ادب وفن

الأقوال والأمثال / باسل صادق

تميل النفس إلى الانبساط وتتجنب الإحباط واليأس سيما الشخصية الاجتماعية إذ أنها تحب التفاؤل وتنشد تبادل الأقوال المتداولة. وتعتبر الأقوال المتداولة لغة محددة تؤدي إلى السلوك المنضبط الذي ينتج انفعالاً إيجابياً. وهي على عدة صياغات حسب الموقف الذي تفيده كالحكمة والطرفة والوصية والمثل والقول المأثور وهذه كلها ذات بناء حكائي متسلسل وهي تعبر عن مدى الخبرة والاطلاع والفهم في الحياة. والشخصية الاجتماعية تميل إلى التفاؤل لا النقد والتجريح. كما وترتبط بالشخصية الإبداعية التي تنتج الفكاهة, مع احتفاظها بالجدية والتفاؤل معاً. فهي بذلك وضيفة اج?ماعية للتواصل مع الناس فالراوي يتحكم بالآخرين بإزالة الخوف عن الناس مقابل مواجهة السلطة السياسية لتحديد الخطأ وتحسين الظروف السيئة.
والأقوال المتداولة هي ما تنماز به المجتمعات المدينية أي المجتمعات ذات الأدب والثقافة المؤسسة أصلاً في المدن أي مدن السومريين والآشوريين واليونانيين حصراً؛ إذ أن هذه المدن هي التي ظهر فيها الأدب بانتقال الحكمة المكتوبة والشفاهية مع تعلم الكتابة وانتشار المدارس وذلك بانتقالها من الخاصة والحكام إلى عموم المجتمع ومن هنا انتشرت الثقافة لتشمل الدنيا بالحكمة وبالتجربة.
والأقوال المتداولة تتمتع بميزات معينة فهي واعية ورصينة ونامية فهي قابلة للانتشار في الشعوب الأخرى بعد صياغة المعنى باللغة الجديدة فيما تستفيد منه المجتمعات وتفيد من النصيحة؛ فمن البداهة المصاغة ما يدلك على أسلوب طلب النصيحة ويُهديك إلى الفهم الذي لا يقع إلا بالصدفة أو بالقدر أو ربما بالتجربة المصحوبة بالخسارة الفادحة. فالفائدة من المثل هي ما يكون مصاغاً لدرء الفعل الخطأ وليس المثل ما يقال للنكاية بعد وقوع الفعل الخطأ.
وتفرق الطرفة عن الحكمة في أن الطرفة هي انحراف المصداق مما يسبب الإدراك المفاجئ لدى المتلقي ويثير الضحك أما الحكمة فهي بالعكس فإنها استعادة المصداق. وقد تكون الطرفة متأخرة عن الحكمة فالطرفة تنشأ في الطبقات الاجتماعية التي تعاني الخنق السياسي وتتحيز إلى الطبقة التي تنتمي إليها وتتحيز إلى فئة دون أخرى ومجتمع دون آخر. والطرفة خصيصة في مجتمع معين. المصداق في الطرفة أشبه بالحكمة.
أما الوصية فمنها ما هو مشهور كوصايا الحكيم أبيقور الذي ظهر في مصر وأصله من نينوى.
فالأقوال المتداولة هي من وسائل السيطرة القليلة والسريعة على سلوك الأفراد, فهي من وسائل نشر المعلومة وهي قد تتحيز إلى طبقة اجتماعية دون أخرى لتسم تلك الطبقة الاجتماعية بالطابع الخاص الذي يميزها.
لقد كان المجتمع القديم في حاجة إلى الأقوال المتداولة لغرض لازم هو التوجيه والإرشاد, ولقد وجدت الحاجة إليها مع ظهور التعاليم الدينية التي يأتي بها المرتحلون طالبين الاستقرار. فالأقوال المتداولة تعاليم بسيطة تجمع المقدس الديني, والتشريع الإنساني. فهي لم تكن حكراً على طبقة دون أخرى بل كانت من حظ الطبقة الاجتماعية الأوسع والأكثر تأثيراً أي الطبقة الوسطى وطبقة الكادحين, ولم يكن ثمة جانب من جوانب الحياة إلا وتطرقت إليه الأقوال المتداولة, وهذا مما يميزها فالتوثيق والبحث هما من مميزات الأقوال المتداولة. وبالرغم من?أنها أشبه ما تكون بالتعاليم إلا أنها ليست حكراً على أنصاف الآلهة فهي بذلك لا تفسر كما يحلو للمتسلط المصاب بغرور العظمة فالأقوال المتداولة غير قابلة للتأويل حسب الأهواء إلا أن يتم اجتزاؤها فتخرج عن النمط. فهي بسيطة وواضحة ولا تتسبب في جلد الذات أو لعن الجسد بل لإنقاذه من المواقف وتوجيه السلوك. ولا يورد المثل بعد حصول الشيء إنما يورد عن موقف معين وذلك لدرء حصول الشيء المؤسف. وينبغي تصنيف الأقوال المتداولة حسب الموقف الذي تورد فيه.
