ادب وفن

المكان غير الموطوء (2-3 ) / جاسم عاصي

البئر والدلو
ارتباط الدلو بالبئر كارتباط الدليل بالصحراء. فثمة تيه مائي، مثلما هو تيه رملي. فالواقف أمام شفة البئر دون دلاء، مثل المنتصب وسط شعاب الصحراء وامتداد صفرة رملها دون دالّة، فالدليل هو الفيصل، إذا ما كانت المغامرة بالدخول إلى صخبها وهدوئها المتواصلين حد التطرف. فالصحراء قيظها قيظ ، وبردها برد.
لذا استعان الرائي في مرآه التي استدعينا عنواناً لها بـ "البئر والدلو" لا لشيء، سوى أن لا نتيه من مخطط ابتناه لنصه، وذلك بالاستعانة بالتاريخ أولا ً، وبتأريخ المكان ــ الصحراء ــ ثانيا ً، والمكان كمطلق ثالثا ً. لذا نجده قد زاوج بين رؤية المكان مجردا ً كما اعتاد تصحيف فقراته، وبين رؤية تأريخه المضاف من خلالها متغيّر وقف إزاءه على الحياد. وهو فعل "جون غلوب باشا" مكتسباً شهرته من شهرة البيئة التي استهواها، ومارس فيها تأسيس مكان مضاف وهو الحصن الذي تحوّل في ما بعد إلى قلعة قامعة لأحرار البلد ومناضليه. أي أنه دون أن يدري، أو تراوده أدنى نسمة من حلم النوم واليقظة؛ إن هذا الحصن سوف يغدو تأريخا ً لأجيال قادمة، لا تحكي سوى سيئات الذين دخلوا بيئاتنا مكتشفين ومنبهين أنفسهم إلى سحرها الأزلي كبيئة الصحراء والأهوار. لكن ما يسجل إيجابا ً لبعضهم، كونهم وضعوا عقدا ً اجتماعيا ً بينهم وبين أبناء البيئة كمثل "ثيسغر ومالوان" لذا فالنص هنا اتخذ من التاريخ متناً، لكنه كان كذلك بعد أن اجتاز عتبات قدّم من خلالها مديات العلاقة بين الصحراء تلك وشعراء العرب، وحصرا ً "بئر بصية". لا شك إن المهاد التاريخي والطوبغرافي مفيد في مثل هذه الكتابة لتأصيل وجود المكان، بالرغم من وجوده قبل هذا التاريخ المضاف. لكنه بطبيعة الحال مكان أطلقنا عليه "المكان غير الموطوء" توصيفا ً لكل ما ضمه كتاب "حامد فاضل" فقد حاول الرائي وهو يقدم مهادا ً لفصله أن يدخل في البُعد الجغرافي الذي هو دال على تحوّلاته. فتحوّلات المكان تعني تاريخه. وتحوّلاته على يد الإنسان، تعني أيضا ً تحوّلاته بفعل فاعل. الصحراء مكان منظّم، فيه خصائص غير مرئية للبعيد عنه. ولمن يعيش بين ظهرانيه لهذا السبب أو ذاك يكتشف بعضاً من سره. أما لمن قطن وسط فيض اتساعه فقد أحكم سر سره، أو امتلك مفاتيح أبوابه. ما ترشحه التوصيفات عن جزء من المكان العام الصحراء وهو "بصيّة" أو "بصوّة" يكمن في تلك العلاقة بين المُغيّر والمتغيّر، بين الأصيل والمضاف، بين النوع النقي والآخر المشوب، الذي يصفه الرائي بـ "سنوات عجاف، الجدب، الجفاف، القحط" وما إلى غير ذلك مما تعايش مع المكان، وصاغ صيرورته المتقلبة.
"أرسلت الشمس لتحرق بقايا الغدران والبِرك، وتفتت بشواظها فلول الجنادل، وأمرت العواصف بنشر فتات الحجارة، والهواء بغربلة الرمال/ ولنسيم بخلع غلالة الطراوة على جلد الأرض.. فنمت الأعشاب بين أحجار/ الملح/ الرمل/ الطباشير/ وامتلأت الأرض بالصلصال المنحدر من عصر الميوسين "عهد فارس الأعلى".
