ادب وفن

وجه الماء / علي جاسم شبيب

ابنة الماء تأتي إلى قرية الصخر، فوطتها لا تلم شعرها الغزير الاسود، مبتسمة دوماً ومؤمنة بالماء الحيّ، ابيض، كالقلب الذي تحمله، وعبر تعاويذ من أناشيد وتراتيل المندائيين كانت تهزج بأهازيج جدتها وترقص الرقصة العماراتية المميزة عند نساء الاهوار، دون العباءة التي كانت تساعد الراقصات بلّي ذيلها على الاذرع والتلويح بها على نغمات الهزج المميزة.
كنت قد ذكرتها، صاحبة الشعر الاسود، في قصة (عتمة الشهادة) وكيف استدلت عليها طلقات غادرة، اجلستها على صخرة وانحنى رأسها إلى الامام، وفزّ الشعر الاسود وهاج في الريح الرطبة والمطر الذي هبط مع الطلقات في منطقة لويجه. كان لسان الشارع الرئيسي مفتوحاً للهرب، لكنها وقفت على سفح، صخوره اليفة تنظر إلى السماء المحملة بالمياه الحيّة التي تنزل كل سنة في فصلها لتغسل ادران الارض وفساد البشر وشرورهم ،تغسل الاجساد من الغدر والحماقة... كان اسمها أحلام (عميدة عذيبي).
التقيتها اولاً في قاعدة روست للانصار الشيوعيين، وكان زوجها الشاب، ملازماً، تخرج من دورة عسكرية خاطفة في مدارس عسكرية اقيمت على عجل في اليمن الديمقراطية، فأعطى مسؤولية القاعدة العسكرية، وكان مسوؤل القاعدة،" خضر روسي "الذي يأكل بمفرده بعيداً عن الرفاق ويتغطى ببطانيات نظيفة وسميكة.. وعند حلول مفرزة جديدة يوزع عليها البطانيات المسؤول العسكري الشاب واحدة للفراش واخرى للغطاء،لقد وزّع علينا بطانيات ذات رائحة عطنة فيها رائحة أجساد الحيوانات وعرقها ،فامتنعنا من استلامها وعيرناههم، لأننا كنا نعطيهم أفضل الاغطية عندما يأتون إلى قاعدة بهدنان لأخذ حصتهم من الذخيرة والسلاح القادم من الحدود.. كان الشهيد" ابو سحر" والشهيد "خضر كاكيلي،" واقفين ينظران إلى المسؤول العسكري الذي تخطى مهمة الرفيق المسؤول الاداري، كانا ينظران اليه بتبرم واضح، فاطلق ساقيه وصعد إلى السطح كأنه بأمر عسكري يتفقد الافاق ،وفي نفس الوقت، هلت علينا أحلام المندائية، بلباسها الاسود وفوطة رأسها على كتفها.. كانت تحمل بطانيات عرسها واغراض من غرفتها، فرقص الشهيد "أبو سحر"، رقصته الفرحة ودق قدميه على الارض يلوح بأصبعه عالياً، وأراد الشهيد خضر كاكيلي ان يطلق طلقات من بندقية البرنو الطويلة التي لا تفارق كتفه. وجاء الليل محملاً بالسكينة والطمأنينة في منطقة تحف بها الجبال، وترى من سفوحها الجبال الايرانية الجرداء، لا يمكن لاحد أن يخترق قاعدة روست، ليس لأنها تقع على أرض عالية ،مثل هضبة بل لأن مداخلها لا تؤدي الى معرفة مخارجها، الداخل محكوم عليه بالتيه والحصار المذل. هناك بعض البيوت الطينية تلف الغابات أذرعها عليها من كل جانب، وكنا نخاف الطيران الذي يلعب في السماء القريبة من السفوح الايرانية، يلعب الطيار ومجموعته كأي لاعب دومينو ماهر، يدور بالطائرة ويخلط لونها الفضي بأكوام الغيم الابيض الذي يهرول ببطء صوب الجنوب .كانت فرقة الشهيد ابو سحر وكاظم الانضباط واخرين لانعرفهم، قد هيئوا الاجواء للغناء والرقص.. ورقص الكثير منهم وتعبوا، فجلسوا يلهثون عدا الرفيق "ابو براء والرفيقة احلام"، فقد تباريا وكأنهما على أرض الجنوب، في الحلفاية او القلعة، وتخاصما في الخطوات وهز الاكتاف والتلويح بالايدي، هنا اتسعت مساحة الراقصين حتى اوقفت زحفنا الجدران.. كان الرفيق ابو براء ماهراً في استخدام عدة القتال التي يرتدي، يصدح صوت القابوريات حين يضربها أو ينقرها بأصابعه حتى تكمل توافق الوزن والنغم مع صوت الطبل العالي.. مع خطوات قدميه الرشيقتين المدربتين وكانت أحلام تتلوى بجسد مرن مطواع، تتلوى فوطتها السوداء وتشق الهواء السفلي أمام أعين الجلاس، كانت ترتفع وتنخفض مثل بيارق الهبتها اكف الحماس فطارت فوق الانفاس لاهثة، باسمة، وانهكنا الانتظار وبان تعب الرقص على الراقصين، فتفصد الجبين بالعرق وسال على الخدين، فسمعنا سعلات خشنة من الراقص، وازداد عرق الجباه عند الراقصة الرشيقة، تزم فمها وتلوح بمنديلها، اعلاناً على تواصل الرقص، فجأة تباطأت خطوات الراقص، وضحك ضحكته المعهودة المخربشة بالسعال.. وقف ورفع ذراعها عالياً، يعلن انتصارها على كل الراقصين، فتململ زوجها الغيور وغادر الغرفة إلى سطح الدار حيث الظلام قد غمر كل الآفاق.
تذكرتها في قرية كيشان ونحن مزمعون على مغادرة دار الاحبة والاصدقاء، صوب المدن الغارقة بضجيجها وكذبها، كنت جالساً في غرفة تركها اهل القرية خوفاً من اجتياح محتمل للجندرمة الاتراك، حيث دارت طائرات الناتو اكثر من دورة على القرية، فوق الاسبندار الذي لم ينحن رأسه أبداً، فوق أشجار الجوز العملاقة، على النهر الهامس بخرير يشبه ضجة العصافير عند طلوع الصباح.. على كل شيء جميل تركه الناس هنا.. الغرفة صغيرة، علق على جدرانها جلود لحيوانات الغابة، والموقد ما زال عامراً بالجمرات.. وباب الغرفة منخفضٌ، يعلوه قوس مبني من صخور مربعة بينهما شقوق مُلئت بالحجارة الصغيرة ونثار من الرمل الصلد ،أشبه بباب المندي العتيق حيث (النشمثا) تتجول وتصافح من يتذكرها، دخلتْ وضوء عينيها الوسيعتين يرفع من قوس الباب الواطئ، بقامتها كاملة دون انحناء على جزء من رأسها فوطتها ويتهدل طرفاها على الكتفين ،كانت تلبس ثوباً أبيض ..وعرفت بأن زوجها الشاب ابن كاتب المسرح وشقيق الاخوات الجميلات، الممثلات ،قد عانى من اضطراب عصبي لأكثر من عامين كاملين.
من كتاب "الوجوه" الذي ينتظر الطبع