ادب وفن

مراسيم خاصة 2 / مزهر بن مدلول

كانت حرارة الجوع اشدّ من حرارة الخوف، فلا طحين ولا شاي ولا تبغ في هذا الوادي، وبدت وجوه الانصار بملامح غريبة كأنها مومياءات في مقبرة فرعوية، اجسادهم واهنة ونظراتهم مشدوهة وخالية من الحياة، بينما المشهد الجبلي الصامت يوقظ المزيد من حالات اليأس والاحباط.
مرّت ايام كثيرة ونحن على هذه الحال، احلامنا الوردية التي كانت ملاذنا الوحيد لم تصمد طويلا، وبدأت تخمد وتتلاشى شيئا فشيئا، ورغم اننا بذلنا جهدا كبيرا لتحوير شروط حياتنا في محاولة لتدجين هذا الواقع المرّ ليكون حليفا، الاّ ان الجبل كان قاسيا، صخرا جلمدا لايتحرك ولاينال منه جوع ولازمهرير وكأن مواكب الزمان مرّت به من دون ان تلتفت اليه.
عندما عدنا من المناطق الايرانية لكي نبحث عن اماكن بديلة بعد انسحابنا من قنديل، لم يكن عددنا كبيرا، فقد كنّا لانزيد عن عشرة من الانصار، اتذكر في احدى الاستراحات وفي مغارة ضيقة كان يجلس الى جانبي الفقيد الدكتور (ابو تانيا)، قلت له: ( لقد مشينا ليالي كثيرة معتمة ومتواصلة في الاراضي التركية، وعملنا في بشتاشان في نفس المكان، وها نحن الان معا تحت رحمة عاصفة ممطرة وسيول جارفة وجوع لايرحم)، التفت علي بابتسامته المعهودة ووجهه الوسيم قائلا: (ابو هادي مشتهي نفر كباب)!.
بعد ان وصلنا الى منطقة (ليلكان) في ظهر اليوم الثاني، استطلعناها جيدا، ثم قررنا ان نستقر فيها، وكان على النصير (مام خضر روسي) ان يبعث خبر الى قيادة الحزب بأنّ هذا المكان مناسب لمقراتنا الجديدة، تتميز هذه المنطقة بوعورة جبالها وكثرة مياهها واشجارها كما انها بعيدة عن (قوات السلطة وقوات اليجتي) وتقع في ابعد نقطة من المثلث الحدودي الذي تشعر فيه بأنك في مكان مقطوع عن العالم أو أنه لاينتمي الى جغرافية الارض.
بدأتْ اعدادنا تتزايد بمرور الايام، الكثير من (اليساريين الايرانيين) التحقوا بنا، مفارز قادمة من الخارج من جهة (بهدنان) وصلت الينا ايضا، فقفز عددنا من عشرة ليناهز المائة نصير ونصيرة، مما ضاعف من حيرتنا ومتاعبنا في توفير جميع المستلزمات الضرورية لهذا العدد الكبير، كان الطبيب الفقيد (ابو تانيا) يشدّ من ازر المريض فهو المسؤول عن الصحة العامة وفي (عليجته) لايتوفر اكثر من حبّات قليلة من المسكنات!، و(مام خضر) المسؤول الاول، و(ملازم احسان) المسؤول العسكري ، وكانت مسؤوليتي الحصول على الغذاء.
