" المزحوم بالأساطير. وقد وظف النبات وطريقة بحثه ضمن بيئة الأهوار ، وأحدث انزياحاً على خصائص النباتين مع إبقاء خاصية التخصيب المركزية. في رواية "انزياح الحجاب ما بعد الغياب" استفاد من الأمكنة غير الموطوءة في مدينة كربلاء كالمدافن والمغتسلات، وطقوس التعميد الميثولوجية. وكانت الأمكنة المتكررة هي "مغتسل المخيّم، مدفن الوادي القديم، السجون الفردية والجماعية".
لقد استطاع وكما ذكر أن يُحقق توثيقاً لما يفكر فيه بخصوص التاريخ ، وخاصة تأريخ المكان . علما أن هذه الرواية قد فازت بجائزة مؤسسة ناجي النعمان في دورتها لعام 2006 وجائزة وزارة الثقافة لعام 2010
وأكد أيضا ً أنه أنجز ثلاث روايات هي "النزيل، الداخل والخارج، المستور والمحذور"، ثم قرأ بعضاً من مقاطع الرواية الثالثة، تلتها نقاشات جادّة واستفسارات أجاب عليها المحتفى به، بعدها قدمت عميدة الكلية شهادة تقديرية، مؤكدة على ضرورة تواصل المثقفين والأدباء مع الحرم الجامعي.