ادب وفن

الفنان قاسم الساعدي: العراق مشغل عظيم للحلم / حوار: مجيد إبراهيم خليل

من مدينة الثورة، مدينة الفقراء كما يحلو له أن يسميها الى سياحة طويلة في قصر النهاية وربوع كردستان ضمن جماعة الأنصار، الى أول معرض فني له في الزاب، مازالت ذاكرته تراه شاخصا زاهيا.

أشواط حياتية وإبداعية عديدة يمثلها الفنان المبدع قاسم الساعدي، وحوار ممتع معه.
سألناه أولا:

بداياتك الفنية، متى وأين؟

البداية كانت حين امتلكت أول قلم رصاص وأول كراسة رسم، كنت شغوفا برسم الوجوه واستنساخ كل ما تقع عليه يدي من صور.
وحين درسنا الرسم على يد الأستاذ الفنان شاكر حسن آل سعيد في متوسطة النظامية في بغداد، بداية الستينات، أتاح لنا فرصة تاريخية بزيارة المتحف الوطني للفن الحديث، حيث كانت تعرض لوحاته. في تلك الفترة أنجزت الكثير من البورتريتات النحتية المجسمة، إضافة إلى الكثير من الرسومات. المنعطف الأهم كان دخولي أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد.
كان معرضي الشخصي الأول 1973 على فضاء نادي التعارف في المنصور، كان تحية للذكرى الأربعين لتأسيس الحزب الشيوعي. أما عضويتي في جمعية الفنانين التشكيليين ببغداد 1972 ومشاركاتي في معارضها، كل ذلك وأنا لم أزل طالبا بعد.

متى تعرفت على الحزب؟، وكيف كان ذلك؟

في مدينة الفقراء: «الثورة»، كبرت الأسئلة ونضجت الإجابات، كومونة يسارية تفيض بحركتها الى الأحياء المجاورة، رفقة تعلمنا منها، ولا نزال: معنى الوطن، الحرية والإبداع.
تعرفت على وطني العراق كمشغل عظيم للحلم والعمل والتغيير، وأيضا بوصفه الجحيم الأرضي، بعد اختطافي واعتقالي في «قصر النهاية» حيث قضيت فيه زمنا كالأبدية. بعد ذلك عدنا والحزب أصدقاء. كبرت هذه الصداقة في المنفى، لكي أعود بعدها مقاتلا وفنانا في فصائل الأنصار الشيوعيين.

أنت النصير المقاتل في ذرى كردستان، ما مدى حضور التشكيل عند الرفيق المقاتل؟، وهل لديك موقف معين أو ذكرى خلال فترة الأنصار؟

