ادب وفن

لقاء مع مثقفي بابل : الثقافة والمثقفون في مواجهة التحديات الراهنة

الحلة – طريق الشعب

التقى الرفيقان رائد فهمي والدكتور علي ابراهيم الجمعة الماضية مع مجموعة من أدباء وكتاب وفناني محافظة بابل، في جلسة حوارية كان موضوعها "الثقافة والمثقفون في مواجهة التحديات الراهنة".
وفي مستهل اللقاء اشار الرفيق رائد فهمي الى خطورة التحديات التي تواجه العراق، وطنا وشعبا، من قبل قوى الارهاب التي تتمدد مرتكبة افظع الجرائم. كما أشار الى ما كشفته الانهيارات العسكرية في الموصل ومناطق اخرى من حالة ضعف بنيوية في الدولة والمجتمع، وتمظهر كارثي لأزمات ما انفكت تتفاقم منذ سنوات. ووقال ان ذلك انعكس في انتكاسة عملية الدمج الاجتماعي في هوية وطنية جامعة لمختلف اطياف المجتمع العراقي ، ما ادى إلى تراجع الهوية الوطنية، وتضخم الهويات الفرعية والتعصب لها واحتلالها مكانة مهيمنة في الوعي الاجتماعي. واضاف ا?ه ارتباطا بالانكسارات العسكرية ونجاحات داعش وما رافقها من جرائم وانتهاكات وعمليات تصفية ذات طابع عنصري وطائفي ، تعمقت الاستقطابات المذهبية والقومية والدينية، وبدأت تُتداول افكار وتساؤلات بشأن امكانية استمرار الكيان الوطني العراقي وتحقيق العيش المشترك بين أطيافه.
وقال الرفيق فهمي ان ذلك يحدث على خلفية اتساع تأثير افكار التعصب والظلام، التي تؤجج الكراهية والإقصاء إزاء الآخر، المختلف قوميا أو دينيا أو مذهبيا أو فكرياً وثقافيا، وانه يقترن بتنامي العنف، بنوعيه المادي والرمزي.
لذلك فان التحدي الأكبر الذي يواجهه بلدنا وشعبنا يحمل بعدا ثقافيا اساسيا.
واستطرد قائلا انه تسود اليوم في اوساط واسعة من مجتمعنا حالة من التشوش وانعدام الفهم والرؤية لمسار الاحداث وآفاقها، في حين تبدو القوى المتنفذة عاجزة عن تقديم الحلول والرؤية. لذا فان هذا الظرف وخطورته يدعوان بالحاح المثقفين، اي منتجي الثقافة بمعناها الواسع، والمدنيين الديمقراطيين والتقدميين منهم بشكل خاص، لأن يساهموا في تقديم لرؤية وطنية متماسكة لحال المجتمع والترويج لها بما يتساعد في رسم معالم الانتقال به إلى حالة افضل، والحيلولة دون وقوعه "فريسة" لأفكار ومشاريع ظلامية تعيده إلى دياجير القرون الوسطى:
واكد الرفيق رائد فهمي انه رغم كل المصاعب والظروف غير المؤاتية المحيطة باوضاع المثقف التنويري، فانه يمتلك مقومات القيام بدور اكبر بكثير مما هو عليه الآن.
فالأطر التي تعنى بالثقافة والمثقف والتي من خلالها يمكن النهوض بالواقع الثقافي، تشمل المؤسسات الثقافية الرسمية التابعة للدولة، وفي مقدمتها وزارة الثقافة، كذلك الكيانات المهنية كالاتحادات والجمعيات والنقابات ، والمنظمات غير الحكومية، والمنابر الثقافية الأهلية كالمجالس الثقافية ووسائل الاعلام، إضافة إلى ما يقوم به الافراد والمجموعات خارج هذه الأطر من نشاطات ثقافية.
واشار الى ان هناك عوامل تلعب دورا كابحا ، مثل ضعف البنى التحتية الثقافية وعدم إعادة بناء الكثير مما تعرض للتدمير، وشحة ما يخصص للثقافة في موازنة الدولة وعدم وجود نظرة ثقافية استراتيجية للدولة. ومن جانب آخرتمارس المؤسسات الاجتماعية التقليدية ، كالقبيلة والطائفة والمؤسسة الدينية ، دوراً ضاغطا يحاصر الثقافة ويحدد نطاق نشاطها.
لكن التاريخ يسجل حقيقة انه في مراحل التحول والتغيير الاجتماعي، حين يحتدم الصراع حول اتجاهات ومضامين تحول المجتمع وبنيته، لم يقف المثقفون، من مفكرين وفلاسفة وادباء وكتّاب وفنانين، بعيدا عن الصراع بل انخرطوا فيه دون أن يستأذنوا احدا في ذلك.
واضاف انه في مقابل كل العوامل الكابحة التي جرى ذكرها، يتمتع المثقف في العراق بمساحة واسعة من حرية التعبير ، قد لا تكون متاحة لأقرانه في بقية البلدان العربية وفي دول الجوار. وهي حرية باتت مهددة بالفكر المنغلق والاقصائي وادواته في المجتمع وبضعف ثقافة الحوار والتسامح واحترام الرأي الآخر.
