ادب وفن

المكان غير الموطوء / (1-3) جاسم عاصي

العنوان وما يليه

ما نقصد بالوطء هنا: المكان العراقي "الصحراوي" الذي لم تطأه الكتابة، باستثناء مرائي "حامد فاضل" المعنونة "ثقافة الأمكنة / مرائي الصحراء المسفوحة" ولو أننا نقف عند فاتحة العنوان التي جنّست المسعى في الكتابة ضمن متن الكتاب، بالتجنيس المعرفي ونعني به "ثقافة المكان"، إذ أرى أن الاكتفاء بالشطر الثاني من العنوان أكثر شعرية عبر الخاصية المكانية هنا. وحسبي أن يكون الشطر الأول عنوانا ً فرعيا ً. لأننا بهذا الصدد معنيون بدقة المسمى، لأنه يُشكّل النسق الجديد لما سوف يطرحه المتن المكاني. فالكتاب مبحث ثقافي بطبيعة الحال وليس غير. المهم هنا إطلاق إمكانيات الأصل في العنونة ليضعنا في مركز الطريق، وليس في مقتربه.

إن العنوان بجملته يتعلق بالبيئة، أي المكان الذي تشكله الصحراء، وما تنعته بفعل السفح، أي الهدر إلا توصيفاً له. والفعل هنا من خارج المكان، لأن المكان مكتف بسيرته الأزلية، بتاريخه، بسحره وأسطورته. وما الهدر هنا، سوى فعل يقابل الخسارة التي ارتكبها الإهمال من الآخر. بمعنى؛ نحن أهملنا المكان هذا، فترتب على ذلك ظاهرة الخسارة المعرفية، ونعني به وطء الكتابة. في حين عمل "إبراهيم الكوني" عكس ذلك، فكان اهتمامه بالصحراء من باب النشأة، أي عمل على كشف سرها، وتأثيرها عليه وعلى غيره، وكيفية خلق الحراك الاجتماعي القبلي المت?كّل عبر مسميات بيئية ،خلقت طقسية أصبحت عرفا ً وقانونا ً صحراويا ً ملزِما ً للإنسان الصحراوي وليس لغيره، الكامن في مدونتها الكبيرة والواسعة الأفق والمدى، والغزيرة المعنى. فأسطورة الصحراء وطقوسها وشعيراتها على مدى حياة قاطنيها من الطوارق، أفرز رؤى متعددة، هي بمثابة معتقدات وولاء يستنبت بنى مثيولوجية سابقة للدين كمعتقد وسبيل لإدارة الحياة. أما "حامد فاضل" فقد تسلل من بيئة مجاورة للصحراء. تشكّلت بنيتها الأساسية من مجموع المؤثرات الصحراوية عبر مفردات وفعاليات وعادات ومسميات اتخذت لها سبيلا ً للتسلل إلى المدينة ?لحضرية ضمن كل امتداداتها المدنية. فالصلة بين المدينة هنا وبين البيئة لم تنقطع، بل سرى أثرها، بسبب ما لحق للأمكنة داخلها من ثبات، سواء بتأثير الحراك الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي كسجن نقرة السلمان مثلا ً. فالسماوة مدمجة في الجسد الممتد إلى الأمكنة الواسعة والمترامية، لكنها تشكّل بنية متفردة بسبب حيوية حراك الحيوات فيها. فالمدينة تأخذ من تاريخ الصحراء، وتُضيف من تاريخ المدينة إلى مدونتها، لذا فتاريخها مختلط ومن الصعب تخصيصه. فالبيئتان تأخذان من بعضهما. فهي محطة لبدء التحرك دائما ً. وهي النقطة التي تلتقيفيها القوافل فتتوزع إلى مراميها. وما مدوّنة "حامد" في قصصه المبكرة "ما ترويه الشمس ما يرويه القمر" إلا إشارة لمشوار خطته سرديات مبكرة، لجس القدرة الذاتية أولا ً، ولملمة حواشي الكتابة ثانيا ً.
