ادب وفن

السيرة التخييلية في روايات المغربي يوسف فاضل / زهور كرام

عندما يخفت سؤال الجمالية، أو اعتماد شعرية الجمالية في التعامل مع قضايا الأدب، يصبح الحديث عن دور الأدب في حياة الشعوب ممكنا وملحا، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين الأدب والسياسة.
ولعل نوعية النصوص الأدبية التي تطرح هذه العلاقة بين الأدبي والسياسي، من خلال استثمارها للسياسي باعتباره حكاية ممكن العمل على تخييلها، وإنتاج معرفة رمزية حولها، تدفع إلى التفكير في دور الأدب في حياة الشعوب، وفي تحرير الذاكرة الجماعية من سلطة التوثيق التأريخي التابع للسياسي. لكن، ليس كل النصوص الأدبية تنجح في تحرير السياسي من سلطة التقييد التأريخي، لأن هذه العلاقة بقدر ما تبدو ممكنة التحقق الرمزي، فإنها تتطلب إقامة مسافة تخييلية حتى تنجح التجربة في عملية التحرير، بعيدا عن الرقيب التاريخي الذي قد يكون من بين كراهات عملية إنجاح تجربة التخييل السياسي.
تعد روايات الكاتب المغربي يوسف فاضل من الأعمال التي انتصرت لعملية تحرير السياسي من سلطة التقييد التأريخي، من خلال تحويل المغرب السياسي إلى سيرة تخييلية، بدأت مع نصوصه الأولى مثل « "الخنازير"، و"ملك اليهود" 1996 و"حشيش" 2000، وغيرها، حيث التركيز على قضايا اجتماعية، من خلال المهمشين، والمنبوذين، والمسكوت عنهم في العلاقات الاجتماعية، وتحققت الرؤية الروائية مع العملين الروائيين الأخيرين:" قط أبيض جميل يسير معي"، الذي يحكي قصة المهرج "بلوط" الذي انتقل من ساحة جامع الفنا بمراكش، ليصبح مهرج الحاكم داخل القصر، ويتكفل بإضحاكه، وعبره تعري الرواية عالم القصر وأسراره، والحاكم وجبروته، والحاشية ودسائسها، ثم رواية "طائر أزرق نادر يحلق معي" التي وصلت إلى اللائحة القصيرة لبوكر 2014، والتي تطور التخييل السير- سياسي في منطقة أكثر التباسا في تاريخ المغرب، والتي تعرف بسنوات الجمر والرصاص، والاعتقالات السياسية. بعيدا عن الوقوف عند تحليل الروايات سرديا، يمكن إضاءة العناصر التي أنتجت الرؤية الروائية لدى الكاتب، وحققت من خلالها مشروعا روائيا بطابع اجتماعي- سياسي، يعبر عن وضعية مجتمع، وشكل تجاوزه/إدراكه لهذا الوضع.
تتحقق الرؤية الروائية في أعمال الكاتب يوسف فاضل من خلال العناصر التالية:
1- المصالحة الإبداعية- السياسية: ونعني بها قدرة الرواية على تشخيص السياسي، وتحويله من الذات الفاعلة سياسيا، بموجب سلطة التحكم، إلى موضوع منظور إليه من قبل شخصيات أكثر تهميشا، وعبر لغة تعتمد العري والسخرية. يُدخل التخييل مراحل تاريخية مهمة من تاريخ المغرب السياسي "السبعينيات والثمانينيات"، إلى التخييل الروائي، ويحوَلها إلى حكاية تنفتح على التأويل المتعدد، وتُغادر سياج السياسة، وفضاء القصر، وتنزاح عن قيد التأريخ، وذلك، باعتماد إمكانيات الإيحاء المفتوح على التأويل والقراءة.
إن تحرير التاريخي السياسي من الاعتقال التأريخي بالتخييل ومنطق الرمز، يساهم في إنتاج المصالحة الإبداعية السياسية، والتي تجعل الإبداع شرطا ضروريا لاكتمال المصالحة السياسية.
2: المصالحة السياسية والحقوقية ذاكرة للمصالحة الروائية:بالرجوع إلى منتصف التسعينيات من القرن العشرين، والذي عرف ما يسمى بمرحلة الانتقال الديمقراطي، والمصالحة مع الماضي السياسي المغربي، حقوقيا وقانونيا وسياسيا، سنجد انفتاح الكتابة السردية المغربية على الخصوص على تعبيرات البوح والاعتراف. فقد عرفت هذه المرحلة كتابات عُرفت تحت تسميات عديدة، وجاءت على شكل اعترافات المعتقلين في سير ذاتية أو تخييلية أو مذكرات أو رسائل أو شهادات. أنتجت هذه الكتابات مناخا من الوعي بطبيعة المرحلة، ومشاهدها وقوانينها. تشكل هذه الكتابات التي كانت فاعلة وظيفيا في رؤية الكتابة المغربية، ذاكرة نصوص يوسف فاضل، الذي يعبر باستمرار في حواراته، عن دور هذا النوع من الكتابة في تشكيل ذاكرته. بهذا المعنى، لا تشخص روايات فاضل فقط لسياق عوالمها، بقدر ما تعبر عن حالة مناخ مغربي، أراد له المغاربة أن يكون مناخا مُدركا بالحقوق والتخييل.
