ادب وفن

قراءة في مسرحية "كلكامش يبحث ثانية عن الخلود" / قاسم ماضي

الإشغال على فكرة الهزيم، أو الانتصار في الوقت الحاضر، عبر خطاب مسرحي مّرمز فيه الكثير من الرموز المتداخلة بين الحاضر والماضي، يجعلنا ندور في فلك البحث والاستقصاء عبر آليات عديدة أهمها وجود الإشغالات المعرفية والفلسفية التي يبحث عنها الكثير من الكتّاب بالوقت الحاضر، باعتبار المسرح شكلاً فنياً عاماً، أحد موضوعاته أو عناصره كما يقول المختصون، النص الأدبي، الذي يعمل عليه المؤلف عبر مخيلته.
وفي المسرحية نجد الصراع سواءا داخلياً أم خارجياً، وخاصة نحن كعراقيين في مرحلة صعبة يمر بها شعبنا في تاريخه الحديث، تتصارع الأفكار عند مبدعينا، من أجل تقديم نصوص تخدم المرحلة الحالية بجعلها تمثل الأشخاص في أزمانها في وقتنا الحالي، بعد الهجمة الممغنطة التي دسها لنا الغرب وصهاينته، كي يمحونا من الوجود، ويغسلوا تاريخنا بكلورهم الفاس. وعلى الكاتب الذي يخوض في تفاصيل واقعه، باعتقادي وفي ظل الأحزاب الحاكمة التي تحمل "كواتم الصوت "لهي مهمة ليست سهلة من وجهة نظري، باعتبار ما يمر به عراقنا من جهلٍ، وتخلف إجباري، بادوات عميلة ومنظمة، كي يمحى تاريخه المشع بالمعرفة والنور. فجاء الكاتب " منور ناهض الخياط " وهو كاتب عراقي ينبض حيوية، وتدفقاً معرفياً، وهو يصوغ حوارات لشخصيات عرفها التاريخ، عبر فترة مهمة في تاريخنا الذي شكل مرحلة ًقاسية في حياة أبنائنا، الذين يتقاطرون على الموت، والهم، والقتل، والذبح. وكما يقول " الخياط " في مسرحيته وعبر شخصيته الدفينة في أعماقه وهي شخصية البطل كلكامش: للأوطان حق على الرقاب " منطلقاً من مفهوم " المسرح " الذي يجسد وحدة الصراع الخارجي، ويجري بين البطل وقوى خارجة عن ذاته، قد تكون غيبية كالقدر أو قوانين الطبيعة. وهذا ما نجده في شخصية " كلكامش " وهي تصارع " ترجال + الوحش " وغيرها ": . تباً كيف يكون ذلك وأنا ابن الآلهة العظام " أو صراع داخلي يجري بين البطل مع نفسه كالصراع بين الحب والواجب، والخير والشر، وهذا ما نجده في حوار الشخصية الرئيسية " كلكامش " حيث يقول" :لست بخطيئة، لست بخطيئة، أنا ابن الآلهة العظام، أنا من يصهر أنفاسه الحديد، وأحيل التراب تحت نعلي رمالا ساخنة، فلتغلق الأفواه التي تنعتني بالخطيئة، وليعشعش على شفاهها الجذام".
وهنا الخيال والمخيلة، والتلاعب بشخصية البطل التي أراد لها أن تكون هكذا، وتخليص المسرح من وجهة نظره من الواقعية الفجة، والتعمق بالرمز عبر دخول شخصيات تاريخية عبر نسيجه النصي الأدبي، وعدم اللجوء إلى أسماء معاصرة،وفضح مكامن دواخله، فظل ينسج حواراته المفعمة بوهج روحه المضاءة، وبعد قراءاته الكثيرة من الاستنساخ الحرفي للواقع الذي نمرٌ به، وهو بالتالي يتنقل بنا عبر شخوصه الرئيسية في غابة هذا العصر، الذي يجثو على رقاب البشرية التي لا تعرف الحب، والرحمة، والسلام، وكأنه صائغ رهيب يصوغ ومن خلال مخيلته التي جعلته يتنق? بنا من مشهد إلى آخر، عبر حوارات شعرية، بل فلسفية فيها الكثير من المعاني المبطنة، والعاجة بالصور، التي تسرد واقعنا الحالي المؤلم، من قبل سياسيي الصدفة الذين فقط يرضخون لكروشهم ونزواتهم، والذين جلسوا على قلوب هذا الشعب، وتلاعبوا به، وفق أمزجتهم العفنة المدججة، بالموت، والدم،وهو يدخلها في عالم الغيبوبة والموت والتكاسل الذي يأخذنا إليا، عبر أسطورة كلكامش الشهيرة، التي تحدث عنها الكثير سواء بالصورة أو الكلام.
