ادب وفن

قراءة في «نصوص الحكمة» للشاعر نجم خطاوي / عيسى مسلم جاسم

من على مقاعد الدراسة المتوسطة عبرناها - وهي العقبة الكأداء- في حينها وتخلف صديقنا، لكنه لم يتخلف عن صحبتنا، وبقي على مدى العمر رهين هذه المرحلة الاولية نسبيا، كانت تعجبني طروحاته خلال جلساته، وعلى وجه التحديد مرة طرح مفهوم "البعد الجمالي في المسرح، لكنه قرأ في عيوننا الضبابية في استيعاب ذلك، حينها قال: يعني حين تتحدث الى جمهور معين قليل او اكثر، هنالك خيوط تمتد اليك من عيونهم، توصل اليك، رسائل سريعة من قبول الكلام او عدمه، فجلنا في وقته سيما، ونحن الذين سبقناه بأكثر من مرحلة دراسية.
تذكرت ذلك الصديق بعد مضي اربعة عقود على ذلك. من خلال.. ديوان الشعر المهدى لي "نصوص الحكمة- نجم خطاوي" والذي ليَّ اهداء يقول فيه: هديتي للاستاذ الفاضل الكاتب والناقد.. عسى ان اغمرك بعبق رائحة نصوص حكمتي، مع كل الأحترام، مذيلة باسم الشاعر، وبدون توقيع، ومؤرخة في 20 أيار 2014.
* * *
الديوان كما اسماه الشاعر من الحجم المتوسط، جاء بـ148 صفحة، ومن الورق الجميل الأبيض السميك، لم نألفه في الإصدارات الثقافية. وهو من نشاطات المركز الثقافي في السويد، والتابع الى وزارة الثقافة العراقية، هناك حيث شاعرنا الواسطي "الكوت" عاش مغترباً، وهو الذي تمتد جذوره عميقاً في ازقة وحواري مدينته وبشكل يفوق التصور، لذا نرى في صفحة "الاهداء" يترجم خلجات نفسه بأمانة وصدق يقول:
"اليك يا نهري العظيم.. اليك يا ذكريات الطفولة والصبا وبدايات العشق... اليك كيف ما كنت.. غاضباً.. هادرا... صامتاً... حزيناً... اليك يا دجلتي وكأنما يشاطر السياب الكبير بقوله: بلادي اجمل من سواها والظلام، حتى الظلام فهو يحتضن العراق" هنا، ثيمتان متلازمتان؛ حب الوطن، وان الوطن وعبر عقود طويلة ولا زال يلفه الظلام، كما وظف "الميثولوجية التراثية": بلادي وان جارت عليَّ عزيزة، أهلي وإن شحوا عليَّ كرام".
من غير المألوف للآخرين، ان عنوان الأثر الأدبي يمنحني بصورة يمكن ان اقول فيه شيئاً، ولربما المقدمة او الاهداء، اراه يغنيني عن تفاصيل أخرى بل يعطيني فكرة ولو عاجلة، في هذا الديوان، هنالك سطور من احدى قصائده زينت الغلاف الأخير للمجموعة "الديوان".
"في وحشة الطريق/ وشح النخوة/ لن اقول وداعا/ وأمضي/ دون ضمير/ سأعشب دروبك/ بالصداقات والسبل" ومذيلة باسم الشاعر نجم الخطاوي.
هي فقط سبعة سطور، وهذا العدد المؤلف من رقم واحد، يوحي لقدسية السبع سماوات، وعجائب الدنيا السبع، كذلك في الميثولوجية الاجتماعية، وجاء في الذكر الحكيم أيضا للكثرة "لو استغفرت لهم سبعين مرة، يعني وحسب رؤاي انها "بانوراما" ادبية ترجمت مكنونات الشاعر التي سطرها، وافكاره التي عبر عنها.
يشير الى الويلات المتراكمة عبر عقود وهموم متناسلة توارثها الآباء من الأجداد ووصلت الى الابناء "مدورة" وعلى عاتقهم المهمة الجسيمة في التغيير، ولابد من دفع الأثمان الباهظة، كما آن ذلك ليس بمعزل عن تسلط الأنظمة الاستبدادية الشمولية وتوظيفها الأعراف الاجتماعية وحتى القيم الدينية، وبالتالي وصلت الى "شح النخوة" وازاء ذلك كله لا يدير الشاعر ظهره للوضع المتردي، هناك وازع الضمير الحي الذي يدفعه الى الاقتحام، ورأب الصدع، ومعالجة الحال. لذا نراه " "يُعشب الدروب بكم من الصداقات والسبل".