إنما يضرب المثل لحصول الشيء فيصير قولاً مأثوراً. كما وأنه لا تنسحب الألفاظ القديمة على الأمثال من قبيل "بعد نفاد الأوان" "على أحر من الجمر" ويتم إيراد الأقوال لغرض الاستنكار فهي تكثر لدى من يعيش حياة الصحراء نظراً لتمكن القوي من الضعيف دون وجود صراع محتدم مثل القول المأثور الآتي "الطيور على أشكالها تقع".
أما ما أنتجه العرب في الجزيرة العربية من الأقوال المتداولة كنثر قبال الشعر فلم ينتجوا منه شيئاً إلا مع اختلاطهم بالثقافات الأخرى وأما الاعتقاد القائل باحتمال وجود النثر الذي يُحكى ليلاً فإن الليل بالنسبة للعربي سكن منذ أوله ولم يكن يقال فيه حتى الشعر. لكن ثمة نثر مشهور: حكم, مواقف, خطب, مفاخرات, مقالات, مقامات, وصايا, وقصيدة البند... وهي نصوص تنماز بالطول وليست مثل الأمثال إنما تشابهها في التسلسل الحكائي بإيراد الحكمة.
ومر المجتمع بالمراحل القاسية حتى ظهرت أقوال من قبيل "إذا كان رب الدار بالدف ناقراً فشيمة أهل الدار الرقص والطرب" تعبيراً عن الشعور بالأزمات المزمنة. وتعبيراً عن أن المجتمع في نموه وتطوره ليس على ما يرام. فهناك الكثير من الأدواء والمعاناة الاجتماعية والاقتصادية التي تقتضي المعالجة السليمة.
إذاً فهناك عنصر الزمان يدل على التأريخ وعنصر المكان ويدل على الجغرافيا وهكذا فهناك اهتمام واضح بالجانب التثقيفي للإنسان وهنا يكتمل عنصر الجمال فالأقوال المتداولة تشعر الإنسان بالانتماء إلى جذوره كما وتمتعه بالعمق كمجتمع.
فيما سبق كانت فكرة الحكومة أنها عادلة بالبداهة ولم يكن ثمة تفكير باحتمال حصول الظلم من قبل الحاكم على المحكومين وذلك حتى حصول الاعتداءات الخارجية, ومن هنا بات ظهور الحاكم الأجنبي على المجتمع المديني غالب الحدوث وبات حصول الظلم من قبل الراعي على الرعية ملازماً للحكم. ومن هنا بدأت تحدث هجرات تحمل معها تباشير دينية ذات أحكام واسعة معتمدة على اللغة المنطوقة (غير الصوتية) والطقوس. وهكذا بقي المجتمع يحكم نفسه بنفسه من خلال الأقوال المتداولة. وبات المجتمع يتداولها بصفتها جزءاً من اللغة المنطوقة وظل يحسن تداولها ع?ى مر الأجيال مع تراكم الخبرات الحياتية.
بدأت الأقوال المتداولة كتابية وتم نشرها من الخاصة إلى العامة وذلك في المناسبات الطقسية عن طريق أسلوب السرد الغير كتابي وصار خطاباً أدبياً سلس التناول وكان هذا من خصوصيات المدن في إنتاجها للأدب ونشرها للثقافة.
كان المجتمع في أول نشأته يركز اهتمامه على كل فرد متراجع أو متخلف وهذا ما جعل ذكاء شعب ما بين النهرين متفوقاً حتى بالنسبة إلى مستوى ذكاء الإنسان الآن وهذا ما يحسب في صالح المجتمع الأول وليس كما الآن حيث يتم تشجيع المتفوق وإحاطته بأسباب التميز نكاية بالآخرين. كما كان للمجتمع الأول خطابه الجمعي السليم والأصيل حتى تعرض إلى الهجمات الهدامة شرقاً وغرباً حتى بات مفتقداً إلى كل تلك السمات الحسنة التي كانت فيه والتي كان منتفعاً منها حد الاكتفاء. والأمثال الشعبية هي ذات الأصالة ومنها يتم نقل معانيها لتفيد الحراك الث?افي ولا يصح أن نقول الأمثال العامية فال"عامة " هي لفظة قديمة ظهرت في عهود القمع الأولى. وهي تدل على التصغير.
كتب أحدهم على حائط أحد الكراجات " تبدأ الحرية عندما ينتابني الغباء" فالإسمان "الحرية" و"الغباء" متباينان رغم وجودهما في نفس الجملة وهذا يدل على مدى التشظي والتنافر الذي يعاني منه المجتمع الآن.
لا يمكن للعراقي أن يجد وطناً بديلاً عن العراق, ويمكن لغير العراقي أن يجد في العراق وطناً صالحا بشرط أن يتمتع الأخير بالثقافة العالية والغير متعاكسة مع العادات والتقاليد الأصيلة. والعراق هو المستقطب للعولمة مهما وصلت الدول القصية من القوة والتطرف.
ما أقوله ليس نزوة عابرة أو تشهياً ولست أدعي أنني قد أحطت الموضوع بالمعلومات الوافرة إنما كان قبساً من الضياء أسلطه على تساؤل كامن في أعماق كل منا عن أصلنا وتأريخنا. إنما نحن في حاجة ماسة إلى كثير من الباحثين المجربين ليجسوا بأدواتهم مكامن الكنوز التي خلفها لنا الماضين لما فيها من العبر وعناصر الانتماء.