ادب وفن

«وجهي بصراوي من سومر*».. التدوير وتداخل الأزمنة / علوان السلمان

النص الشعري "الخيال الذي يبعث الروح في العدم" على حد تعبير بايرون.. تفاعل الذات المنتجة واللحظة الخالقة لحقلها الدلالي بتدفق وجداني يستفز الذاكرة بقدرته التعبيرية المتكئة على بؤرة موضوعية تسهم في تشكيل صوره الشعرية المقترنة بالمحسوسات التي تضفي عليه قدرة التوصيل والتواصل..
والشاعر كاظم الحجاج في نصه الشعري "وجهي بصراوي من سومر".. يحقق لحظته فيه كونه نص يشتغل بعمق معرفي يثير الأسئلة من ركامات الوجود بكل تناقضاته.. باعتماد لغة يومية محققة لغرضها الوظيفي في نقل المعنى بعيدا عن الغموض والإبهام والرمزية الفوضوية المتباعدة عن دلالاتها.. فضلا عن اكتناز غرضها الجمالي وطاقتها المتوهجة بايحاءاتها وخيالاتها....
"امطار البصرةـ سبحان الله ـ كما الجدري تنقر وجه النهر.. هنا في البصرة.. نحن نقول: الدنيا تمطر.. لا حظ كل الدنيا نعني.. لكن تبتدئ الأمطار هنا من غيمة حزن سوداء الدمعة.. اعني الأولى لا تسقط إلا خجلى مثل حزين خجلان.. هنا في البصرة لا يبكي رجل قدام الناس.. بلى.. قد تبكي أم علنا.. لا لوم على ام عادوا ببنيها ملفوفين بأعلام الدولة أو ملفوفين بأعلام الأحزاب الآن....".
فالشاعر بقدرته وإرادته الفكرية يتحكم بالشكل الفني فكان ناثرا لنصه من اجل تشكيل بنية فنية حداثوية جامعة بين ثنائية الشكل والمضمون والتي تتجلى فيها الصورة الجدلية بين الذات والذات الجمعي الاخر.. فيقدم نصا يقع تحت تأثير مؤثرات صوتية وصورية ولونية منحته صفة التحول في الرؤيا والصورة الشعرية تركيبا وبناء فنيا مع ايحاءات تفضي الى دلالات معرفية من خلال استدعاء الرمز الذي اسهم في اثراء المضمون وتوسيع مدى الدلالة التعبيرية.. ابتداء من العنوان النص الموازي المتشكل من ثنائية..
الانا/ الحاضر "وجهي بصراوي"
والـ هم/ الماضي "من سومر"..
وقد جمعتهما مشتركات جمالية وتعبيرية متمثلة في كثافة الدلالة والتركيز والإيجاز.. فشكلا فضاء النص "العلامة السيميائية التي توحي بسعة الأفق".. ومفتاحه الاجرائي في بعديه الدلالي والرمزي..
"قد تبكي أخت عادوا بأخيها "عبدالمعبود".. بلا رأس أو عادوا بأخيها.. "عبدالعباس".. الأسماء هنا في البصرة لا تعني شيئا فلدي صديق يدعى "هادي" ـ والاسم هنا بين هلالين ـ ولكن "هادي" هذا فوار مثل تنانير الأرياف.. "جميلة".. جارتنا أقبح من تمساح وأنا "كاظم"، أعني اسمي لا أكظم شيئا حتى ضد امراتي.. و"المجلس".. لا يجلس إلا حين يسافر نواب الشعب.. إلى عمان.. إلى أين ذهبت؟.. أنا أعني: عادوا بأخيها "عبدالمعبود" بلا رأس.. تدري في الجبهة ـ لا عادت أيام الجبهة ـ قد ينسى جندي كل الأشياء هناك بما فيها الراس..وقد كانت نائمة من هم البيت فلم يوقظها "عبدالمعبود".. مشى للجبهة سرا هذي المرة في الفجر.. وكانت تمطر.. اعني كل الدنيا والأخت إلى الآن وقد صارت في الخمسين تخرمش خديها..: يا "عبدالمعبود" لماذا لم توقظ أختك؟ للان المطر الجدري ينقر خديها والدنيا كل الدنيا تبكي.. حتى النهران التقيا في رأس البصرة من "شجرة ادم" كل دموع النهرين تصب هنا وانا ـ استغفر ربي من قول انا ـ اعني: اني بصراوي من "سومر" حمدا لله ووجهي من طين الزقورة والطين يداس.. بلى.. لكن من دون اهانات..حتى يتخمر بالتبن.. وقد كان الأجداد يدوسون الطين مع التبن ـ كما نرقص نحن ال?حفاد الآن ـ فنحن البصريون اعتدنا ان نرقص فرحانين ونرقص فوق الطين ونرقص مقهورين ـ كما الإفريقيون ـ ونرقص مذبوحين كما من عشر سنين.."
