ادب وفن

قراءة نقدية لديوان «دوائر مربعة» ..القسم الأول / عباس باني المالكي

لو تدرجنا في كشف أسرار المجموعة الشعرية (دوائر مربعة) للشاعر جابر محمد جابر لكي نعرف كيف يتحول الهم الذاتي الى منطقة تحديد لكل مفاهيم النسق الفكري التداركي في الأشياء التي حوله حيث تكون البعد التصوري في بناء الجملة الشعرية لدى الشاعر لوجدنا في البداية كيف تكون الدوائر مربعة وهي خارج منطقة الحساب الرؤيوي في تشكيل التناظر الحسي أو الشعوري لأن الدوائر لا يمكن أن تكون مربعة إلا إذا جنح الفكر التأملي خارج النسق الحتمي لكل ظواهر الأشياء وأعاد صياغتها وفق التنظير النفسي الإدراكي ومن انعكاس منطقة التأثير عليه والمكونة لرموزه التي يعيشها سواء ضمن الوعي أم اللاوعي.
ويحدث هذا من اجل تجنب التصاق الواقع حوله حسب ما هو موجود وجعل هذا الواقع منطقته التأملية التصورية لكي يعطيها الشكل الذي يريد وكيف تكون , وهذا يأتي طبعا من اليأس وعدم تطابقه مع الواقع المعاش وهروبه الى واقع يصنعه هو خارج شكل منطقة الوجود الحواري الذي جعله يفقد هذا الترابط نتيجة خسارته او خذلان واقعه الى أحلامه أو ما يريد هو منه, والشاعر أستطاع أن يرتقي برموزه الباطنية الى منطقة أحلامه وتأملات الصورة الذهنية, وخلق واقع جديد لكي يستطيع التحرك فيه وفق معطيات الانتماء الوجودي في فردية الحياة وما يريد من أجل تحقيق عنصر الوجودي الحي في إحساساته الحية والمنطقية, والذي يحسب الى الشاعر قدرته التأملية الطوعية في خلق المناخ المنعكس على ذاته المتشظية وفق رموزها في الحياة وجعل هذه الرموز مقاربة في دلالتها المعنوية اتجاه الأشياء, في نفس الوقت هي أشارة الى رفضه للواقع بسبب ما موجود فيه من تناقض اتجاه المسميات التي ينتمي إليها وهذا ما جعله يعيد خلق مسميات وفق منطقة الذات الواعية ورموزها الاستبطانية لكي يبين هذا الرفض, فهو يقلب المسميات ويعيد تمحور رموزها في المنطقة الذهنية لتأمله الصوري من أجل خلق مشهدية الحدث في سيميائية الفكرة الشعرية التي تعطي النضج في جملته الشعرية , فجعل الدوائر مربعة لكي يتمسك بخروجه كليا من هذا الواقع ويرجع التوازن الذاتي إليه.
ص 17 (أنه لأمر محزن / أن أخرج ../ من كل الحروب المريرة / التي تملأ وسادتي / بعاهة واحدة ! / يا للعجب).
وهنا يخرج من هذه المنطقة التي سببت إليه كل الخسارات مع أنه كان مستقرا فيها وما الوسادة إلا زمن الاستقرار في لحظة الانتماء الوجودي, والشاعر جابر هنا أرتقى بالرمزية الموحية بالصور المكثفة في لحظة الإحساس الوجودي الى حد تصبح هذه مساحة التأويل الدلالي, بقدر ما تكون الوسادة هي زمن استراحة تتحول الى ساحة ذهنية متشظية بالحروب من الأفكار المنعكسة من يومه المعاش, فالزمن عند الشاعر ليس الزمن الخارجي من الذاكرة بل هو زمن الذاكرة التي تبقى تخزن معاناتها التي اكتسبتها من خلال الظروف المحيطه بها, وبهذا يكون الزمن هنا هو زمن التذكر وليس زمن الذي يمر. و يتحول الأيحاء عند الشاعر الى ارتداد الذهني في تركيب الصور الشعرية وهو يبدأ بتعجب عن الحزن من خلال الخروج منه وبطريقة التساؤل عن كل ما يشعر به من المرارات الذاتية اتجاه وجدانية الحس النفسي، أي أن النص لدى الشاعر جابر ما هو إلا رمز ذهني إدراكي يأتي من باطنية الفكرة لدية.
ص 22
(كنت أخشى السقوط / تحت صاعقة المباغتة / لذلك / حاولت أن أخلع / تهمة فاسدة عن اسنان الخيانة )
يستمر الشاعر بطرح باطنية الفكرة لدية من خلال التصور الإدراكي التأملي لفكرة الرؤيا والتي تبني تقاربها مع اللغة من خلال الحس المشهدي المتراكم فهو يبني الرؤيا وفق الحس اللساني في مشهدية اللغة, فتحمل اللغة كل التضمينات الوجدانية في النطق المتقارب مع لسانية الصوت الإيقاعي داخل الفكرة المكونة للمعنى الدلالي الذي يعطي للرمز امتداداً زمنياً أكثر مما هو مكاني أي يتكون المشهد الشعري عند الشاعر من الزمن المتراكم قبل حدوث الفكرة وتأتي الفكرة لتنور الإدراك لهذا الزمن , وتكون الصور الشعرية محملة بكل تراكمات الذهن التصوري لكل الأحداث التي مرت عليه . ( كنت أخشى السقوط / تحت صاعقة المباغتة / لذلك / حاولت أن أخلع ) فما بين الخشية من السقوط تحت الصاعقة تأتي المحاولة للخلع فالزمن هنا مستمر لكي تكون المرحلة الأخيرة منه هي مرحلة التصادم خشية من تهمة الفساد لذلك يكون بنيان الزمن هو محاولة للخروج منه وليس السقوط تحت تأثيره أي التحرر منه من الداخل لأنه توجس لكل ما يأتي, يكون الزمن سبق الفكرة المكونة للرؤيا والمتأثرة به أي الزمن الذي حدث قبل لحظة الكتابة.
