ادب وفن

ذكورية نرسيس وأنوثة القصيدة / حميد حسن جعفر

"1"قارئ "إيمان الفحام" قد لا يجد مفاتيح القراءة التي من الممكن أن يمارسها بمواجهة "نرجس ينام على حجر"، رغم غلاف "نجاح الجبيلي" من جهة، ومحاولات توجيه القارئ من خلال تأكيد الشاعرة على قصيدة "الحجر" والتي دفعت بها الى الصفحة الرابعة من الغلاف؛ من أجل سحب القارئ واستفزاز معارفه. تلك القصيدة التي تربط ما بين الميثولوجيا والدين، من خلال أسطورة "نرسيس" وكلمة السيد المسيح.
تلك القصيدة التي استندت الشاعرة على منطوقاتها التأويلية وفي صناعة "ثريا" الكتاب. ومن خلال محاولة القصيدة ذاتها في طرح مفاهيمها. "ثريا" الكتاب بدلا من أن تكون مجموعة مفاتيح، من الممكن أن تتحول وبمواجهة الكثير من القراء الى مجموعة مغاليق، وبالتالي قد تخسر الشاعرة مجموعة من متلقي ما تكتب، وليتحول الشعر الى مجموعة الغاز.
إذ إن "نرجس ينام على الحجر" يعتمد بالأساس على "دونية نرسيس وسمو الحجر"، على أسطورة نرسيس ذاك الفتى الذي عاين وجهه وسط بركة ماء ليمتلئ بالدهشة. ومن ثم ليذوب حباً وهياماً وغراماً بنفسه. وليمتلئ كذلك بما يسمى بالأنانية حب الذات أو ما اصطلح عليها بـ "النرجسية" أو "النرسيسية".
عندما يمتلك القارئ هذا المفتاح/ المعرفة، يكون بإمكانه الدخول الى مكنونات الرجل/ الذكر  نرسيس والمرأة/ الأنثى. ولتتحول الأبواب ومغاليقها الى آفاق مفتوحة. وليجد أمامه أنوثة طاغية وجمال لغة مدهش.

«2»
لقد كانت "ايمان الفحام" تحاول استدراج القارئ عبر نصب مجموعة من الفخاخ، لا لكي تحوله الى طريدة، بقدر ما تعمل على صناعة حالة كشف وتعرية لمواقف وأفكار تعمل على تحويل المرأة الى مجموعة عورات، على الرغم من إن المرأة/ الأنثى هي حجر الزاوية في بناء العالم.
والقصيدة لدى الشاعرة من الممكن أن ترتكز على حكاية أو أسطورة، أو خرافة، أو على مفصل ميثولوجي، هذا الارتكاز قد يشكل حالة تناص مع حالة معرفية تضيء جسد القصيدة، والتي كثيراً ما تشتغل على إضاءة دواخل الكائن البشري بعيداً عن المظاهر الخارجية. فالأماكن/ النفوس المكشوفة قد لا تحتاج الى من يشير الى تكويناتها. فهي تقف بالضد من المناطق المطموسة. وعلى الرغم من إن المرأة/ الأنثى المكونة لدواخل الشاعرة هي الشخص الرئيس في بنية القصيدة التي تكتبها، فهي المتكلم الأول والأخير، وهي التي تثير التساؤلات، وهي التي يقع عليها الح?ف. وهي التي تجد نفسها وسط مجموعة خسائر الحياة. إلا أنها لا يمكن أن تتحرك خارج وجود الآخر، الذي قد يكون منتجاً للإلغاء، منتجاً أوليا لـ "أنا" الذكورة، منتجا للإحساس بالتفرد والوحدانية.
***
وإذا ما كان هناك حوار على الرغم من وجود هكذا مفصل أساسي في بنية القصيدة فإنه لا يتشكل ضمن الكائن البشري الواحد. بل كثيرا ما تعمل على صناعة أكثر من طرف قادر على تجاذب الحديث وقيام الحوار والجدل.
في قصائد "ايمان الفحام" الكثير مما ينتمي الى المسرح، والى محاذاة الفن التشكيلي، أو الى السرديات. فتنقلات الشاعرة ما بين "الأنا" و"النحن" وبين الـ "هو" والـ "نحن"، وبين الواقع واللاواقع، والحراك وسط صناعة الفنطازيات، وتصاعد الأفعال كمفروزات تخيلية.