واوضح الرفيق رائد فهمي ان هذا اللقاء يهدف الى التداول في ما يمكن ويتوجب عمله للنهوض بالواقع الثقافي وخروج المثقف من حالة الانكفاء والعزلة والسلبية (مع استثناءات مهمة ولكنها قليلة نسبيا) كي يلعب دورا مؤثرا في مواجهة التحدي الثقافي، والتحديات المصيرية التي تواجه المجتمع ، دون اغفال المحددات والكوابح الموضوعية والذاتية والضغوط المتنوعة التي يتعرض لها كمثقف؟
بعد ان انهى الرفيق فهمي حديثه، قدمت مداخلات وتعليقات شارك فيها معظم الحاضرين، ورحبت بمبادرة عقد اللقاء واكدت اهمية عقد لقاءات مماثلة في المحافظات الأخرى، كما حثت على تكرارها في محافظة بابل بمشاركة أوسع.
وطرح المتحدثون تصوراتهم عن الواقع الثقافي في البلاد، وعن احوال المثقفين ومدى استعدادهم لاستنهاض دورهم. وقدمت طائفة من الافكار والآراء والتقييمات والمقترحات القيمة، منها مقترح دعوة الباحثين والمتخصصين في العلوم الاجتماعية إلى إجراء دراسات معمقة للمجتمع العراقي، بغية التوصل إلى فهم أفضل لواقعه وتمايزاته الثقافية، وللتفاوتات في الاستعداد للتأثر بالافكار والتيارات الدينية والمذهبية المتطرفة التي تتعمق داخله مناطقيا ووفقا للانتماءات الأولية. وفي السياق نفسه طرحت دعوة لفتح ملفات في الصحافة ذات طابع حواري، لدرا?ة هذه الحالات والظواهر والخروج باستنتاجات وتصورات لكيفية مواجهتها.
وكان من المشاركين من عزا اشكالات الواقع الثقافي الراهن إلى أزمة فكر عامة، لا في منطقتنا وحسب وانما حتى في البلدان الغربية، وان هذه الأزمة اشتدت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتجربته في البناء الاشتراكي ، حيث شكل هذا الانهيار تراجعا للفكر المادي لصالح الفكر المثالي، ومعلوم انه توجد نقاط توافق وانسجام بين الفكر الديني والاسس والقواعد التي يقوم عليها العالم الرأسمالي. وقد امتد التراجع في المنظومة الثقافية ليشمل فكر المثقف ذاته، ومن هنا صعوبة التصدي للتطرف والنكوص في الوعي.
ورأى بعض المتحدثين ان التصدي لهذه الافكار يتطلب وجود مؤسسات، هي غائبة حاليا في ظل ضعف وشبه غياب دور الدولة في دعم الثقافة. كما ان ذلك يتطلب تضافر الجهود وتنشيط العمل الجماعي للمثقفين، من خلال الأطر التي توفرها الاتحادات والجمعيات والنقابات والمجالس الثقافية ، إضافة إلى الاطر الحزبية والسياسية الديمقراطية.
وشدد بعض المتحدثين على استحداث طرق جديدة للتواصل مع الجمهور الواسع، كتوسيع اللقاءات وتقديم محاضرات في الساحات العامة.
وشدد البعض على استجابة المثقف لواجبه الوطني في الظرف الحالي الذي يستدعي الوقوف في الساحة، وعلى ان يتوفر له دعم الدولة وأن تحظى النشاطات الأدبية والثقافية بالرعاية من قبل المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني.
ورأى احد المتحدثين، أن الصراع الحالي هو صراع ثقافي بين ارادتين، الاولى ارادة مؤسسة تؤمن بالمقدس الساكن والثانية تعبر عن ارادة مؤسسة متحركة تقر وتدعو للتطور والتحديث.
ونتيجة لانحسار واضمحلال الهوية الوطنية تبرز ضرورة التأسيس مجددا لهذه الهوية الوطنية والسؤال الكبير هو: كيف السبيل إلى ذلك ؟ ان من واجب المثقف أن يؤسس ويناضل من أجل هوية وطنية عراقية جامعة تحترم الخصوصيات وتستوعبها. لكن يثور التساؤل عما إذا يقتضي ذلك إعادة قراءة المقدس وفق نظرة معاصرة. ومثل هذا المشروع يتعدى القدرات الذاتية فهو مشروع عام لسائر القوى المتبنية للهوية الوطنية، فيما قوى الطائفية السياسية تعتبر الهوية الطائفية رئيسية وعابرة للهوية الوطنية.
وللانطلاق نحو مواجهة التحديات، ينبغي العمل على مد الجسور مع سائر المثقفين ونقل الخبرة والمعرفة الى الشباب وشحذ الوعي لديهم. ولكن على المثقف أن يبتكر أدوات جديدة لممارسة دوره نظرا للتغيير الذي طرأ على المجتمع العراقي منذ اوائل الثمانينات، والمتمثل في انحسار الطبقة الوسطى وما استتبع ذلك من ترييف للمدن العراقية التي تحولت إلى قرى كبيرة. فحلة اليوم ليست حلة الأمس ، وابن المدينة يشعر اليوم بالغربة.
وطرح في اللقاء اقتراح بحث الاستنتاجات والرؤى التي يتم التوصل اليها، في مؤتمر عام للمثقفين يعقد بعد الانتهاء من اللقاءات في المحافظات.