وهكذا يكون التماثل مع ما سطرته قصة الخليقة البابلية، باتحاد "الآبسو وتيامات" وما تلاه من توصيفات حققت صيرورة الخلق ونظريته. ولعل مسار التاريخ حدا بالرائي إلى أن يستعين بأكثر المجسات التاريخية حساسية، ففي شخص الشاعر "مالك بن الريب" أمثولة استعان بها الشاعر "يوسف الصائغ" لتتماثل مع شخصيته، فقد استفاد "حامد" من نفس الشخصية منطلقاً من علاقتها بالصحراء. وهو لا يخفي ما أدركه بحسه وهو يطأ الأرض التي كان قد وطأها ابن الريب يوما ً:" أقسم أني حين نزلت لأول مرة بوادي الغضا أن مزنة من شعور غريب لا توجد إلا في ذلك الوادي، رشقتني على حين غرة، فنسيت نفسي، ونسيت صديقي البصوي. ووجدتني مشدود العينين إلى ضوء نار الغضا الذي احتطبناه وفي ذروة التهجد، سمعت صوت ذلك البدوي مال ابن الريب يتردد في داخلي:
"ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا"
متخذا ً وكما ذكر من "النقاء، الحنين، الزمان السحيق" مؤولا لما يحس ويشعر. حيث يتواصل مع ابن الريب في أحلك لحظاته وهي لحظات الموت. كل هذا يتخذه الرائي من أجل تأصيل المكان، وخلق بؤره النافذة، سواء مكان "بصوّة" أو سواها. فالرائي فرش لمرويته بساطا ممتدا ً، بعد أن ابتدأه في مروياته "ما ترويه الشمس.. ما يرويه القمر". وهو إذ ينتبه لحظات فحصه لما يحيطه .فقد وجدناه ينتبه ويُصغي لنداء أبن الريب، وها هو يوجه نداءه كعرّاب الصحراء، ذي الخبرة بأسرارها:
"يا رواة البادية.. يا حفظة كتاب الصحراء.أيها الحكّاؤون المالكون لخزائن أسرار/ الإبل/ العُشب/ الماء/ الرمل/ ممن يدّلني على ذلك النسّاب العليم الذي ورد ذكره في حكايات المضايف.. ذلك القوّاف الأسطوري الذي تتبع جذور تأثيث الصحراء بالكائن الحيّ، ليخبرني عن أصل هذه الناقة "الوضحة" التي تخطر أمامي بين شجيرات الرمث.. سأترك لمخيلتي من هذا الوقت إلى أن أجد ذلك النسّاب".
بمعنى يفعّل مخياله في وصف صحرائه المجابهة له. فيصف كل ما من شأنه دال على الخصب والإرواء، حتى يتوصل وهو يصف طبقات تاريخ الصحراء السيسيولوجي، ليتوصل إلى حقيقة لا مناص منها:
"يا لقوة وصبر أولئك الأعراب الذين نحتوا هذه الآبار في حجارة بصيّة، وتركوها فاغرة لدلاء الزمن".
لذا فولوجه إلى تاريخ الواطئ للصحراء من غير أهلها, لا من المقربين إليها، هو نوع من الانتهاك متمثلا ً في شخص "جون باشا" باني القلعة العتيدة بأمر من بريطانيا، امستشرفا ً نبوءة غامضة ومسكوت عنها:
"هل دار بخلد تلك السيدة الانكَليزية التي فاجأها المخاض في منزل في برستونفي لانكشتر بإنكَلترا المكللة برغوة الضباب، أن الوليد الذي انزلق من رحمها، سيحلّ يوماً في بئر بصيّة ليلتقي بذلك البصوي الذي ولد في يوم يجهله التقويم الميلادي، ليرسما على بساط من الرمل خريطة بصيّة، ويصنعا تأريخها الحديث".