كل هذه الفضاءات أوجبت على الشاعرة أن تفارق سكونية النص الشعري، ولتجد نفسها في القصيدة "كجنس أدبي مستقل، تحاذي أشكالا أدبية أخرى، تستطيع من خلالها إعادة تشكيل الواقع الشخصي والجمعي، وفق حالة من المختلف، وعدم العودة الى الماضي كأفعال هي مفروزات للثوابت. ورغم وجود التناقضات ما بين الحجر/ الأنثى ونرجس/ الذكر، إلا أن الشاعرة لم تعمل على طرح هكذا مفصل التناقض على انه حالة عدائية.
إن قصائد مثل: كن حليفي، ومرثية قلب، وترفق وأنت تقرأها، وصلاحيتي منتهية، واخضرار النافذة، وكل الفصول مداد لك، وانه البحر.. يطرد رغوته عادة؛ قد تشكل هذه القصائد نماذج طيبة لمواقف الشاعرة من الرجل/ من نرسيس من الأنا/ الآخر.
القارئ لمدونات "ايمان الفحام" الشعرية لن يجد الأنثى/ المرأة التي تملا القصائد، ما قد يجده لدى الرجل/ الذكر من حب الذات والإحساس بالفحولة. المرأة هنا كائن قد يكون جزءاً من أثاث الواقع، ولكنها لن تكون كذلك في فضاء اللاواقع.

«3»
الشعر لدى "ايمان الفحام" كائن غير طبيعي/ غير واقعي. كائن لا يقف في فضاء العقلانية؛ لذلك سوف يرى القارئ أن الشاعرة قد لا تتمكن من الإمساك بأعنة القصيدة. تلك التي تمتلك من الفوضى ما يؤهلها لأن تنضوي تحت عنوان قصيدة برية، قصيدة غير مدجنة.
في "نرجس ينام على حجر" تحاول الشاعرة الاستفادة من الأسطورة، عبر إعادة صياغة النص، مستفيدة من اكتشاف الانسان/ نرسيس لنفسه، وعلى الرغم من برمجة كتابة النص أي إن النص هنا لا يمكن أن يكون عشوائيا فإن القصيدة تحاول أن تُخرج بعض أعضائها من خلال قضبان قانون الكتابة.
***
في القصيدة التي منحت معظم مفاصلها كمفتاح بوابة للمجموعة الشعرية، وأعني بها "الحجر"، يحاول الحجر أن يحتفظ بنزاهة مكوناته، ونظافة دواخله، بعيدا عما لوث جسده بأنانية الواقع "الرجل والمرأة"، أو بأنانية اللاواقع/ الأسطورة أو بالحجر ونرجس.
الحجر هنا يمثل المعادل الموضوعي لأنانية نرسيس، وإذا ما كان الحجر هو المرأة/ الأنثى، فنرسيس هو الرجل/ الذكر.
عبر هكذا معادلة تعمل الشاعرة على صناعة القصيدة تلك التي كثيرا ما تحتفي بوجود الآخرين، فما من قصيدة من تلك "التسع والعشرين" التي تشكل جميع تأثيثات ديوان الشاعرة "ايمان الفحام" تعمل على الانتقاص من الآخر، سواء كان هذا الآخر/ الرجل "أباً" أو "صديقاً" أو "حبيباً".
موضوع المرأة والرجل، أو الذكر والأنثى، هو ما سوف يتحقق منه القارئ وهو ما سوف يشكل محاور ومواضيع جميع القصائد.
***
القارئ البريء ليس بمقدوره أن يضع يده على ما تروم الشاعرة قوله.. رغم أفعال الشاعرة التوضيحية وإصرارها على استفزاز هذا القارئ وسواه، عبر صورة "نرسيس" وهو يعاين الكائن الآخر المختبئ في عتمة نفسه، على صفحة الماء متكئاً على الحجر.
وعبر الصفحة الأخيرة من الغلاف، حيث صورة الشاعرة وقصيدة "الحجر"، وقد يكون الإهداء  إهداء الشاعرة كتابها الشعري الى أبيها. الأب الذي كان قارب نجاة في حياة الشاعرة. وكذلك المقدمة التي لم تكن ممتلكة للعنوان.
