ادب وفن

استلهام قصة يوسف شعريا .. قصائد بعض الشعراء أنموذجا / داود سلمان الشويلي

الأسطورة" تعبير أدبي عن أنشطة الإنسان القديم الذي لم يكن قد طور بعد أسلوباً للكتابة التاريخية يعينه على تسجيل أحداث يومه، فكانت الأسطورة هي الوعاء الذي وضع فيه خلاصة فكره".
كثيرا ما أعجبتني قصة يوسف - كقصة - منذ صغري، عندما كنت استمع إليها بصوت قارئ القرآن، سواء إن كان ذلك في مجالس العزاء الحسينية، أو كان ذلك في مجالس الفاتحة.
هذه قصة يوسف التي عرفناها في فترة الصبا، وهي أسطورة وقصة، حيث ذكرت في التوراة والتلمود والقران، فيما راحت قبل الإسلام تتداول في الجزيرة العربية وما حولها كأسطورة تزجى بها مجالس ليالي الصحراء الطويلة.
تقول القصة القرآنية التي اساسها مذكور في التوراة والتلمود اليهوديتين، ويمكن بناء بعيداً عن التزويقات الأدبية الفنية، فالنص يذكر يوسف صبياً يعيش مع عائلته،
يرى في المنام أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له فقال له الأب: يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا.
لما رأى أخوة يوسف من أبيهم محبة ليوسف أكثر من محبته لهم، حسدوا يوسف، واتفقوا على ان يقتلوه، ذهبوا به وألقوه في البئر، ثم عادوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون، وبيدهم قميصه ملطخا بدم كذب، قالوا: تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب، قال الأب: بل سولت لكم أنفسكم على ذلك.
التقط يوسف بعض السيارة من البئر، وباعوه على عزيز مصر، وعندما كبر هامت به زوجة العزيز عشقا "همت به"، و راودته عن نفسه، وغلقت الابواب بعد ان هيأت له مضجعا، وقالت: هيت لك، رفض يوسف إغواءها له، هرب منها فجذبته "وقدت قميصه من دبر" وبينما هما كذلك فاجأهم العزيز عند الباب ،فقالت لزوجها: ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً؟ قال الزوج: يسجن أو يعذب، قال يوسف: هي راودتني عن نفسي، و"شهد شاهد من أهلها" وقال:"إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين"، كان قميصه قد قد من دبر، قال:"إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم".
وشاع أمر الواقعة بين نساء المدينة فلمنها على ذلك، وأعدت لهن مجلسا، وآتت كل واحدة منهن سكينا وفاكهة، وقالت ليوسف:"اخرج عليهن"، خرج يوسف "فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن".
هذا الجزء من الأسطورة/ القصة هو الذي اُستلهم في أغلب قصائد شعراء هذه الدراسة.
ابتداء من قصيدة الشاعر عبد الخالق الركابي، وانتهاء بقصيدة الشاعر محمد السيد مرورا بقصيدة الدكتورة سجال الركابي، وقصيدة الشاعرة زينب الخفاجي ،وكذلك الشاعرة شذا عسكر نجف، نجد قصة يوسف ماثلة أمامنا ولكن بثوب جديد، حيث استلهمها الشعراء وقدموها بأسلوب وطريقة ورؤى وأفكار جديدة.
فالشاعر عبد الخالق الركابي يقول في قصيدته:
يا يوسفُ لا تحزنْ في بئركَ:...
لم يبقَ لكَ سوى أخوتك
وذئبٍ سيحملُ جريرتكَ زوراً
وقميصٍ سيقدّ، ذاتَ يومٍ،
من دبرٍ".
يستلهم واقعتين حدثتا ليوسف هما رميه في البئر، وتمزيق قميصه.
الحادثة الأولى بسبب الحسد تآمر عليه أخوته، وإذا كانت الحادثة سابقة وقد حدثت في الزمن الغابر، فما زالت تحدث في يومنا هذا، حيث تتمثل بترك العراق من قبل إخوته العرب امام الذئب ليفترسه حقيقة لا كذبا كما حدث في الماضي.
والحادثة الثانية هي تمزيق قميصه من الخلف "دبر"، حيث يسقطها الشاعر على واقعة معاصرة، إذ تآمر على العراق أخوته والأجانب وهو لم يفعل شيئا والقميص يشهد على ذلك.
لقد كان الشاعر الركابي مدركا جدا لما حدث للعراق والهجمة الشرسة عليه التي أدت إلى غزوه وإسقاط بغداد.