فالنص الذي هو اقرب الى التركيب منه الى التشكيل بجمله القصيرة المتلاحقة المكتظة بلحظاتها المشهدية البعيدة عن الاستطراد الناتج بحكم الاستغناء عن استخدام حروف الربط والعطف "الا ما ندر" والاكتفاء بتنضيد ورصف المعاني من اجل تنامي الفكرة وتكامل جزئياتها للوصول الى ذروتها واغنائها معنويا..
فالشاعر يستعير الوسائل الفنية للسرد "حدث/ حبكة/ شخصية/.." ويخضعها للغة الشعر من اجل بناء نصه ومد جسور التواصل بين المضمون المعنوي والشكل البنائي اللغوي عبر لغة يومية مكتظة بالمعاني والصور المختزلة المشحونة بطاقة تأثيرية.. وهذا يعني انه يعتمد خطين فنيين متداخلين في بناء هيكلية نصه :اولهما سردي وثانيهما وصفي للذات المازومة من اجل خلق نص يمتلك خصوصيته برؤاه ومضمونه ولغته وتشكيله الإيقاعي وخروجه عن المألوف واعتماد الاستعارات والرموز في بناء صوره الفنية لتحقيق نصا معرفيا .. جماليا ينتمي بجدارة الى الواقعية الجد?دة.. كونه نص يحتضن هدفا اجتماعيا.. انتقاديا.. ومضمونا سياسيا.. فضلا عن انه ينزع الى الحداثة الشعرية اذ فيه يمزج الشاعر الفكري بالوجداني عبر مقومات الأسلوب الجمالي بنزعة تفاؤلية مع تصوير البؤس الإنساني الذي يشغل فراغات "البصرة" المدينة التي تحمل معنى الاستلاب والإحباط من جهة ومن جهة أخرى تحمل معاني الرقة والدفء والحب وهي تسبح في حلم الشاعر وعقله الباطني.. كونه يلمس ويعايش مظاهرها ماديا ويتعامل معها..
"عيب البصريين الاصلاء الطبل يخربط مشيتنا..لا بصري اصيل يمشي "محترما" والطبل يدق.. "افا".. فالبصري خفيف القلب.. خفيف الرجلين.. انا اعني: ارجلنا ملك للطبالين.. اسأل "سعد الياس"..او فاسال "تومان".. لماذا "تومان"؟ اليست جدتنا "رابعة العدوية" كانت راقصة.. رجلاها ملك للطبالين؟ ولكن لم يقتلها احد.. ما كان هناك رعاع مثل اليوم ولا تكفيريون.. وما كانت رشاشات مثل اليوم.. "الرشاشات" أيام "الجاحظ" يرحمه الله ويرعاه زجاجات من "جيرانستان" ترش العطر وماء الورد.. وما كان الجيرانستانيون يسدون الماء عن البصرة مثل الان.. انظرلاين ذهبت؟.. انا اعني كانت "رابعة العدوية" جدتنا راقصة.. لكن لم يقتلها تواب من توابي "شارع بشار".. "هنا البصرة".. لا اعني بشار الشام ولم يقتلها "اخواني"..لا اخوان له.. حتى امتد بها العمر فصارت "عذراء البصرة"..
