ادب وفن

صورة المدينة في المتخيل السردي

جاسم عاصي

يضع محمد خضير في نصوصه صورة المدينة عبر منظورين:
الأول: متخيّل، يجري حسابه من خلال النظرة المستقبلية لما سوف يكون، ويتم ذلك بمزج الصورة الواقعية، والأخرى المتخيّلة. لاسيّما كون ما يحدث هو ضمن خراب المكان جرّاء الحرب. فالتخييل إنما ينطلق من حلم اليقظة، الممتزج بالتطلعات المعرفية.
والثاني: تجسيد لمكان موجود خارج منطقة المخيّال. أي في واقع الحال. حصرا ً مدينة البصرة. إن مرجعيته في هذا هو صورة بصرياثا، والزبير ــ عين الجمل ــ ، ونهر يوسف. وإن لم تظهر مثل هذه الأمكنة في نصوصه بشكل مباشر، إلا ّ أنها تجد لها دالات تشير إلى وجودها الممتزج مع المخيـّال السردي. ففي قصتي "الحكماء الثلاثة ورؤيا البرج" ثمة دخول إلى مدينة عانت من ويلات الحروب. لذا فالمبدأ الذي أبتنى عليه معمار الرؤيا، سواء في كشف معالم المدينة، أو تشييد البرج، تنطلق من خاصية الوافد أو الداخل المعرفي. بمعنى محاولة لسيادة الحكمة ــ العقل ــ ، إزاء غيابه، مما سبب حالة الخراب، سواء للإنسان أو المكان. إن هاتين القصتين، تطلبتها ظاهرة الحلم الذي يبني معمار المدن الفاضلة، بعيدا ً عن الاجتهاد العشوائي المخرِّب. ونعني بالحلم هنا الرؤية التي ينطوي عليها أبطال هاتين القصتين وسواهما من قصص "محمد خضير". وقد أتضح هذا في الكثير من أطروحات كتابيه "بصرياثا والحكاية الجديدة" حيث نجد أنها متوفرة في نصوصه. فرؤاه القصصية تنطلق من رؤيته الفنية للنص. أي ثمة موازنة يسير عليها النص.
في "الحكماء الثلاثة" يكون حضور الشخصيات هذه بدافع ما لحق بالمدينة جرّاء الحرب. أي أن وجودهم يتركز في وجود المنتظر العقلي، من بعد غياب العقل وسط النوايا المشعلة للحروب والاضطرابات، لذا فالقاص إنما يستدعي شخصيات الموروث ليحقق ثيمة فكرية، دون الإعلان عنها، بل أن النسق السردي يكشف عن حالة التمرئي المزدوجة، مابين رؤية الواقع بمنظور الآخر، ورؤية الوافد الحامل لمعاني الموروث المثيولوجي المركّز في وجود حكماء سومر. ولهذا لا يبتعد القاص عن طبيعة أسلوبه المتضمن المداورة والتكرار في عرض الصورة القصصية، أو المشهد الذي يجسّد من خلاله البنية الفكرية، وهو في أشد حالات الحرص على أن لا يفرّط ببلاغة السرد في عكس الأفكار. فالبنية الفكرية مجسّدة بوجود الشخصيات بما يحملونه من معان مجسدة لزمنهم والعابرة لزمن آخر:
"ظهر الحكماء الثلاثة في المدينة. السفراء الثلاثة ظهروا في المدينة أول النهار، وساروا في شوارعها".
إن التكرار هنا يفيد التوكيد أولا ً، ويكشف عن صورة أخرى لحضورهم من خلال عكس وظيفته المتركزة في ــ السفراء ــ . بمعنى ثمة وظيفة أُنيطت بهم في الكشف عن الصيرورة التي عليها المدينة. من هذا نرى أن حضور هؤلاء السفراء إنما هو أداء لمهمة ما بعد الحرب. فالوافد هنا بكل معارفه ورجاحة عقله له حضور أكيد، متمثلا ً كشاهد ومراقب ومؤثر. إن صورة الحكماء وهم يدخلون المدينة، يقابلها مشهد الحركة داخلها. وهي في مجملها حركة لآلة الحرب سواء كانت البشرية أو التكنولوجية. ورغم ذلك فإن النص يشير إلى اختلاط الحكماء بأهل المدينة. وهذا المشهد الموصوف قد جسّد الصورة الحقيقية والجالبة للتلقي باعتبارها صورة تمور بكل الصور المختلطة، يراها الحكماء ويعيشها الناس في المدينة على مدى الأزمان من بدء اندلاع الحرب. إن هؤلاء المبعوثين أو السفراء ــ كما نعتهم السارد ــ حددت وجودهم مهمة حصر ما يجري للمدينة، وهو طلب الآلهة في آشور. وحصرا ً لاستطلاع حال المدينة وهي تـُدَك بفعل الآلة الحربية. فالسارد يؤكد على:"أن أتراحسيس الواسع الحكمة عارفا ً بطرقات المدينة وحواريها وأسواقها.