وملحمة كلكامش أو جلجامش، هي ملحمة سومرية مكتوبة بخط مسماري، والذي يعرف الملحمة تبدأ بالحديث عن جلجامش " ملك أور " الذي كان والده بشرا فانيا، ووالدته آلهة خالدة. وبسبب الجزء الفاني من دمه، يبدأ بإدراك حقيقة أنه لن يكون خالدا. وبالتالي أن جلجامش لم يكن ملكاً محبوبا من قبل سكنة " أوروك " حيث كانت له عادة سيئة وهي ممارسة الجنس مع كل عروسة جديدة في ليلة دخلتها، قبل أن يدخل بها العريس. وكان يجبر الناس على بناء سور ضخم حول " أوروك " فقام الناس بالدعاء من الآلهة بأن يجد لهم مخرجاً من ظلم " كلكامش " فاستجابت الآلهة? أذاً هي دعوة الكاتب " الخياط " على ما أعتقد للتخلص من هؤلاء الذين يقودون دفة الحكم. وهنا نقول له لماذا لم يُسمِ الأشياء بمسمياتها، ويبتعد عن هذا الترميز، كي يكون واضحاً معنا، وهو يضعنا بالصورة الحقيقية لما نمرٌ به بهذه الأيام من هزائم وانكسارات لهذا الوطن المبتلى الذي غرق بالدم، والذبح، والتهجير، ونهبت ثروته بيد عصابات تحلم كما حلم بطل مسرحيته بهذا التعلق بالمجد والشهرة.
ويبدو أنه أنطلق من فكرة "المسرح الرمزي والإصلاحي" حسب قراءتي لهذا النص الجميل والقصير، ولو سنحت لي الفرصة أن أخرجه هنا في الولايات المتحدة الأمريكية، وتوفر الدعم الكافي من قبل اي مؤسسة لكانت لي أشتغالات أخرى في توصيل ما يريد منا الكاتب، لأن فيه اللغة شاعرية خطها المؤلف، وحافظ على روحية تصاعد المشاهد الدرامية عبر نسيج مفعم باللوعة والحزن. وهنا استطيع مزج طروحات "كريك" التي نشرها في كتابه "في الفن المسرحي" عام 1905 كونه قائد ثورة بصرية ضد فوتوغرافية الواقع واستنساخها ونقله إلى خشبة المسرح، والتي نادى بها المذهب الواقعي. فظل المؤلف الحالم بغد أفضل في داخله الذي لن ينتهي مهما طال الزمن أو قصر:" يبدو أننا نرضخ صاغرين لقانون عتيد، أما أن تكون قاتلاً أو مقتولاً، وبه نصنع أمجادنا نحن الملوك.
"ولهذا تجد هذه الحوارات المعمقة والواصفة لهذه الطغمة الحاكمة سواء كانت بالأمس القريب أم اليوم، وهي متشبثة بالكرسي ولا تبرح منه، رغم ضياع الوطن، وتشرد أبنائه، وموتهم بالذبح بالسكين، أو السيوف الحادة، أو أطلاق العيارات النارية، التي نشاهدها عبر "اليوتيوب" والتي تروج لها الماكنة العالمية التي تقتل الحلم العراقي، هذه الأيادي الخبيثة الشريرة، التي فتكت بنا وبشعبنا.
ظل الكاتب عبر نصه يستصرخ من ألسنة النيران التي تحيط به، وهذا الزيف، والخداع الذي طغى على المشهد السياسي الحالي، الذي بعثر كل أحلامنا وأمنياتنا لهذا الوطن المحترق عبر رجالات كذابين، وسراق، ومحتالين، لم يرحمهم التاريخ الذي مر به انكيدو وكلكامش: "لا تدعني وحيداً في المتاهات فكل ما حولي كذب وخداع" وها هو يقول ليكمل الصورة "أنا من وطن توزع أبناؤه بين المقابر والمرافئ، للحرب لغتها، لقد جعلت الحربُ من البشر وحوشاً كاسرةً، لا تبغي غير الموت والدمار، الخطر المحدق بنا كبير". وهو بالتالي لم يتكاسل بل يطالبنا بالزحف ?التصدي لهؤلاء الأوغاد الذين تلاعبوا بمقدرات هذا الشعب حتى تحولت أيامه إلى سواد وعتمة،ليقول عبر شخصية انكيدو الشهيرة :دعونا نطارد العفاريت والوحوش. والكاتب الخياط عبر شخوصه المتحركة في فضاء النص الأدبي مفعمة بالحركة والحب والحياة، لأنها تحريضية للواقع الحالي الذي يعيشه هو ومن معه. فجاءت الشخصيات (كلكامش + انكيدو + العراف + نرجال + الوحش + الشيخ + المرأة + الشخص 1 + الشخص 2 + عشتار صوت خارجي)، كلها تستصرخ هذا الزمن المميت.
والكاتب هو كاتب قصصي ومسرحي وله عدة مسرحيات منشورة منها مسرحية "حدث ذات يوم" ومسرحية "عندما هتف الديك" وعلى وزارة الثقافة أن تهتم بالمبدعين وتطبع لهم كتبهم ليتسنى لنا معرفة هؤلاء، وهم يسطرون بأقلامهم معاناة الشعوب.