* * *
تألفت المجموعة "الديوان" من ثلاث وسبعين قصيدة حداثوية بامتياز وكأن محمد الماغوط، وأدونيس، وانسي الحاج شاهدون على صياغتها، كما غلب عليها القِصر واحياناً من سطرين فقط "ومضة" وهي تقنية عالية، الشاعر تكتمل عنده الصورة في اسطر قليلة، فلا تتمرد عليه القصيدة، ويصعب لجامها، وهو ما تسميه الشاعرة الناقدة د. نازك الملائكة في كتابها النقدي "قضايا الشعر المعاصر" تسمية "التدفق" وعموماً هناك قصائد متوسطة "مثالية" واطول القصائد قد تصل الى السبعين سطراً، كما يكاد ان يكون معدل تفعيلاتها "خمس تفعيلات" وهي مكتوبة للقراءة، كذلك للالقاء على المنابر سيما عند جمهور النخبة "العمودي" وحسب ظني "الديوان" يتسم بسلامته اللغوية، وغناه بالصور الشعرية، وتجدد رؤاه الفكرية، كما هيمنت عليه في ذلك المدرسة الواقعية بفرعيها النقدي والاشتراكي، ناهيكم عن بعض المغازلات للمدرسة الرومانسية، وسنقدم عينات من النوعين، لو تيسر لنا ذلك.
* * *
"المطر الذي منحته قلبي/ والذي اينع واحاتي، الذي غنت له حدائقي/ هو ذاك المطر/ الذي انتظرت/ وطال انتظاري/ ولا من نرى/ يبلل زهرات روحي" ص9، فالمطر تعويذة الشعراء، ورمز الخيار والعطاء، لقد حلم الشاعر، وهو لسان حال أبناء جلدته، حلموا بالفرج الآت، لكنه لازال الجدب: ولا زالت السنين عجافاً.
نعم المطر ترنيمة الشعراء، مطر السياب الوفير، وقريحة "مايكوفسكي تورق تحت حبات المطر، والحطيئة، اذا استعصى عليه بيت الشعر غمر نفسه بالماء ان شح عليه المطر، وحالة شاعرنا "الخطاوي نجم" هي مرايا عاكسة صادقة لواقع البلاد.
"اللوحة التي لم يرسمها فنان بعد/ رسمها قلبي بفرشاة الوجد/ ص10، نعم لا يخرج الشاعر كثيرا عن معاناة شعبه فهو يشير الى عدم رسم واكتمال اللوحة، لان هنالك مقومات رسمها، ولا ننكر دور السلطة وسعي الجميع لامساكها، وهي معروفة بالسبب بالنسبة للطغاة لكن قوى الشعب تسعى لذلك، لسبب آخر مهم "اداة التغيير" ولانه غابت مقومات اللوحة، وغاب الجدار كذلك، لذا رسمها الشاعر بقلبه بالشوق والوجد، والرغبة المتعاظمة، وهنا لابد من الاشارة الى الشاعر التركي "ناظم حكمت" حين يقول: أحلى الأيام تلك التي لم نعشها بعد، وهي نظرة وردية للحياة،?وهذه سمة القيم السماوية والارضية معاً.
"لأمي.../ جنة الأرض/ عذبتها كثيرا/ ثم اودعتها البكاء والكمد" ص14، هنا نلاحظ أيضا عينة اخرى، هي المعاناة، وان هي المرأة، الارض، الحياة، وهي المضطهدة، اضطهاداً مركباً، من الأنظمة السياسية والأعراف الاجتماعية، ثم من خلال العائلة نفسها، اضطهاداً داخلياً.
ومع الكم الهائل من الولايات والحجم الكبير الاستلاب والضياع، لكن هذا الشعب ليس طالباً للمتاعب، نستمع الى لسان حال الشعب، وان كانت تجربة الشاعر الذاتية وهي خريجة المدرسة الرومانسية:
"امرأة كالورد/ معطفها وردي، شفتاها وردتان/ خداها حمرة ورد/ صبغة اصابع ورد/ في اطراف اصابعها ص17، هكذا النظرة الأفقية الشعبية، ليسوا طماعين يرمون الى العيش الكريم، سيما ونحن في بلد عريق وميسور.
ثم عودة الى "الفلاش باك" والسخرية من الطغاة المسرحي الأنيق/ كرر المشهد ثانية/ في براعة تقمص الدور/ صار خروفا/ الجنود منحوه النعاس، واكتفوا ملوحين بالمناديل ص23.
وفي الواقعية: من محاسن الفقر/ قلة التفكير/ راحة البال/ خفة الروح ص34.
وكأنه يقول "الدين ترنيمة المضهد في عالم بلا رحمة- ماركس" سر راحة بالهم ينتظرون الرحمة من السماء، بعد ان حجبتها الأرض عنهم.
دوما يداهمه الحنين لمدرسته: معلمي الاول/ ذلك الطيب الصارم، رائحة الطباشير بيضاء اول صباح ص52، وللعائلة: شجرات رماننا الباسقة/ بيتي القديم اذكره ص:53 وللشباب "وحين البنات حلت/ والبنات في غنج ص:53.
اما الومضات: "نبل الحديد/ حين يصير مراجيح/ قبحه/ حين يصير فوهات بنادق ص:71 وعن تجربته، حيث كان انصاريا في كردستان يقول : الطائرات حاصرتنا/ الرصاص عمَّ المكان، السماء ظللتها/ رائحة الموت/ صخور الجبل ص:82.
عموماً التلقي يشعر برائحة الذوق والجمال وحب الحياة، وحتى في الوغى في ساحات القتال، فمنظار الثوريين وردي بوردي، لاجل عالم وردي.