إذ تكرر مروره بها".
إذا ً كانت الزيارة تفقدية، غير أنها دخلت في ما هو غير محسوب في رؤية الحكماء لها. فمثلا ً كان سنحاريب:
" قبل سبعة وعشرين قرنا ً قريباً من هذا المكان، وأشار بعصاه إلى انصباب ضوء أنيس من خرم شرفة خشبية مطلة على مسافة داخل السوق" يضاف إلى ذلك ما كان يراه الحكماء من صفة للمدينة، التي تمتعت بالهدوء قريبا ً من مصب البحر، فهي مدينة تدعى "باب سالمتي" أي "يأب السلامة". ثم يهتم بسرد مآثر المدينة، وما قدمته من سفر علمي وأدبي وفكري، عبر ذكر رموزها كالجاحظ وخالد بن يزيد المكدي القاص وراوي الحكايات، حتى يصل بسفره التأملي والمكاني إلى المعاصرين من الشعراء كالسياب مثلا ً. يبدو أن السِفر الذي اعتمده الراوي في النص، هو محاولة لاحتواء مكوّنات المدينة حاضرا ً وماضيا ً، راسما خطا ً يلوح في الأفق لمستقبلها. هذا السفر وطأ أكثر المناطق قوة في التاريخ، خاصة تاريخ الشعراء والمفكرين وحكماء جاءوا من أمصار حضارة وادي الرافدين. وقد تضمّن النص نصوصا ً شعرية مما يرفد ويحقق الرؤية. كما وأن نصفي اليوم، يعمل على تحريك المبنى الذي يعتمده الرواة المنوه عنهم، ذلك أن الليل من يفعـّل الحكاية والنهار من يؤجل سردها، أسوة بأزمنة كتاب الليالي، لياليها ونهاراتها. فالحكمة نفسها سواء من لدن "شهرزاد" أو من فم حكيم كـ "أتراحسيس"، أو سواه من الرواة والشعراء، الذين هم شهود متمرسون لما تشهده المدينة من خراب، يؤجل مشروعها الحضاري. فحين ينصرف الحكماء أو ضيوف المدينة، فأنهم لا يغادرون المكان، وإنما يبقون إما في الطابق العلوي أو الأسفل، أي في العلـّيات أو في العالم السفلي، حيث تشيع القداسة وتطغي حالة الاستثناء في التأمل والانبعاث. وهذا متأثر بما أتت عليه الملاحم والنصوص الأسطورية، في تقديس العلـّيات والأماكن السفلية من الأرض، باعتبارها مكامن الأموات ــ الأحياء في عالم الملكوت الأرضي. فالراوي يستدرك في هذا ليضع نفسه موضع المتبصر في الحراك التأملي الذي شهده الحكماء في المدينة، بأن يضع نفسه راويا ً لما ورد في النص ــ السِفر ــ ، بأن يذكر:" لم يقص أحد علي ّ هذه الحكاية، إذ كنت طرفا ً فيها، وجزءاً منها. فقد ورد "اسمي وعنواني ورقم هاتفي في مفكرة الشاعر يوسف الطحان. كنت مستلقيا ً على سريري في الفندق الصغير الواقع عند مفترق الأسواق الداخلية الذي أوي إليه في بعض ليالي الشتاء الكئيبة . عندما تعثرت كفاي بشيء تحت الوسادة.
كانت المفكرة الخضراء، وقد علقت بزوايا صفحاتها بقع دماء جافة".
هذه الإشارة قد أضافت ثيمة كاشفة لواقع المدينة. فإشارة متعلق الدم دليل على كشف المسكوت عنه في الواقع. والنص لم يكن ليقف عند هذه الظاهرة لذاتها، وإنما يستحضر أطياف الفكر والحكمة، لتكون المرايا بمثابة الصورة التي يرى فيها الواقع كذلك ذاته المخرّبة.