يبقى العنوان بادرة تجنيس متن الكتاب أولا ً، ثم التفرد في تشكله الذاتي. كونه لم يعتمد على عنوان فرعي. بل أخذ الصفة العامّة التي يجدها الناثر أكثر توفيقا ً في عكس رؤيته ومسعاه في الكتابة. بمعنى الإشارة تكون كالآتي: كل ما هو مسطّر في الكتاب، هي مجموعة رؤى ذاتية، اتخذت من موضوعية المكان سندا ً معرفيا ً لها. وهذا لا تُحدده "مرائي" كذلك هي محاولات لكشف ما هو مهدور بدلالة "المسفوحة" لذا فأن السعي كامن في الكتاب من أجل إعادة ما كان مهدورا ً "مسفوحا "ً وبفعل وطء الأمكنة لم تطأها الكتابة. وبذلك إعادة الاعتبار للمهم?، كما فعل الدكتور "مالك المطلبي" في مدونته "ذاكرة الكتابة".

مستحمات في العراء

يحاول الرائي "حامد فاضل" أن يتعامل مع المكان من مجال العلاقة الثنائية بين الإنسان والمكان، بحيث يضع لها توصيفا ً يؤكد من خلاله حالة تبادل الصورة المتأتية من مجموع الأفعال، للوصول بها إلى التركيز، أو خلق الحدّة المتميّزة والساردة. وفي "آخر المستحمات في حمام زبيدة" يتمثل هذا التداعي الذي خلاصته العلاقة بين الجسد الأنثوي والمكان. عابراً به إلى مصاف الجنس واللذة والشبق. فالمكان "الحمّام" وكما هو معروف في الدراسات المتخصصة، إنه مثير للجنس والشهوة، بسبب ما يتم من خلاله وفيه من حراك يُزيل الدنس ويهيئ الجسد من خلال صورة الطهارة التي يظهر عليها. والحقيقة، ليست الطهارة بمفهوم المقدس، وإنما بمفهوم النظافة والتحوّل إلى صورة أخرى بفعل عوامل أخرى مصاحبة للاستحمام كالتطيّب بالعطور وغيرها. وهذا راجع أيضا ً أن الاستحمام بأبسط صوره ، يُضفي على الجسد نكهة خاصة ، وصيرورة جديدة ، بحيث يصبح مشتهى، سواء كان هذا الجسد أنثوياً أو ذكورياً. لأننا هنا نحتكم للرغبة البايولوجية وما يرافقها دون النظر إلى نوع الجنس. فالرائي هنا يفتتح تداعياته عن هذا للمكان باستهلال مشحون بالرغبة الجنسية الخالصة . ويتصاعد مثل هذا الطقس عبر انثيالات لا تحاول?استكمال دائرة اللذة، بل تمد من مسارها لغرض التصعيد وكالآتي:
"لحظة الاشتعال، لحظة من وصال، بها يتساوى جميع الرجال،
تُختم فيها العيون بشمع الخيال"
وفي هذا تتماهى الأشياء كما أشار التعبير متذرعا ً بالخيال. الذي هو امتزاج الأشياء وصورها الواضحة، إذ لا يبقى إلا عدم الوضوح في الرؤى والرؤيا. لأن الانفعال الجنسي واتحاد الجسدين لا وصف له ، كما أكد "د.هـ . لورنس" في روايته "عشيق الليدي تشارلي" وعنى بها الطقسية الجنسية من جهة واستكمال اللذة وتصاعدها المولّدة للمحبة والألفة من جهة أخرى. لذا نجد الرائي هنا يؤشر هذا من باب استقبال تأثيرات المكان. كما لاحظنا في المقطع أعلاه. ويستكمله جرياً وراء نوع التأثير:
"تُدق القلوب مثل طبول الزنوج، تضج الصدور، ويزداد فيها اللهاث".
