ادب وفن

اشراقة الأمل الجديد للقصيدة الشعبية المعاصرة / سفاح عبد الكريم

في بداية السبعينيات من القرن الماضي قرأته شاعراً واعداً وكان قبل هذا أو منذ اللقاء به وجدته اهلاً لمسؤولية الشعر والصداقة والانسانية والطيبة وحينما حظيت بموعده لمست ما كنت أرتجي واتوقع من زملائه المبدعين. كنت اتصفح ملامح قصائده من خلال متابعتي له.
فهو ضمن كوكبة كلها شعراء وبالاخص مدينته العمارة وقد آل على نفسه ان يقف شامخاً بقصائده واحلامه واعداً ما كان يصبو اليه منتقياً الفاظه ومكنوناته من بيئته وهي سر تكوينه وانطلاقته الشعرية وهو المتطلع نحو الفضاء الأوسع في الانتشار والوضوح والتأثير بين الشعراء الذين يشاطرهم إرواء المشهد الشعري العراقي ومنهم الشاعر عبدالسادة العلي وريسان الخزعلي وكاظم غيلان وكريم القزويني وخنجر الشامي وكاظم لاله وجبار الجويبراوي وعبدالحسين مجيد السمار وغالب الزبيدي ولميع وآخرون وما زال صوته الشعري واضحاً متفرداً متجهاً صوب الواقع صارخاً بما يحلو له بنواعي الامهات وسهر النواطير والصيادين والفلح والعمال.. وقد عاصر اجيال شتى وسياسات لن تقلب موازينه الاخلاقية وترفعه محافظاً على سلوكه وفطريته التي ترجمها شعراً.
و"ايوب العراقي في مذكراته" وأقصد به الشاعر عبدالكريم القصاب الذي ينهل من أصول الثقافة والمعرفة والتراث الخالد والاعراف الصحيحة يتوضأ بالندى المتساقط على اوراق اغصانه بهدوء ويعطيك ثمراً رائجاً من تدلياته في الحكمة والتنظير. ان الفعل المشاهد في قصائده جعله متميزاً من دون الخضوع او الركون الى نهج سابق بل تفرد واستقام وعرف منهجه واتجاه كتاباته وفحواها.
ينطلق من الواقع يخضع لمعطيات اوجدتها الحياة وسلكناها وتعودنا عليها في النطق والدلالة حيث تشكل معاً اصرار قصائده المعلنة الواضحة وهو يرسم الصورة الشعرية حسب ما يقصد بها من معنى يوصلها الى المتلقي بهيبتها. فهو ابن هذا الوطن المبتلى الذي أودع فيه امانته وحافظ عليها رغم كل المنغصات والمنعطفات:
" وحگ اسمك امانه بشاربي اشموعك
الثعالب ما تظل اتصول واتجول إبنياسينك
الشعاع إيغوص وسط الماي لاكن أبد ما يغرگ"
فلا عجب لمثل هكذا شاعر عملاق يمتلك مقومات الشعر وتؤهله الى الوقوف في الصف الاول معتمداً على صفاء سريرته وموقفه وانسانيته مؤسساً لمشروعه الابداعي وهو يلاحق تطلعات الجماهير المعدمة ويصدق معها بصدقه وتضحيته في رسم ملامح واهداف تجربته الشعرية صادقاً معها رافضاً كل عمل الطواغيت والجبابرة:
"متعجب ليش امسح حذائي ابعتبة السلطان
وأبوسن عتبة المسكين"
ان موقفه الشجاع في التصدي والتحدي أمسك زمام مواضيع قصائده منهجاً لآل الامام الحسين ابن علي عليه السلام.. في احترام المقدسات وأجد فيه الحصانة كلها متعففاً وباحترام يحث الخطى في مقبرة السلام بالقرب من ضريح والدته التي يكن لها كل الاحترام والانحناء والتي قال فيها:
"يا أول ضريح امشي عليه حافي
گلتي إوداعة الله او دنجت للگاع
مدري اشطاح من عيني او عميت إبساع"
فغنائية الحزن تلازمه وهو العارف والمتأكد من وضعه بعد ان تعلم من مدرسة الحياة واتقن فنون لعبتها باقتدار:
"تتعب لا تدليني العناگيد،
أنا خيال عنگودي الثريه.."
وقبل أن اصل الى متبقيات قصائده حيث وجدته متماسكاً في كل قصائده وبخطوط وبجذور متشابكة بقي كنخلة عراقية واقفة ينظر بصدق المعاناة مستهيناً بالاشياء اللامنطقية التي فرضتها السلطة بلا جدوى وصوتها المتعالي المختلف عن سلوكها:
"ابواق السلطان اتگول...
وطن واحد... شعب واحد...
لاكن اي إجنوبي او أي عراقي ما مسموح إيزور "العوجة"..
او لا يمتلك ابغداد.!"
ونزولاً عند رغبة القارئ الكريم لابد لي ان اشير الى جزء من الجوانب الفنية "موضوع البحث" التي ارتكزت عليها القصيدة الشعبية وهي الجدلية المستمرة للنهوض بالواقع وتحقق الطموح المرتجى من فعل القصيدة ومضمونها. وقد ساهم الشاعر القصاب في مشروعه هذا على المشاركة قبل متطلبات الشعر واغراضه واوزانه حفاضاً على هوية الأدب الشعبي الذي يحتضنه بكل تدبر واقتدار متبوءاً صدارته في استخدام مثل هكذا وزناً شعرياً:
"الشعر مهرة ضوه او ما كاظها إعنان
الشعر قانون ناسخ للقوانين
يظل شاعر السلطه ابغير عنوان..
ولي بيبان كل شعبي قوانين.."
ان المعطيات المعروفة لأسرار قصائده لا صبر لها على التأني والحضور دائماً.
"الناس اسرار... لو كل الدروب إگصار
ولو كلشي او رغم كلشي...
حاول تحب كل الناس... بس لا تعتمد عالناس"
والشاعر عبدالكريم القصاب قد لا تخلو صلب قصائده عن أزمة عاطفية كان يروم من خلالها استفزاز لكن دون جدوى.
خجله الفطري أوقع به لاستحيائه لأن ابن قرية تربى على قيم سماوية واجتماعية فقد تتراءى وتتغير وجوه حين حضور الحبيب أو الاطلالة عليه وهذا ما كان واضحاً في قصيدته التي يقول فيها:
"صار گلبي إبلحظه سعفه إو صارت إخدودي تبّن!
هذي أول مره أشوف الموت من شفت الفرح!
هسه آني او مدري وين!؟
مدري موجود ابمكاني.. مدري آني بلا مكان"
إن اصفرار وجه الشاعر يعني اخضرار قصائده وذلك بعمق الاحساس لاهمية القضية التي يبحث عنها وببراءته.
وحينما تجول في شوارع مدنه المتعبة في زمن الحصار والجبروت وغيره أزداد من تدفق مخيلته الشعرية وهو ينجو بصبر ايوب العراقي:
"نصف عاقل طلع يتصفح الشارع
شاف ظله إبلا رداء
دار ظهره او رجع للبيت ابحياء.!"
لقد أحييت فيها بصمة الأمل وايقظت فينا دواعي الرغبة والحداء والاستماع لك ايها الشاعر المتجدد وأنت تخط لنا ابداعاً نحتفي به واشهد لك بانك اعطيت للشعر حقه مبدعاً.