كنّا ننزل الى (الده شت) الذي ينتشر فيه (الجحوش) ويقع في مرمى نيران القوات النظامية، نمشي نهارا كاملا في سبيل ان نبتاع كيسا من الطحين او نصف كيس، او الحصول على بضع حفنات من العدس، او قليل من التبغ (جكاير اللّف) من اصحاب (الرشمالات) الرعاة الذين ابتلوا بالمجاعة التي حلّت بنا على حين فجأة، اتذكر مرة وكنت بحاجة الى ان اضحك، الضحك الذي افتقدناه من زمان، ذلك الضحك الحقيقي الذي يفيض عن حدّه ويثلج الصدور!، ففي أثناء عودتنا من ذلك (الده شت) قبل غروب الشمس، وكنّا مسرورين بحصولنا من احد القرويين على كمية من الجبن (الجاجي) الذي نطلق عليه اسم ال( تي ان تي) بسبب رائحته الكريهة، وصلنا الى تلة يلتف حولها الطريق الرئيسي، ومنه تخرج عدة مسالك بأتجاهات مختلفة، كان علينا ان نختار الطريق الصح، فأي خطأ في ذلك قد يكلفك حياتك، في هذا المكان ضاعت المفرزة، ومن دون ان اخبر احد بأنني لا استطيع العثور على الطريق، رحت ادور حول التلة لمرات كثيرة، ننطلق من النقطة التي نحن فيها ونعود اليها مرة اخرى، حتى شعر الانصار بأننا ندور في نفس المكان فجلسنا ندخن (اللف) وتعالت قهقهاتنا وبدأت التعليقات والنكات الجميلة رغم التعب والجوع، ومازلنا الى الان انا والنصير (ابو كاوة) نتذكر ذلك الموقف ونضحك كلما التقينا.
لاتوجد شجرة مثمرة في هذا الوادي، فلا عنب ولاجوز ولاتفاح على العكس من مناطق كثيرة في جبال كردستان وهذا مازاد من وحشة المكان، كنّا ننتشر في فضاء محدود اثناء النهار وعندما يحل الليل ويعم السكون نفترش الاغصان وننام تحت اشجار البلوط، في الليل كل شيء يختلط في الرأس، في الليل لكل منا عالمه الخاص، عالمه الروحاني الطويل الذي يمارس فيه طقوسه المحببة!، وفي الليل ايضا نخوض صراعا مريرا مع ذواتنا وفي احيانا كثيرة نتواطئ مع الاوهام من اجل ان نستمد القوة وننتصر على شكوكنا ومكامن ضعفنا، نريد ان نشعر بأن خلف هذا الجبل توجد حياة بسيطة ولذيذة ولابد من ان نفوز بمتعتها يوما، كما يوجد هناك من يتذكرنا ويعيش معنا رغم البعد والتضاريس والاسوار.
وها هي السماء تتحدث بفصاحة كبيرة عن ذلك الحلم الجميل، نجومها تلمع كلآلئ مضيئة يتساقط نورها في الوادي، وها هنّ بنات نعش (اربعة يحملن النعش وثلاثة يتبعن الجنازة) كما كانت تقص علينا ذلك جدتي (كَزيرة)، النجوم وحدها تتعرف علينا، تنظر في وجوهنا الميتة وتتعاطف معنا، (عونج ينجمة متعلية وتشوفين)، فطارت ذاكرتي الى الوراء وحلّقت فوق السنين حتى حطّت في الربوع الاولى، في متوسطة 30 تموز، تلك المدرسة التي لايلتحق فيها الاّ ابناء الفقراء والمهمشين من منطقة شارع عشرين في الناصرية، من سماء هذه المدرسة بزغت النجمة، كنت في الصف الثالث المتوسط عندما جاء الفنان (حسين نعمة) الى مدرستنا، دخل صفنا ليطلب من الذين يمتلكون اصواتا مناسبة ليشتركوا في الجوقة!، وبما اننا كنّا في بداية العمر ونعشق المغامرات رفع الكثير منّا اياديهم ايذنا بالموافقة على خوض الامتحان، وكنت واحدا من الذين قبلوا التحدي، اختبرنا حسين نعمة واحدا بعد اخر، توقعت ان يطلب مني ان اغني (الابوذية) لداخل حسن او ناصر حكيم، لكنه قال لي عليك ان تغني المقام العراقي وتبدأ ب( آمان آمان)، لم اسمع بها في حياتي، ضحكت وتلعثمت وتاه صوتي، وبدلا من ان اقول (آمان آمان) قلت (انام انام) فضحك حسين نعمة وفشلت بالاختبار.