3: بناء الرؤية الروائية من خلال التمييز بين من يرى العوالم المحكية ومن يسردها: ولعل هذا التمييز هو الذي أنتج رؤية، لا نقول إنها موضوعية، لأننا في الحالة الإبداعية لا نتحدث عن الموضوعية في حكي الأحداث، ولكن يمكن القول إن هذا التمييز حصَن الكاتب من المغامرة في إدخال موقفه الذاتي. على الرغم من كون روايات فاضل تحكي موضوعات يعرفها المغاربة، وكتب عنها الكثير، لكن نشعر دائما برغبة في معرفة أفق الحكاية. وهذا راجع، إلى أن من يرى ليس هو من يسرد. مسافة أنتجت تعددية في المنظور، وكسَرت الصمت عن الفضاء السياسي، إلى جانب التركيز على من يرى، وإعطائه بعدا قويا في المشاهدة، من أجل تحصين الحكي. وكأننا هنا أمام سيرة ذاتية موازية لمن يرى، وعبر هذه السيرة نتابع سيرة الحاكم وأفكاره وطريقة تدبيره السياسي. كأن الرواية تُدخل هذه الشخصيات لتُسقط عنها وساطة المشاهدة، وتحولها إلى موضوعات للمشاهدة. ومعها تُحول الذات المتسلطة/الحاكم إلى موضوع للتهريج والسخرية والعري روائيا، وذلك من خلال اعتماد المهمَش لسرد المركز.
تعتمد رؤية يوسف فاضل العناصر غير المرئية وجوديا أو سياسيا، أو المهمشة في التأريخ السياسي، لكي تسرد سيرة المغرب السياسي. و من بين تلك العناصر، المهرج والكلبة. نلتقي بشخصية المهرج في رواية "قط أبيض جميل يسير معي" باعتباره بقعة الضوء التي من خلالها يتم الكشف عن العوالم المسكوت عنها عن الحاكم، وفضائه المسيَج. إن التهريج قناع ملتبس، وفي ذات الوقت يعبر عن حالة التناقض في المشاعر، واعتماد الرواية عليه ليكون شاهدا على عملية تحرير السياسي من الصمت والتقييد، يفتح التأويل على القراءة. أما شخصية الكلبة في "طائر أزرق ناذر يسير معي" فإن الرواية تؤنسنها، وتجعل منها شاهدة على وضع سياسي لم يعد فيه مكان للإنسان لكي يكتب حكاية الاعتقال. وفي ذلك، إشارة بليغة سرديا على انتفاء عناصر التوثيق. لولا الكلبة، ربما ما كانت "طائر أزرق ناذر يحلق معي"، لأن الرواية بكاملها عبارة عن تحرير تخييلي لحكاية الاعتقال السياسي التي عرفها المغرب بعد الانقلابات. وبالتالي، فإن شخصية الكلبة، تتحول إلى شاهدة زمن، وموثقة لحكايته، بل الأكثر من هذا، فقد لعبت الكلبة دورا وظيفيا في علاقتها بالمعتقل عزيز.
تمثل الرؤية الروائية لدى الكاتب يوسف فاضل المشروع الروائي المغربي ككل، والذي انفتح على قضاياه الاجتماعية والسياسية والحقوقية مع زمن الانتقال الديمقراطي، بكل جرأة، كما تمكن من إدخال الواقعي إلى التخييلي، وجعله عنصرا روائيا من بين عناصر أخرى،دون أن يؤثر في المنطق التخييلي، أو يحول النص إلى وثيقة تاريخية، أو شهادة سياسية، أو صرخة اجتماعية. ولهذا فبالرجوع إلى مسار تطور الرواية المغربية خاصة منذ منتصف التسعينيات من القرن العشرين سنلاحظ تنوعا في مستويات البناء، وطريقة المعمار الفني، كما سنسجل على تجربة هذا المشهد الروائي تحرره من سلطة التجنيس المعروف.
تبدأ الرواية مجالا سرديا تشخيصيا لقضايا وموضوعات وأحلام وأسئلة، وتتحول إلى موضوع لإنتاج معرفة ووعي بهذه القضايا، وبطريقة صياغتها. لهذا، يمكن استثمار الرؤية الروائية لدى الكاتب يوسف فاضل انتروبولوجيا وثقافيا وتربويا وسياسيا، من أجل إنتاج وعي جماعي بذاكرة المغرب السياسي. لا تتحقق المصالحة السياسية والحقوقية، إلا بمصالحة إبداعية، تفتح الطريق أمام تحرير الذاكرة الجماعية من زمن المهادنة، ورتابة الأفكار، ورعب السلطة، ورقابة التاريخ، وتدجين السياسة.