في قصة "رؤيا البرج" يتحدد المسرد عبر مكون الرؤيا، لاسيّما وأنها رؤيا من العلـّية كما أتت عليها قصة "الحكماء الثلاثة". فالعلـّية هنا تـُشيّد ويقام صرحها، في بناء البرج. بمعنى أن ثمة مسعى لإلغاء آثار الحرب من خلال المعرفة ونتاجها، على اعتبار أن تشييد البرج هو نتاج المعرفة العمرانية والهندسية التي تبني منطقها على أسس لا تقبل الخطأ. بل هي في جدل وديالكتيك مع الواقع، المحاط بمجموعة من المخربين، الذين لا يتركون سوى الدمار على الأشياء، وفي مركزها البناء نحو الأعالي. ولنر كيف استطاع النص الكشف عن هذه الثيمة التي هي رد جريء على منطق الحرب. فعبارة:
"من لي بلسان ينوب عني في سرد هذه الرؤيا؟".
إشارة إلى محتوى تكمن داخله صور معقدة، وربما تقع في باب المحذور. لكنها في مجملها، تقترب من الرؤية الشعبية التي تبحث من خلال قولها الإعانة. وفعلا ً يأتي الصوت:"هيهات ..! ما لك إلا ّ لسانه" فهيهات دليل قاطع يكشف صعوبة المسرد الآتي من المروية، والكلمة لحقت بها علامة التنقيط ــ علامة التعجب ــ ، وفيها من إشارة المستحيل إلى جانب الإندهاش من ضمور القدرة على البوح. غير إشارة.. ما لك إلا ّ لسانه.. إحالة إلى مرجعية فائقة الدقة. ففي المستهل هذا للنص ثمة أكثر من ضمير روي وسرد، كذلك أكثر من منحى معرفي، فمن العلمي متمثلاً بالمهندس الذي صمم البرج، وحفظ أسرار متاهته، هنالك "عشتار"، كونها آلهة قادرة على فك لغز العالم السفلي. وهنا يكون الأسفل ضاماً لمفتاح المعرفة بمسالك ومتاهة البرج. والإشارة ــ أهبط ــ دليل على الدفع باتجاه السفليات من المكامن، حيث تتحقق الرؤيا كما تحققت لأنكيدو، ومن ثم لجلجامش، عند خروج روح أنكيدو متمثلة لشخصه، حيث عرف جلجامش سر الحكاية فاستنبط الحكمة في الوجود. ونقصد بها البحث عن "عشبة الخلود" وما لحقها من متغيرات.
لعل البرج هنا دليل على وجود المدينة المرتقبة التي تـُشيدها حكمة العقل. لذا فمتابعة أخبار البرج، هي متابعة لإحياء صورة المدينة، عبر صرحها المشيـّد على أجساد الرعايا من أهلها، كما حدث في بابل. فالعمل الجاري لبناء البرج، هو متحقق آثاري أولياته مجموع الأسرى العائدين من أسرهم باعتبارهم آخر الوجبات. فهم يلمحون "مداخن عالية آجرّية، تتجاور على الضفة الشرقية، تنفث الدخان الكثيف، وقوافل عربات تنقل الآجـّر المفخور من تلك الضفة". هذه الصورة الموحية بالنماء تقابلها كمعادل موضوعي صورة الأسرى ودواخلهم المهدمة والمحطمة بفعل طول زمن الأسر، فهم آخر الوجبات. هذا المعادل يعطينا صورة ما هي عليه حال المدينة التي تبني عظمتها على ما بحوزة أبنائها من حلي، وقوة بدنية لبناء برج يحقق العظمة والرفعة خارج دائرة اهتمامهم وهمومهم، سواء منهم الأسرى العائدين بخيبة الأمل، أو الذين خسروا الكثير جرّاء وجودهم وسط آتون الحرب. ولعل إشارة:" لعلهم بقية البناة الأحياء المبكرين" دال على فناء الأشياء والحيوات من أجل تشييد البرج. وما وصف أقسام البرج، وطبقاته، ومداخله وتعقيداته إلا ّ دليل على رغبة الاحتواء الجامحة التي لم تذلـّها أو تعطلها الحرب، أو تخفف من غلوائها. وهذا يتناص تماما ً مع حيثيات بناء برج بابل كما يقول لسان التاريخ، بسبب تقابل الزمان والفعل والنوع البشري ــ الأسرى ــ سدة ولحمة بناء البرج.