الشاعرة تحاول أن تمد يد العون/ المعرفة للقارئ، إلا أن القارئ الذي يعاين أمامه كائناً عرياناً يعاين نفسه في بركة ماء.. وليقرأ كلاماً عن الحجر الذي لا يجد نفسه مع المرأة/ الأنثى أو الرجل/ الذكر.
***
نضوج الأنثى في معظم القصائد يمنحها القدرة على كشف أسلحة الآخر، حيث لا يجد بين يديه عند المواجهة سوى الاغتراف من أنانية الكائن/ الفحل، الكائن الذي كثيراً ما يكون أمام ناظري الشاعرة على شكل (ذئب).
"ها هو ذئبك
يسحل الشتاء
يتدفأ
أعوامه المقبورة
بحطام أسميته
ولأن الشاعرة تقف موقف المدافع عن المرأة/ الأنثى، واضعة إصبعها على الكائن المفترس، الذي كثيرا ما يتماهى خلف الانسان/ الرجل، خلف الحجر.
"يتهمني
بأني تصعلكتُ كثيراً
ولم أنجب له ذئباً
ولم أرم أشيائي القديمة"
وإذا ما كان هناك ذئب، فالحقيقة المفترضة/ الواقع المتوقع تقول يجب أن يكون هناك بالمقابل كائن اسمه يوسف.
واذا ما كان هناك وجود ليوسف؛ توجب على القارئ أن يصنع مكاناً لامرأة جميلة اسمها "زليخا".
وزليخا هنا تشكل بؤرة حراك للمرأة/ الأنثى المتشكلة من دواخل الشاعرة. فالشاعرة "ايمان الفحام" لا تتحرك في فضاء القصيدة وفق الكائن/ المرأة فحسب، بل إن مفصل المرأة/ الأنثى يشكل منطلقاً للكثير من مفاصل القصيدة، أو بالأحرى القصائد.
فلغة القصيدة لغة فيها من الجمال وبهائه الكثير مما يمنح صفة الأنوثة للقصيدة التي تكتبها. فـ "ايمان الفحام" تعلن ومنذ البداية الصفحة السابعة:
"ولطالما
ننفق من أنوثتنا الكثير لكم
عليكم أن تسألوا أنفسكم
أنّى لكم
هذا الثراء".

«4»
في قصيدة "بداوة"، وقصيدة "تحنيط"، وقصيدة "ديك الفرح"، تعمل الشاعرة على حالتي التشريح/ العمق والتقشير/ السطح لكشف خيانات الكائن الذي من الواجب أن يكون منتمياً للإنسان، إلا انه لم يكن كذلك. فقد كان منتمياً لأفكار وثوابت تنتمي للفحل، أكثر من انتمائها للنماء. واذا ما كانت قصيدة "وصايا أبي" كعنوان ينتمي للكشف عن الأب/ الذكر، فإن الشاعرة تكشف عن موقف مغاير للطبيعة البشرية:
"لا أحتاج أن انطمس
في عوالمكم الهشة
ومرايا أبي..
تخبطني.."
والمرايا هنا "مرايا نرسيس" الكائن المتشكل من نسيج "الأنا" المنتمية الى الإحساس بالتفوق والقوة، والإحساس بأن المنقذ والمخلص والحامي، والمدافع، والمؤهل الوحيد لإعادة تشكيل الحياة:
وعلى الرغم من محاولات الشاعرة في توجيه القارئ، على انه أمام نص/ قصيدة، وما عليه سوى أن يستقبلها كوحدة شعرية؛ إلا أن بناء القصيدة بين يدي "ايمان الفحام" يتم على شكل وحدات، تمتلك كل واحدة منها بنيتها التقنية الكاملة.
في العديد من القصائد كما هي الحال في: "وثمة قلق"، و"مرثية قلب" تستخدم الشاعرة الترقيم من أجل صناعة الوحدات الشعرية المكونة للقصيدة. كما إنها في قصائد أخرى تستخدم التكرار/ اللازمة، مع كل مقطع/ كتلة كما هي الحال مع مجموعة قصائد "كل الفصول مداد لك"، واستخدامها لتعويذة/ لازمة "امنحني" مرات عشر، أو لكلمة "يلزمني" سبع مرات في قصيدة "طفولة من شمس وحلوى".