إنه يتابع الحالات والنتائج لحظة التقاء الجسدين. وكل هذا ينضوي ضمن مجال الخيال كما ذكر. لكنه يُدقق في مثل هذا التأثير والانعكاس المتأتي من فعل الاتحاد. وهو إذ يعبر به إلى مصافي فعل الوحشية، ليس من باب الشروع، بل من إنسانية الفعل، بقدر ما يضع له توصيفا ً. إذ ليس بالضرورة أن يكون المشبه نسخة من المشبه به:
"تهيج الغرائز مثل الضواري، إذا جس غابتها الليل"
هذه المقدمات التي يُزيدها وصفاً، وتصعيدا ً للشهوة واللذة بفعل تأثير مرفقات المكان. بمعنى يستحضر الذاكرة الجسدية وهي تستقبل ما سوف يثيرها، ويُضفي عليها من متغيرات ، هي من باب مطيبات للرجل الشبق والراغب بجسد مستحمّ قشيب ومثير. لذا نجده يوغل في وصف الأجساد الأنثوية وهي تلج المكان، وتصبح تحت قبته المصممة على شكل ثديّ أنثوي صلب وشامخ. فقمته خارجا ً، وما يستظل به النسوة هو جداره الداخلي الذي يحنو شكله الذي يطغي عليه البياض الواسع والمهيمن بالانحناء والتدرج لبث الطمأنينة في نفوس النسوة اللائي دخلن برغبة ملّحة لإدالة الدنس والعالق، والظهور بالشكل الذي من شأنه إثارة الرجل على فراش الزوجية. إذا ً يكون الدخول بفعل التهيئة والتحضير المدعوم بالرغبة الذاتية، التي دوافعها الأساسية ذاتية، أي إعادة الاعتبار للجسد الأنثوي وتمكّنه من جلب الانتباه:
"بنات حوّاء في لجة الليل يكشفنَّ عن سيقانهن، فيخوض أبناء آدم في
سواقي من مُزِن العطر، ضوء الشموع ، حيث/ تتمزق أوشحة الحرير/
تتكسر مرايا الغلالات/ يتصدع خشب الأبنوس/ تحت ثقل أجسادهن
وأجسادهم"
لنلحظ كيف استطاع الرائي أن يُكثف صورة مستحضرة من المستقبل. وهي صورة تتكرر عند المستحمّات وفق كل مرة يلجن بها الحمّام ثم يخرجن بتلك الهيبة الجسدية المتغيّرة. بمعنى أنه يومئ للمكان على أنه المغيّر في البنية الأنثوية، القابلة للاستقبال. أي أنها تتعمد توفير عوامل الإثارة. ولا تتخلى الأنثى عن حمّامها أي كان وجودها. فالعرب لا يتخلون عن الجنس في أحلك الظروف قسوة وصرامة، بدليل زواج الصيغة أو المتعة. وهو الزواج المؤقت. فالمرأة هنا، أي المرأة المتنفذة اجتماعياً ــ زوجة الخليفة العباس ــ تؤسس حمّامها وسط الخلاء ــ الحراء حفاظا ً على هيبة جسدها:
"أن يبتني لها في طريقها إلى الحج حمّامها الخاص ، لتنضو الثياب
التي يعفرها تراب السفر، وتسبح فيه عند الذهاب وعند الإياب.
كي تعود لبغداد من الحج كما غادرتها؛ مشرقة وهي على طهارتها"
هذا المضاف إلى عّدة زبيدة ــ وهي على طهارتها ــ تعلم علم اليقين؛ إن الخليفة محفوف بالمحضيات. فهو زير نساء. وهنا تتداخل رواية "زبيدة" مع رواية "شهرزاد" بمهارة سردية، من أجل التوفيق بين سلطتها الجسدية، مضاف إليها سلطة الكلام المتمثل بالروي. فكان كلامها موجهاً إلى مالك "السيف / والقلب/ والعقل/ والقضيب" وهو نوع من التهكم، يبرره قوة الأنوثة وسيطرتها في فضح المستور:
"بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأس السديد أن الرشيد كان حاسر
الرأس، عاري الجسد، وفي ذروة الانتشاء، بين اللهاث وبين
التأوه، مضغوطة، متقطعة، من فمه جاءت "نعم" التي أسعدت
السيدة. فكان لزبيدة حمّامها، وكانت لهارون ليلته الخالدة".