ويكون "جون" شخصا ً مألوفاً في بيئة الصحراء، لاسيّما حين رفع لثامه فظهر لهم منظر حنكه، من يومها لُقّب بأبي "حنيك" وليفسح له المجال الحيوي للدخول إلى كبد الصحراء بنمط لا يخلو من الأسطورة في شيء. فهو قد تاه في الصحراء ، ووجد ضالته في أهلها . وكانت له المرقاة التي غيّرت من طباعه وصيرورته. وكما وصفه الرائي:
"بعدما استبدلت دماؤه السكوتش بالقهوة، وامتلأ صدره بدخان اللفائف بدلا ً من دخان السيكار، وتدفأ بنيران الغضا، بدلا ً من نيران مواقد الخشب، وشبع من حليب النوق ولحم الغزلان، وأترعت مخيلته بقصص الجِن والغزو، وأطربه غناء القصيد، وساح في بادية بصيّة قانصاً. صائدا ً حتى أجاد لهجة البدو، وتشبع بعالم البداوة، فدفن غطرسة المستعمر في أعماق ذاته الباردة".
من هذا كله، أراد لنا الرائي أن ندرك مؤثرات الصحراء، وما استجد فيها، سواء من دخل إلى حاضنتها، أو ممن غيّروا في بنيتها.

المرآة المقعرة إلى الأسفل

إذا كان الرائي قد وصف "نقرة السلمان" بمرآة الرمل المقعرة، فأننا واصفو تقعرها إلى الأسفل، استنادا إلى كونها "نقرة" يكون ميل تقعرها إلى الأسفل، بمعنى الانخفاض وليس التحدب. وفي هذا مقاييس عامة وخاصة. ففي كوّنها عامة، يعني وجود المكان في البادية فرض عليها هذا الشكل. وهذا منافٍ لبدء تصور صورتها التي وقعت قبل التشييد على الاختيار. وبهذا نكون أمام حقيقة هذا الاختيار ،خاصة من قبل "كَلوب باشا" وجه الاستعمار الواضح. أما في كونها خاصة، لأنها اتبعت الأثر والتأثير، في اختيارها وتكييفها كحصن وسجن عتيد. ولعل للرائي في توصيفه بكوّنها "مرآة الرمل المقعرة التي تعكس وجه السماء وهي تتمرأى على أديم المنخفض"، وفي هذا أيضا ً نجده يتحد بمكوّناتها من باب العلاقة الصوفية عبر فيض نورها الذي يغمر الآماد المفتوحة. فهي الصحراء "أنى يرعى بصر الرائي، فليس ثمة إلا العابد والمعبود. عين المخلوق الناظرة إلى جمال الخالق. إحساس الكائنات الصحراوية بيده الكريمة وهي تجس مسامات الرمل".
يبدو أن هذه القطعة من المرائي، قد تكللت بالرؤى الصوفية، وأطّرها الوجد والعشق بما أضفاه الرب على الطبيعة تلك. من هذا نجد الرائي لا يبحث سوى عن حكاياتها وما فيها من تاريخ. أي يشطر ذاكرة الصحراء كي يكشف عن نزوعها وتحولاتها عبر الحُقب. إن التحولات فيها ــ كما تبدو للرائي ــ دليل عدم استقرارها على حال، فهي جامعة لـ "حكايات أهلها ، عن سجنها الرهيب الجاثم كقبر خرافي في الصحراء. تلك الحكايات العصية على التصديق لفرط غرائبيتها".