يوسف عبد الخالق المعاصر، هو يوسف القديم نفسه، ولكن الشاعر يواسيه لان الأمور التي حدثت له سابقا ما زالت تحدث له في ايامنا هذه، و ما زالت مؤثرة فيه في الحاضر، لا انفكاك منها.
***
أما قصيدة الشاعرة سجال الركابي فقد استلهمت القصة بعدة محاور، لنقرأ ما تقول:
"يوسُف حَذارٍِِ
أُخوَتكَ
ما عادَ البِئرُ يرضيهم
ولا الذِئبُ يعنيهُم
سَيصلبونكَ في وَضحِ النَهار
وُيولمون لحمكَ
بِكُل إفتِخار
فَحذار".
تغير الشاعرة في الحادثة المذكورة في القصة/ الأسطورة، وفي ذلك ترتقي القصيدة إلى أن تكون ذات قيمة إبداعية مثمرة، من خلال تغير ما في القصة من فكرة إلى أفكار جديدة يأتي بها التناص الإبداعي ويولدها.
القصيدة وهي تبدل أفكار القصة القرآنية، فانها تجعل من يوسف شخصا كامل الأهلية ولم يعد صبيا، فتحذره من إخوته، وهذا إجراء قامت به الشاعرة لصالح قصيدتها غير ما ورد في النص القرآني، ولأنهم كانوا في النص القرآني قد ألقوه في الجب، وعادوا لأبيهم بقميصه وقد تلطخ بدم كذب، فان هذه الإجراء العدائي لم يهمهم في شيء وسوف يغادرونه الى ما هو ابلغ منه وهو الصلب.
"ما عادَ البِئرُ يرضيهم
ولا الذِئبُ يعنيهُم
سَيصلبونكَ في وَضحِ النَهار".
والصلب هذا لم يكن خاتمة لتآمرهم ضده، لأنهم لن يفيدهم الصلب بشيء ما لم يولموا لحمه ويقدموه كوجبة وهم يفتخرون بما قدموه، ليتوزع لحمه في جوف من يأكله، ويضيع قاتله واكله:
"وُيولمون لحمكَ
بِكُل إفتِخار".
ان الشاعرة وهي تأخذ القصة/ الأسطورة إلى عالم جديد غير عالمها الذي بنيت عليه، تعرف جيدا ما تقوم به، لأنها تعرف أن زماننا الحاضر وقد كثر فيه المتآمرون على الأوطان قد غيروا في طرق تآمرهم وراحوا يبتكرون طرقا وأساليب جديدة، منها الصلب وأكل لحوم المصلوب بدلا من الرمي في الجب ليلتقطه السيارة فينجو من تآمرهم.
الشاعرة بقصيدتها هذه تحذر بلدها العراق بعد ان رأت تكالب الأعداء من الداخل والخارج، من التفتيت والتقسيم، تحذره من إخوته العرب الذين ما اكتفوا بتركه وحيدا كما ترك إخوة يوسف أخاهم في الجب وحيدا، وإنما أولموا على لحمه الولائم للآخرين .
***
الشاعر الآخر الذي استلهم قصة/ اسطورة يوسف هو الشاعر المصري محمد السيد في قصيدته إلى يوسف وتتكون من أربعة أجزاء.
في الجزء الأول يدعي الإخوة أن يوسف هو الذي قتل نفسه ولا علاقة بالذئب بمقتله، وهذا مخالف لما في القصة/ الأسطورة، إذ أن الشاعر كما الشاعرة سجال الركابي يخالف ما جاء في الاسطورة فانه يقول:
" فالأسطورة القديمة
ما عادت تليق بنا
ما عادت تلبى طموحنا".
فالأسطورة لم تلب طموحه في شرح ما يحدث في الزمن المعاصر.
في الجزء الثاني يحذر الأب يوسف من الذئب الجديد لأنه إنسان في ثوب ذئب، حيث الغدر من طبائعه، و "يُقتل بلا هوادة... يُذبح بلا هوادة".
وإذا كانت القصة الأسطورة تذكر أن يوسف هم بها كما همت به إلا أن برهان ربه أبعده من الوقوع في الفاحشة فان الشاعر في الجزء الثالث، ومن خلال النسوة يعيد ليوسف إنسانيته.
"الولد المبارك همّ بها
هم بنبع الحب بها
والنسوة اللاتى قطعن أيديهن
تطهرن من سحرهن
ورددن إليه أنوثته
رددن عليه إنسانيته
وما كان برهان ربه إلا مددا".