لم يكن لدى الفنان التشكيلي، أو سواه، امتياز يذكر عن بقية الانصار سوى أداته الإبداعية التي يتحمل، غالبا أعباءها هو بالدرجة الاولى. فبرنامج العمل اليومي في المقرات أو المفارز المقاتلة هو ذاته للجميع. الرسم، كما القصيدة والأغنية هو فعل مضاد للموت الذي يكاد يكون رفيق الخطوات. هنالك أنجزت معرضي الشخصي الثاني في خيمة على نهر الزاب. وهنالك الكثير مما يمكن تذكره، من بين ذلك الحمية والتضامن الرفاقي والذي بدونه لم يكن لينجز المعرض.
هذا المعرض طرح أسئلة جادة كثيرة حول معنى الرسم، بل الفن بالنسبة لهؤلاء الرفاق وللمجموعة ولي أيضا، مثلا: ما الذي كانوا يتوقعونه مني كرسام، ما الذي انتظروه من لوحات؟ أهو تضامن رفاقي مع فعل الفنان، ولماذا؟ شراكة إبداعية؟ لماذا أيضا وبم كان سيهمهم ذلك؟
وبالنسبة لي كانت هنالك أسئلة كثيرة أيضا، منها ماهية علاقتي الفنية بالآخرين الذين أرسم من خلال وقتهم الجمعي؟ الرسم فعل ذاتي تماما، فأين هي حدود ذاتي عن ذواتهم؟ وما الذي علي القيام به، وهل على ضمير الفنان أن يتصالح مع ضمائر الآخرين وتطلعاتهم، و ما الذي يمكن للعمل الفني أن يوحيه ويحمله لهم؟ شراكة حياة؟ شراكة الحلم والمصير المشترك؟ أين يقع النجاح وما ثمن الإخفاق؟
ما المسافة الفاصلة بين الرسم والبندقية؟
افتتح المعرض وكنت تجد جمهورا خليطا، جله يحضر افتتاح معرض تشكيلي للمرة الأولى: مقاتلون ومقاتلات، مثقفون وقادة سياسيون، جنود متمردون ومهربون، أعتقد أنه كان المعرض التشكيلي الأول الذي أقيم خلال التجربة الأنصارية، ولربما الأول على مدى عمر الثورة المسلحة في كردستان العراق.
الحب والحرية، الأمل كان تيمة المعرض، الذي وهب «كلي كوماته: وادي الموت» جرعة حياة إضافية.
لليوم وبعد عشرات المعارض الشخصية والمشتركة، عبر ثلاث قارات ولم يزل طعم هذا المعرض ماثلا، ليس لي فقط، بل لكل الذين أسهموا جميعاً بإنجازه، ذلك كان معرضهم هم أيضا وبه أ يضا يفتخرون.
مثال آخر: حاجة الفنان لمواد الرسم معروفة، بدونها يستحيل العمل، وبالرغم من أني حملت معي كمية من المواد ودفترا للرسم، لكنها كانت على حافة النفاذ. كان الرفيق «أبو كريم» عامل البناء من مدينة الثورة، ملاك الرحمة والمنقذ. إذ كان يجلب لي موادا يكاد يكون الحلم بها أمرا مستحيلا: ورق وأقلام وأحبار، جلبها من أماكن كانت تبعد مئات الكيلومترات، وتحمل وزنها وثقلها، الجميع يعرف أن حمل المقاتل يقاس بعناية فائقة جدا، من ذلك لنا أن نقدر نبل المهمة ومشقتها ودلالاتها أيضا. أبو كريم كان إذا عاد من مهماته، يجيء، ليرى ما كنت أرسمه، يدقق بالتفاصيل، ولكي نبدأ حوارا ممتعا ورائعا عن الفن والرسم والسياسة والنضال، الخ.
رغم قسوة التجربة بكل جوانبها، لكن الأنصار كانوا يعشقون الرسم، الشعر، المسرح، الكتابة، الموسيقى والغناء. وكان بين صفوفهم الكثير من خيرة ما يفخر الوطن به من مبدعين ومبدعات.

كيف ترى دور الحزب في الساحة الثقافية العراقية؟

سؤال كبير جدا، ويحتاج الى دراسات موضوعية شجاعة، وبقدر ما يتيحه حيز الإجابة الآن، أقول إن الثقافة بمعناها الإنساني العميق تلتقي مع حلم عظيم بعالم يتمتع فيه الجميع بالخير والعدالة، الوفرة والجمال. الحرية هي الجذر العميق للقاء الثقافة والمثقف بالفكر الماركسي.
اللقاء يتيح للمثقف ما لا يعد من الأجنحة، كما يتيح للفكر ما لا يحد من الفضاء، لذلك كان الحزب: البيت الأكثر رحابة للفن والثقافة. وحينما كان الطغاة يهمون بحرق هذا البيت أو تخريبه، كانت الثقافة الوطنية هي من توضع على المذبح أولا وسيكون المبدع اليساري والشيوعي والديمقراطي على رأس قوائم الموت، التصفية، السجن، المنافي والاغتيال.
من خلال تجربتي ومعرفتي: لا أرى بأن الحزب قد استنفذ قدرة مبدعيه وإمكانياتهم الخلاقة في خضم عملية التغيير، ولم يحسب بشكل كاف، قدرة مثقفيه على الفعل الثوري، كما حسبتها السلطات القمعية المختلفة التي مرت على الحكم مثلا.
كانت هنالك: بيروقراطية وشللية تقرب من تشاء وتهمش من تشاء من دون حساب، لاعبة دور اله وصانعة أقدار، جراء ذلك نزف الحزب الكثير من دمه الثقافي.
الدفاع عن حرية الفكر والإبداع هو الوجه الآخر للدفاع عن الوطن وعن بقية الأمل في وجه اليأس الذي يراد ان يكون لنا قدرا.

في الذكرى 80 لميلاد الحزب، ماذا تود أن تقول في هذه المناسبة؟

هي مناسبة لنتحاسب على أنهار العرق والدم التي سالت عبر هذا الزمن، عن الحيوات المسلوبة وعن الشهداء، لنحسب خساراتنا، منافينا وانتصاراتنا، ننشط الأسئلة الجوهرية، ولا نخاف الإجابات الشجاعة. نحتاج الى إطلاق أكثر من حملة ضد اليأس والإحباط. إعادة رسم لخارطة طريق ومراجعة دائمة لها، أن نجند كل الطاقات لكي يكون الحزب: حزب تغيير ثوري، حزب سلطة، لا زاهدا فيها، رافعة للأمل والعمل الثقافي،