لقد سجلت الصحراء هذه مقاطع طويلة نسبيا ً من تاريخ المناضلين، فوشمت قلعتها العتيدة أجساد السجناء بعلامات الصبر والجلَد، يوم كانت الأمكنة تُقاس بغرابتها وبعدها وغموض حكاياتها. وإن توفرت فهي لا تحمل سوى بشائر الموت للتائهين في رحابها الغامضة. وهي بالتالي:" تُلقي لتحية الصباح على سجناء سجن النقرة، ومن كل كوة تنفذ لتصافح أكفهم المشرئبة نحو يدها. وتطيل المكوث في رحبة السجن الذي ظل طوال الليل يزفر آهات السجناء/ أنينهم، حشرجتهم/ أحلامهم المنخنقة/ في زمن عنكبوتي ضب شباكه، وطوى أشرعة أحلامه وولى". من هذا كان الرائي جوّاب صحراء، باحثا ً ــ كما ذكرنا ــ عن حكاياتها المروية من أفواه الحكّائين . فما كان منه إلا أن أختار حكيم الحكّائين الذين انقرضت سلالتهم، فالرائي يجالس "آخر حكّاء من سلالة حكّائي الصحراء المهددين بالانقراض، شيخ وقور، جبين واسع مغضّن كدرب صحراوي، عيناه أتعبتهما سنوات طوال من النظر في الآفاق بحثا ً عن آمال ربما تحققت وربما لم تتحقق". كانت حكاياته جزءاً من التاريخ العام للبلاد أثناء الاحتلال البريطاني، فقد مزج بدربة ألحكي بين ما انطوت عليه الصحراء من سر خفي، وبين وطء أقدام الأجنبي للأرض البكر، التي لم يطأها سوى أبناءها، فتباركت بخيراتها وخصب أرضها، وفيض آبارها، وبين الفينة والأخرى يحيي نمط الحكاية، ويستدرك "هل أنت معي"؟ وهذا يذكرنا بجملة الحكاية، ودربة منضديها شفاهيا ً، بسحر الروي، وشخصنته للهيمنة على أفئدة المصغين.
هكذا ينضد الرائي حكاية صحراء السلمان، وبهذه الحنكة في الروي، يحتوي التاريخ الذي يعتبره البدوي المتمرس تاريخاً غير مدوّن فيشرع بإباحته شفاهيا ً للآخر المصغي، من أجل أن ينفض عن كاهله ثقلا ً طالما ناء بحمله وهو الذي تشرع سنواته بانقراضه كالآخرين، ولأن الرائي يطمح بالوقوف على مصادر الحكاية، حيث نذر وجوده كجامع نص الصحراء منذ أن دوّن أول السطور في هذا الكتاب. فهو داخل إلى مكان تتشعب فيه الحكايات، ويبرز ما ضُمِر من السرود والمرويات، كما انطوت ذاكرة الزمن بفعل الإهمال من لدن الحكومات التي تشدقت بوطنيتها، أن تسدل الستارة عن أهم معلم في صحراء السلمان. ألا هو "سجن نقرة السلمان" العتيد، واقترانه بمشيّده "كَلوب باشا". هذا السجن ــ الحصن ــ له رواته، ممن اكتووا بنيران سنينه العجاف، بوحدة الهاربين منه، المحتفين بموتهم ضائعين ينهشهم العطش قبل أن تفترسهم الذئاب المسعورة. كانت البشاعة ماثلة في ما يروى من حكايات هي بمثابة أخبار السجناء، أخبار حياتهم ومصائرهم، وأسلوبهم في تنظيم الحياة في السجن. وهي أيضا ً شذرات من بنياتهم الفكرية وانتماءاتهم الدينية والقومية والسياسية. قوم اندمجوا في مصير واحد، ففرضت عليهم الحياة نسقاً جديدا ً فرضه المكان بتعزيزاته الصحراوية ، ونظمته قدرتهم في استلهام أفكارهم وتمثلها في الواقع الشائك. روى عن طبيعة حياتهم، وكيف يكونون في حاضر النهارات والليالي، وعن تاريخ إضراباتهم واحتجاجاتهم واستقبالهم للسجناء الجُدد الذي تم نفيهم كأقرانهم السابقين لهم. حتى يُعزز روايته بموقف الجواهري الشعري، وهو يتلو قصيدته الشهيرة في دمشق، ويسمعها السجناء من خلال المذياع المصنّع داخل السجن والقائلة:
خلّفت غاشية الخنوع ورائي
وأتيت أقبس جمرة الشهداء
حتى يصل إلى:
آمنت إيمان الدماء بنفسها
فإذا الصبيغ بها صباح مساء
عندها، وكما ذكر الراوي الذي عاش الحادثة أن قال:
"صفّق الشاعر محمد صالح بحر العلوم كفيه وصاح:"سواها أبو فرات"، مندهشا ً ومنبهرا ً ومنفعلاً باعتزاز شاعر كبير بشاعر