أو استخدامها لضمير المتكلم "أنا" مضافا لها اسم، أو صفة، أو خبر مثل "أنا قطرة أنا صفحة ماء أنا امرأة أنا مطرك أنا أرضك... و"ايمان الفحام" كائن انساني يحمل قلق/ خوف الشاعرة على الجمال واعتزاز الأنثى بقدراتها، امرأة لا يقر لها قرار مع الرجل القامع ولا تتردد لحظة الكتابة من اختراق جدار المتعارف عليه.
إنها تشكل روح القصيدة في بحثها عن "أنا" الأنثى الطيبة، القادرة على صناعة الجمال وسط مفاصل القبح.
فالقصائد لا تنضوي تحت لواء التماثل إلا عبر احتفاظها بالغرابة، غرابة الصورة، والجملة، غرابة الأنثى بعدم احترامها للقناعة بما يوفر الذكر للمرأة/ الأنثى.
من الممكن أن يكتشف القارئ الكثير من المباهج عبر قراءته لشعر "ايمان الفحام" انه الاختلاف عن سواها من الشاعرات، حيث تتحول الكتابة التي تمتلك خصوصية المبدع الى فروض لا يجوز عبورها من غير الإحساس بالإثم. إنها تعرف جيداً ماذا يريد القارئ من القصيدة، وماذا تريد القصيدة من حراك الواقع.
بل إن القصيدة ذاتها باتت هي الأنثى، بكل عدم الثبات والوقوف في المتغير.
القارئ بين يدي "ايمان الفحام" قارئ مدلل، رغم اتهام الكثير من فصيلته بالذكورية، وبالذئبية كذلك. ولأن الواقفين خارج هكذا توصيف كثيرون، فإن بياض الموقف، موقف الشاعرة، موقف القصيدة، بياض جامح، لا يتخلى عن الكائن/ الرجل البعيد عن النرجسية، بل يقف الى جانبها.
***
«5»
قصيدة "ايمان الفحام" عمل غير مخاتل، من الممكن أن تتشكل عبره بركة الماء التي يرى كل من الرجل/ الفحل والمرأة/ الأنثى نفسيهما بعيداً عن مرض "الفيولا" مرض التضخم والتشبه بالفيلة؛ حيث تتمسك المرأة بأنوثتها ويتخلى الرجل عن طغيانه/ فحولته.
واذا ما كانت الذكورة في بلد شرقي، ديني، بدوي، عربي هي التاريخ الفعلي لصناعة الإلغاء والشطب وتدمير الآخر/ الأنثى تحديداً، فإن الأنوثة هي تاريخ "نرجس ينام على حجر" وهي محاولة لإعادة تشكيل فضاء المرأة، وذلك عبر ما تحمل من قصدية في الكتابة.
***
المرأة لدى "ايمان الفحام" المرأة/ الأنثى حصرياً تشكل واحداً من أهداف الكتابة. إلا أن القارئ لابد له من أن يواجه هدفاً أكثر عمقاً واتساعاً، إنه كتابة القصيدة المحملة بالعديد من الأغراض، تلك التي تقف خارج مواضيع وثيمات وأهداف أكثر من شاعرة، بل وأكثر من شاعر. تلك القصيدة المنفتحة على بهاء العالم، بعيداً عن تحويل الأنثى الى دمية، أو الى لعبة.
قد لا يتقبل الرجل/ الذكر هكذا لعبة جميلة تنتمي الى الخلق والإبداع أكثر من انتمائها لتبعية قصيدة الغزل التي تعود القارئ الكلاسيكيعلى استقبالها.
في قصيدة "لمن ستترك هذا الحطام"؟ آخر القصائد؛ تشيد الشاعرة معادلة البقاء والفناء، معادلة القحل والنماء. بعيدا عن تحويل الرجل/ الذكر الى هدف معادٍ مستهدف. وبعيدا عن التخلي عن موقع كل من المرأة والأنثى. حيث لا يمكن أن يكون الكائن الأنثوي إلا الحجر الأول والأخير في تشكيل بنية بقاء العالم.
إنها "الحجر" وأسراره في هندسة قصر الخورنق/ قصر الحياة. هذا الحجر الذي ما أن يتحرك/ يلغي، حتى ينهار هذا البناء.