إن الخواطر والإنثيالات التي تراود المهندس "إدريس بن سينا" هي بمثابة مراجعات لأفعال لم يجد لها مبررا ً إراديا ً، وإلا ّ لِم َ يتشبث بعشتار كما سنرى من هذا المقطع من النص:"بعد اختفاء عبارة الصباح اليومية ــ ويقصد بهـا العبارة البابلية ــ .. "إي ـ تمين ــ أن ــ كي " ــ ، تحول البنـُاة إلى أمكنة أخرى تحت البرج، واختلطوا بالجموع التي تتوافد على البرج لمشاهدة العبارة المنتظرة المجهولة، حالما تـُعلن الساعة الشمسية منتصف النهار؛ إيه.. يا مهندسي. إنك أعلم الجميع بموقع هذه العبارة، وأشدهم لهفة. أدري بما تنطوي عليه الكلمات من لغز... عشتار يا زهرتي. أأنت بجانبي؟".
هذا النداء الأخير لعشتار، نلمس فيه كشفا ً للتداخل ورغبة في الإعانة للتخلص من المأزق. وما ورود أسماء المهندسين من أمثال "هارون الواسطي ــ ثابت الكوفي ــ راجع الأزرقي" وأخيرا ً "سنمـّار الحيري"، إلا ّ كشف عن سر البنية المؤسسة أو الداعية لبناء البرج

هذا التماثل التاريخي بين "سنمار" الذي شيد طاق كسرى, وبين "سنمّار" الذي أنتجته مخيّلة النص, لبناء صرح البرج, وسقوطه بحكم الصدفة, هو تورية واضحة لدلالات عميقة أراد أن يعلن عنها بقدر ما يضمر فيها. فسنمـّار هذا:
صار سقوطه أسطورة, ولا يجرؤ اليوم، إلا ّ أفراد قلائل, على ارتقاء سلالم البرج الخارجية, الطويلة الإنحدار, المتقابلة, المندمجة بجدران الطوابق في الوجه الشمالي الشرقي. تبدأ السلالم من قاعدة البرج, وتنتهي عند قاعدة الطابق السادس. وليس ممكنا ً الوصول إلى قمة الطابق الأخير بواسطتها. هناك مصعد في تجويف البرج يعرج إلى التمثال, ويعمل بأزرار مرقمة, إلا ّ أنني لم ألتق أحدا ً من سكان المدينة يزعم معرفة الرقم الذي يتحكم بحركة المصعد. كان سنمـّار الحيري رئيس مجموعتنا المؤلفة من المهندسين العشرة. ولم يذهب سنمـّار مع سر الإطلالة الأولى التي أدت إلى هلاكه, بل أخذ معه سر الوصول إلى التمثال. كان سنمـّار وحده يعلم أرقام عروج المصعد" في هذا المقطع من القصة, ثمة طرح لقضية معقدة من المنظور السياسي, أو متن السلطة, المتمثلة في الأفعال وردودها, على الرغم من أن السارد لا يصرّح بذلك. فكل ما شُيّد كان بفعل منظومة السلطة, التي تحاول أن تحيل خراب الحرب إلى نوع من الرمز, الذي يحفظ لها أخطاءها, وذلك بخلق رموز مكانية كفيلة بإبعاد نظرات التشكك المقموعة أصلا ً بفعل التسلط. وما انتفاء وصول احد إلى التمثال, عبر فك أسرار الدخول التي ضاعت بموت السنمـّار, إلا ّ صورة لقمع مثل هذه الرؤيا, كذلك وضع ما يشير إلى المسكوت عنه في ما يعيشه العامـّة، وعدم تجاوزهم للمحرم والمحذور منه. بدليل إخفاء سر فك الطلسم. لا ّسيما وأن البرج قد بدأ تشييده إبان الحرب, وقد اكتوى المشيّدون بناره.
إن رؤيا "محمدر خضير" قاصا ً ومدوّنا ً لتاريخ المدينة, شأنه شأن مدوّني المخطوطات, فقد عمل على مزج الواقعي بالتاريخي, والحكائي بالأسطوري, مخصبا ً نصوصه بمستويات من السرد والروي, تتداخل فيها المعاصرة بالمورث, معنى ومبنى.