ادب وفن

بين الرواية والسينما / أكرم الخاطر

قد تبرر الحكمة الصينية القديمة "الصورة بألف كلمة"، تفوق فاعلية "الشريط" على فاعلية "الورق" أحيانا. وقد تبدو براعة القراءة المرئية الجمعية واضحة وهي "تنطح" بمؤثراتها البصرية والسمعية خريطة السرد وتتفوق على متن الحروف التي تتقهقر قبالة سحر "المتوالية الصورية" النابعة منها، والمتحررة من شرنقة النص.ووفق هذا التصور والانحياز "شبه المشروع" تكون العملية الترميمية "الأقلمة" قد نجحت فعلا بإبحارها في المناطق المنسية التي أهملها السرد. وأعادت حالة من الانبهار للنص العليل الذي بات أصلا " توتيا" للنص المرئي المنتصر ليس غير.
لكن الحكمة الصينية تختنق بباقة من الأفلام البارعة التي تجاوزت نصوصها. ولم تعد فاعلة إزاء الكثير من "الناطحات" الأدبية التي قهرت العدسات والتعبيرات الميكانيكية التي تفرضها آلات التصوير، وظلت فاعليتها الإبداعية أكبر من عدسات المخرجين وحيلهم.
ويبدو أن انهيار الحكمة الصينية السريع هذا سيحيلنا أيضا إلى تفكيك تيار "نصرة السينما"، الداعي الى غلبتها إزاء نكوص الرواية وتراجعها، وهو قول لا يخلو من سذاجة، وقد لا يصمد كثيرا أمام فهم تحولات النص الباطنية منها والظاهرة من جهة، والتحولات الانتقالية الدالة على تجاور الفنون وتمظهراتها العديدة.
ولكي نضبط صمامات التجاور والمتحولات المحسوسة والمتصورة، لا بد من فهم "نصوصيات" النص الواحد وتحولاته قبل وبعد مجاورة الرواية للسينما، ليكون توطئة مرنة تسبق دائرة النص المقروء والنص السينمائي.
* * *
تنتج مولدات النص صورا متعددة غير متشابهة إلا في علاقتها بالمرجع المتجسد وهو الكتاب، الذي تسبقه حتما صورة النص الباطنية في مخيال المؤلف. فهناك نص محسوس داخلي لم يدركه سوى المؤلف الذي أوجد صورة منه ـ صورة حاولت نقل غالبية سمات الصورة "الرحمية" الأولى، التي احتفظت بسريتها التامة وظلت قابعة في شرنقة الفكرة، رغم أن مناطق عديدة منها قد تفتتت وتحولت إلى حروف وكائنات من ورق.
ولكن الصورة الجديدة المنتجة ـ بفتح التاء ـ هي غير ثابتة أيضا. وتستطيع خلق صورة جديدة أخرى من داخل نسيج الحروف وطاقته السردية في طور التفاعل الحسي بينها وبين المتلقي الواحد.
وهذه الصورة الثالثة غير ثابتة أيضا ولا يمكن أن تنسخ نفسها داخل فاعلية القراءات الكثيرة التي ستتعرض إليها، ما يعني أن النص الواحد لم يحبس في تصور ثابت وتعقل ثابت. بل بات بصور عديدة ومختلفة لا تتشابه إلا في بنية مرجعيتها غير الثابتة أيضا. وهذا ما يثبت صحة التعريف السيميوطيقي العام للنص باعتباره " نسيجا من العلاقات التي تتبادل فيما بينها".
* * *
يستطيع النص المقروء أن يتحول إلى نص مرئي، أو إلى نص حكواتي، أو إلى نصوص أخرى عديدة....الخ، ولكل صورة من هذه التحولات شروط وأشكال وجمهور وحالات تفاعلية وحسية خاصة. أي أن التمثل الذهني سيتمظهر بمساحات مختلفة بين المؤلف والقارئ والمستمع والمشاهد طبقا للأجهزة التواصلية وفاعليتها. وسينتج من ذلك خلق نصوص متعددة من نص المؤلف المتسلل من النص الرحمي. وسنعثر حتما على نص مقروء وآخر مكتوب وآخر مرئي.
ويبدو أن هذا التوالد هو وظيفة تعنى بقابلية التجاور داخل خريطة النص من جهة وقدرة النص على إجراء "تحويلات" خارجية تنقله من مساحته الإبداعية الى مناطق إبداعية أخرى تنخفض فيها أو ترتفع قدرته المؤثرة على المتلقي من داخل النص المولد.
* * *
في السينما هناك نص منقول ونص سينمائي مستقل. وربما تعود بداية هذا التداخل "التحولاتي" بين النص المكتوب والنص المرئي إلى "ديفيد جريفث" الذي تسلل إلى عالم السينما حاملا قصة مولد أمه التي حولها إلى فيلم سينمائي في العام 1915، ذلك الفيلم الذي عد واحدا من بين أفضل مئة فيلم في العالم .