هنا أسقطت الحكاية، لتًشيّد معمارها الجديد. بمعنى تؤسس لحكاية "حامد" وهو يوغل في سبر العلاقة بين المكان وبين ثنائية الرجل والمرأة. هذه العلاقة التي هي على حافّة التدهور بسبب الرجل. لكن تحقيق طموحات زبيدة في استحداث واستحضار المكان ــ الحمّام ــ لا لشيء، بقدر ما هو عامل هيمنة الجسد بما يمتلكه من غواية مضافة ــ التطهر ــ . ولعل الرائي في مجالات كثيرة يوّسع دائرة وصفه لهذا المكان الأثير في النص، ليضعنا أمام ظاهرة وليس مكاناً فحسب. صحيح أن الحمّام مكان، ومكان متميّز بخصائصه المتعددة، لكنه هنا بدا أكثر تعلقاً بااسرد، الذي هو جزء من السرد الأنثوي الخالق لنمط الرواية الأكثر إثارة. إن الإسهاب في وصف هذا للمرفق الحيوي دليل على أهميته عند كلا الجنسين أولا ً، وأهميته في التصوّر المثيولوجي ولكي يكون "حامد" راوياً معاصراً، يضع أمامه روي ووصف المكان مشاركا ً، وبلغة تجمع بين المنقّب والسارد على نحو:
"أدخل القصر فتظللني أقواس الايونات، ويملأ عينيّ/ منظر
الغُرف/ الحمّامات الصغيرة/ وأبوابها المقوّسة/ التي ملأتها
فرشاة الزمان بما جادت بها مخيلة الدهر من صوّر"
هذا الإغراق في الوصف، لا يُبعده عن الاستجابة لدوافعه الذكورية ، وهو يدخل أكثر الأمكنة إثارة، بل ينغمر في المخيّال حد التمثل للمشهد. وهو يحاول عكس تأثيرات المكان على الرغبة المتوهجة عند الرجل:
"أمد يدي على استحياء نحو أبواب الحمّامات التي كانت النساء اللواتي
بمعية زبيدة يغتسلن بها، أتمهل وأنا أفتحها / واحدة / واحدة / تداهمني
رائحة كانت تفوح كلما قرأت كتاب ألف ليلة وليلة. أجزم أنها رائحة
العباسيات اللواتي كُنَّ يوما ً هنا، هنا عاريات".
هذا الوصف مزيج من الصوّر والخيال، وتأكيد على قدرة الرجل على تخيّل ما قرأ ورأى وسمع. فكل هذه مرجعياته التي خلقت لنا مشهدا ً أكثر حساسية .فهو بهذا يزاوج بين تصوراته الذهنية للمكان، وبين تصوراته المتأتية من مرجع الليالي، في افتراض وجود حمّامات لزبيدة. وبهذه المكوّنات يستكمل الصورة الأمثل للمكان، الذي هو الحمّام. ولا يحتمل الرائي تواصلا ً مع ما يُمليه عليه خياله ، في تصوّر الصحراء، وحمّام زبيدة وسط البيداء إلا أن يصحو من غفوته اللذيذة، ليعود إلى رحم صحرائه، مشاركا ً البدوي مرويته، التي هي استكمال لمرويته هو:
"كيف تلقفته أذن صديقي معجم البادية، فجاءني على غفلة كالردم،
ليروزني بعين كعين الصقر، فيجفلني كطير الحبارى, قال ذلك
البدوي الخرافي: أتفكر أن تأتي إليك غزالة؟ ثق أن غزلان درب
زبيدة انقرضت، ولم يعد لها من وجود....تعال يا صديقي الحكّاء،
تعال وشاركني بذرف الجموع على هذه البادية. ما لك تتلبث متردداً.
تعال لنجلس داخل قصر زبيدة، تعال.. تعال لأحكي لك حكاية آخـــر
المستحمّات بحمّامها"