فالشاعر يبتكر الصور عبر لغة تميل إلى التعيين مع استنطاقها الذهني بنقلها الأفكار بمشهدية مؤهلة بمناجاة الفن السيمي المليء بالدهشة وسعة مثول خارطة المفارقة والإثارة.. بسردية تعتمد المبنى الحكائي المتكئ على مشاهد صورية الرؤية والأبعاد من خلال هاجس ذاتي ولغة متميزة بمفرداتها اليومية ونسجها بأسلوب شعري يقوم على إدراك حسي.. ذهني وتقنية شعرية تعتمد: بنية التعبير وبنية المعنى في خلق صوره الشعرية التي تعكس معالمها في أكثر من شكل عبر مرآة النص التي يتوالد منها تعدد الرؤى والمواقف التي تعتمل في نسق البنية النصية.. فضلا عن توظيف الرمز الديني من اجل اغناء النص والتعبير عن القيم الاجتماعية والروحية التي تتلائم وما درجت عليه الذاكرة الجمعية بوصفه جزء من التراث وباعث من البواعث الروحية لما يشكله من حضور في اللاوعي الجمعي الإنساني... إضافة إلى ذلك توظيفه تقنية التكرار الظاهرة الصوتية التي تحتضن دلالتها النفسية..كونها تعد من الأنساق التعبيرية في بنية النص والتي تسهم في ارتباط أجزاء الكلام وتقوية المعنى وتوكيده..فضلا عن تأثيرها على المستويين: الصوتي والدلالي.. فتكرار عبارة "الى اين ذهبت"؟، التي شكلت الاطار الموجه للبنية المقط?ية التي اعتمدت الانتقال عبر التساؤل في جملتها التي فرشت روحها كقافية ملازمة لمقاطع النص وامتدت على امتداده كي "تمكن النص من العودة الى لحظة البدء أي لحظة الولادة.." على حد تعبير محمد لطفي اليوسفي من جهة وتقوية الاحساس بالحالة النفسية القلقة التي يعانيها الشاعر من جهة أخرى.. إضافة إلى ما تحدثه من إيقاع داخلي يهدف إلى التأثير وفتح الفضاء الدلالي للنص..
"اين ذهبت؟ انا اعني.. لا شأن لنا بالاخوان المصريين ولا بالمصريين "الاخوان" ..ونحن لدينا هذا الكم وهذا الهم من "الاخوان" النواب.. انا اعني نواب الأحزاب.. انا لا اعني نواب الشعب.. لدينا شعب لا نواب له.. حتى الكتل الكبرى ليست من طين حري.. ليست من طين الزقورات الممزوج مع التبن.. لدينا تبن لا غير..الى اين ذهبت؟.. الى اين ذهبت؟.."..
وبذلك قدم الشاعر نصا متجاوزا للشكلية.. سابحا في عوالم النص المدور بلغة سردية تناسبه.. كونه تجديد في الشكل الفني المستوعب للنص بألفاظه وجمله وتشكلاته المعتمدة على المقطعية المتداخلة والمتتابعة بحركة متدفقة تسير بخطين متداخلين: أولهما عمودي يتجه صوب الماضي وثانيهما أفقي يدخل ضمن المعاصرة التي تشير باتجاه الحياة الإنسانية وصراعاتها.. مع انفتاح على عوالم نصية بلغة تقترب من لغة التاريخ مع تماهي الحس الميثولوجي والديني على امتداد النمو الجسدي للنص حتى صارت تلك الدلالات النسغ الذي يحركه بتماهيها وصوره المتخيلة وهذا ما عزز من نمو الخطاب النصي والكشف عن بؤره الزمانية والمكانية المحركة له..
ـــــــــــــــــــــــــ
* "طريق الشعب" العدد 30 ـ الخميس 11 أيلول 2014