ص 26
( أنهض من تحت / أنقاض حلم قديم / متهالك / أحمل انكساراتي / نافضا عن كاهلي / ركاماً هائلاً / من الأوهام )
ويستمر الشاعر بمداركه في حسية الوجدان اتجاه المسميات التي أتخذها رمزاً لكي يعكسها على إحساسه الشعوري. ويؤشر النهوض بدل الخشية المسبقة لحدوث حركة الفعل لدية, ويعطي المسميات تاريخها لكي تتمركز داخل اقتباساته في استمرار حركة الحياة في داخله ولكنه حدد فعله اتجاهها لكي لا تمر دون أن يؤشرها كمعاناة مرت عليه وتتحول هذه المسميات الى أحلام. لكي يبين قيمته المعنوية داخله و يبين كيف تجاوز الكثير من هذه المعاناة, وفي هذه المرة تأتي حالة النهوض لا سقوطاً تحت تأثيرها وهي مجرد أنقاض حلم, وهنا الفعل هو حركة اتجاه تحديات الذات في كل الأشياء التي مرت عليه وسببت إليه انكسارات فأفعال (أنهض, أحمل) ونشعر كأننا أمام صراعات داخل الذات المتشظية بكل هذه الانكسارات ولكنه أستطاع أن يحكم قوته الذاتية بعيدا عنها لكي ينفض عنه كل هذه الأنقاض من الأحلام والركام الهائل من الأوهام. و يحكم القوة المعنوية من داخله أي أن فعل الحركة لدية في الحياة هو تماسك الداخلي من أجل صد كل ما يأتي من الخارج بالابتعاد عنه, وبهذا يكون الرمز الشعوري لدية تكثيف مساحة الوجدان الباطنية وانعكاساتها السوسيولوجية في فكرة التكوين الدلالي المعنوي.
ص 27
(حملت جملا مفتوحة / لأسرب إليها / قلقي / خوفي / حتى أخفيت علامة استفهام / بين طيات وسادتي / وقبل أن أغادر جسدي / وجدت خسائري اللذيذة ).
يستمر الشاعر باستنهاض ذاته بفكرتها الباطنية والتي تكونت من الزمن الماضي أي زمن التذكر وكما أشرت إليه في البداية . وبهذا تتكون الجمل الشعرية لدى الشاعر جابر من التأمل التذكري الإدراكي في عمق الفكرة المكونة للرؤيا , ويتحول الزمن عنده الى شرخ ماضي المعاناة وبتصوره الحاضر الآن لكي يتم الاستنهاض لهذا الزمن من خلال التأمل في الذاكرة , والشاعر يصنع الدلالة من خلال التذكر والمكون لكل تصوره الباطني و أن الزمن يمتد من الماضي الى لحظة تصادمه مع الوعي الداخلي , وبهذا تكون الفكرة عند الشاعر هي بصرية اللغة الصورية لأن الإمساك بالزمن المخزون داخله لا يمكن مقاربته مع اللغة إلا من خلال مشهدية الحس الوجداني التصوري الذي يتحول الى رموز مكثفة الرؤيا ومتسعة المعنى المجازي والتي تكون الجملة الشعرية وتأتي الأفعال (حملت, أخفيت, وجدت) تمتد مشهدية الصورة الوجدان ومن خلال استنطاق الزمن المتراكم داخله , وندرك أن أقصى حالة الاستدراك هي لحظة التأمل بالزمن الماضي حيث تكون (بين طيات وسادتي/ وقبل أن أغادر جسدي/ وجدت خسائري اللذيذة ) هي الوسادة هنا تتحول بقدر ما هي زمن استرخاء الى زمن تذكر لطريقة الحياة التي عاشها سابقا وهو بهذا يخرج رمز الوسادة من زمن الاحتضار والموت الى زمن يلاحقه ويتصادم معه ليعلن انتصاره عليه (حملت جملا مفتوحة / لأسرب إليها / قلقي / خوفي ) و جعل هذا الزمن مفتوحاً من أجل اعادة خلقه من جديد بدل أن يتحول الى سؤال (حتى أخفيت علامة استفهام) ويبقى يدور في مداركه, فهو يريد أن يتحرر ويعيد ترتيب حياته بعيدا عن ذلك الزمن لكي يحقق الابتعاد الكلي من خوفه وقلقه..
ص 49
(البهجة المظللة لفراشات الضوء / طلبت من الموت / أن يؤجل الترافع /في قضية موتي /لحين أتمام مراسيم / حفل زفاف ../ ديواني ( دوائر مربعة ) ).