وفي الجزء الرابع تأكيد على طبيعة الإنسان في الحياة وهي الغدر الذي سيبقى الى ابد الآبدين، حيث يقتل الإنسان أخاه الإنسان كما قتل قابيل هابيل من قديم الزمان:
"إن عاد يوسف مرة أخرى
اقتله
لا تقل الذئب أكله
وتماد فى غيك الجديد
دافع عن الإنسان
بقتل الإنسان
وقل لذئابك: هل من مزيد"؟.
وفي الجزء الخامس نرى هناك فريقين احد هذين الفريقين وهم اخوة يوسف اصبحوا يصنفون كأعداء له، ويطالبون بقتله لأي سبب وتحت أي ذريعة، وهذا ما يذكرنا ببروتوكولات حكماء صهيون التي تكشف عن خطة سرية "للسيطرة على العالم" والتي تعتمد على العنف والحِيَل والحروب والثورات وترتَكز على "الثورات والحروب والفوضى، الهيمنة على التعليم والصحافة والرأى، السيطرة على التجارة وتدمير الدين، ابعاد السياسة عن مضمونها، إبعاد القوانين عن مضمونها، بذر العملاء وتدمير الأخلاق، تغييب الوعى لدى الشعوب، انتشار الجهل، إبادة المجتمعات السابقة وإعادة بنائها في شكل جديد - المختار من الله "شعب الله المختار"ـ، تثبيت النسل الداوودى "نسل الملك داود".
والفريق الآخر هو يوسف، الصبي الذي لا حول له ولا قوة، ويرمز للشعوب العربية التي أصبحت لا حول لها ولا قوة.
***
أما الشاعرة زينب الخفاجي فقد استلهمت جزءا مهما من القصة/ الأسطورة ، وهو جلسة الوليمة التي أعدتها زليخة لنساء مدينتها اللاتي تحدثن عن حبها ليوسف:
"لاشيء بعدك احتاج إليه
لا يغريني قميص
إن اقبل أو أدبر
ولا أبواب تغلق أو لا تغلق
فالضوء الممتد إلى الضوء.. حبيبي
شاعرة أنا..
ولكن ليست محنة كبيرة
أن لا أجيد كتابة الشعر يوما
لأني معك أكبر
من الشعر كله
ومن أبحره وقوافيه
وأكبر من كل القصائد المنثورة بين حنايا الورق
أعطيتهم بالأمس متكئاً وسكيناً
فلما رأوك
قالوا حاشا لله ما هذا وطناً
هذا هو الألقْ".
وتنهي قصيدتها، والوليمة "المتكأ والسكين" بان ما تراه النسوة هو الوطن الجميل المتألق دوما، حيث يتماهى الوطن مع يوسف في ذروة القصيدة وفي ذروة قول الشاعرة.
***
ولمحت الشاعرة شذا عسكر نجف الى القصة/ الاسطورة تلميحا عندما ذكرت في قصيدتها "تأوهات" ما قامت به زليخة من عمل لتهيئة الاجواء لها وليوسف فقالت مخاطبة الدهر إنها أي الشاعرة "هيت لك" أيها الدهر لترى :
"شَدّت بها الخاصرة
وقالت للدهر ~هيت لك ~
أ شهد تجَلُّدَ العراقية".
حيث أنها خاطبت الدهر بأنها هيأت له ما يدعوه لان يشهد "الشهادة والمشاهدة" على تجلد المرأة العراقية في أيام المحن والمصاعب.
***
ان الشعراء الأربعة الذين استلهموا قصة/ اسطورة يوسف التوراتية القرآنية كانوا واعين جدا لما قالوه من شعر، الشاعر العراقي عبد الخالق الركابي، والشاعرة العراقية د.سجال الركابي، والشاعرة زينب الخفاجي، قد انزلوا القصة/ الأسطورة من علياء التاريخ وأسقطوها على يومنا المعاصر هذا مع تغير في الأفكار العامة لتصلح لما يريدون الحديث عنه وهو الوطن.
أما الشاعر المصري محمد السيد، فكان هو الآخر مدركا لما فعله بالقصة/ الأسطورة التاريخية، حيث برهن بأشد الأفكار الشعرية على ظلم الإنسان للإنسان، وما زال هو يمارس قتل أخيه الإنسان كما حدث في الجريمة الأولى بقتل هابيل.