كما كتب الروائي المصري نجيب محفوظ نصوصا كثيرة للسينما ولم يحولها فيما بعد إلى نصوص مقروءة "روايات"، كونها لا تعدو سوى خرائط لصور وحوارات قصيرة غير قادرة على تكوين بؤر سردية لمشاريع روائية.
ولنتذكر تجربة "ألن روب غرييه" السينمائية، الذي كتب عشرات النصوص السينمائية، وكان لولعه بالنص السينمائي سبب في ابتعاده عن كتابة الرواية وعدم ترك بصمة مؤثرة فيها.
ورغم معارضة "ماركيز" لتحويل رواياته إلى أفلام سينمائية، إلا أنه وافق أخيرا على تحويل روايته "الحب في زمن الكوليرا" إلى فيلم سينمائي.
وبعد عروض عديدة قدمت إلى الروائي الألماني غونتر غراس لتحويل روايته الطبل الصفيح إلى فيلم، وافق أخيرا على تسللها إلى عالم السينما على يد المخرج شلوندروف.
وكم ظل همنغواي ساخطا ولم يشاهد الكثير من الأفلام التي استمدت نصوصها من رواياته. رغم أن بعض الأفلام تفوقت عليها وأكسبت رواياته شهرة فائقة.
والملاحظ أن كل هذه التحولات لم تلغ نص المؤلف أو تعني تراجعا أو نكوصا في الرواية، قدر ما أظهر حالة من التجاور والمقاربة والتفاعل بين الفنون لخلق تحولات إبداعية في بنية النص الرحمي الذي ظل متحولا في ذاته.
* * *
التحول من المقروء إلى المرئي ليس سهلا، فهناك أعمال أدبية متميزة ظلت عصية على عدسات الكاميرات. بينما احتفظت أعمال أدبية أخرى بثرائها رغم نجاح نصها السينمائي وبراعته. في حين هناك نصوص مقروءة ضعيفة أكسبها النص السينمائي شهرة وقيمة فنية. بينما رفض بعض الروائيين الإشارة الى أسمائهم في أفلام سينمائية استمدت نصوصها من رواياتهم.
ويظهر هذا الحشد من المفارقات استقلالية النص المقروء واختلافه عن النص المرئي، مثلما يظهر تجاورها وتفاعلها في تأسيس طور آخر قد يكون مبدعا وقد لا يكون.
كما أن رفض الكاتب لتحول نصه الى "سينمائي"، أو ولعه بالنص السينمائي واعتباره نصرا وتفوقا على السردية في النص المقروء يغدو تطرفا وخروجا عن واقعية التحولات وتناغمها في الخلق. فهناك روابط حسية بين ما تحمله الحروف وما تبثه الصورة. وإذا ما تفاعلت فستتحول قراءة نص المؤلف من قراءة فردانية إلى قراءة جمعية لنص مرئي ناتج عن المقروء ومفعلا له، بكسر وتشديد العين .
وفي مناخنا الثقافي تغدو مبررات التحول من المقروء إلى المرئي أكثر واقعية. فنحن "بصريون". يحرضنا الفيلم الذي نشاهده، ويحضنا على قراءة نصه المقروء. على عكس المجتمعات الغربية "القارئة" التي يأتي الفيلم في مرحلة لاحقة بعد نجاح النص المقروء وانتشار سطوته الإبداعية، ما يعني أن اللغة البصرية ما زالت تتسيدنا.
كما أن النص المقروء عندنا تسطع شهرته بفعل ما يكتب عنه وما يستمد منه وما يقدم له من إعلام ودعاية. وهو مقياس مقرون بنمطية اجتماعية وليست فكرية. ولذلك يتهافت الكثير على النص المقروء بعد تحويله الى مرئي أو التنويه عنه أو حصوله على ثناء وجوائز غالبا ما تأتي من الخارج دائما. على عكس ما يدور في بلدان أوروبية وآسيوية أيضا. ففي الصين مثلا تعد الأعمال الأدبية أهم من الأعمال السينمائية. والصينيون، وخاصة سكنة المناطق غير الصناعية يعنون بالقراءة كثيرا. ثم يقررون بعدها الذهاب الى السينما لمشاهدة ما قرؤوه وإجراء المقارنة?بينهما.
ويبدو أن الجمهور المتنوع هو المؤثر الأول والمتحكم في تعددية خلق النصوص المقروءة والمسموعة والمرئية. فللرواية جمهورها النخبوي. وللسينما جمهورها المتشعب في مشاربه ورؤاه. وهذا المؤثر سيدفع بالمزيد من الروايات إلى السينما والمسرح والتلفزيون مستقبلا.